سلسلة أنواع القلوب (15) مقامات القلب السعيد (2) مقام منابذة الكذب (2)
د. محمد ويلالي
هوية بريس – الخميس 11 فبراير 2016
ذكرنا في مناسبة سابقة -ضمن القسم الأول من الجزء الرابع عشر من سلسلة أنواع القلوب- أن من مقامات القلب السعيد، مقامَ منابذة الكذب، انطلاقا من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: “ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ، حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلاَ يُسْتَحْلَفُ، وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلاَ يُسْتَشْهَدُ“.
وتبين لنا أن الكذب لا يجلب لقلب صاحبه إلا التعاسة والضنك، وبخاصة حين يصير الكذب فاشيا، أي: سمة بارزة لصاحبه متأصلة، وعرفنا أن منه الكذب على الله، وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى النفس، وعلى الناس. ثم ذكرنا ثلاثة من مخاطر الكذب: أنه يورث استمراء الحيل والغش والخديعة، حتى يطبع على قلب الكذاب، فيصير الكذب له سمة، وعليه علامة، وأنه تزوير وتغيير للحقائق، وأنه يمحق البركة.
ومن هذه المخاطر -كذلك- أنه:
1- استجلاب للصفات الذميمة، واستدعاء للأخلاق السقيمة. قال ابن القيم -رحمه الله-: “ابن القيم: “أصل أعمال القلوب كلها الصدق، وأضدادها من الرياء، والعجب، والكبر، والفخر، والخيلاء، والبطر، والأشر، والعجز، والكسل، والجبن، والمهانة، وغيرها أصلها الكذب. فكل عمل صالح ظاهر أو باطن، فمنشؤه الصدق، كل عمل فاسد ظاهر أو باطن، فمنشؤه الكذب”.
وقال يزيد بن ميسرة: “الكذب يسقي باب كل شر، كما يسقي الماء أصول الشجر”.
ومما يستجلبه الكذب، أن صاحبه يهوى اختلاق النكات الفارغة، والتهويلات الوضيعة، والتهويشات المستهجنة، لا لشيء إلا ليضحك الناس. يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: “وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ الْقَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ وَيْلٌ لَهُ” صحيح سنن أبي داود. قال المناوي -رحمه الله-: “كرره إيذانًا بشدة هلكته؛ وذلك لأنَّ الكذب وحده رأس كلِّ مذموم، وجماع كلِّ فضيحة، فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب، ويجلب النسيان، ويورث الرعونة كان أقبح القبائح، ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف، نهاية القباحة”.
حتى في الهزل يكره الكذب، لأنه مظنة للكذب في الجد. قال عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: “لا يصلح الكذب في جد ولا هزل، ولا أن يَعد أحدكم ولده شيئا ثم لا ينجز له”، وهو يقصد حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه-، الذي قَالَ: “دَعَتْنِي أُمِّي يَوْمًا وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَاعِدٌ فِي بَيْتِنَا، فَقَالَتْ: هَا تَعَالَ أُعْطِكَ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “وَمَا أَرَدْتِ أَنْ تُعْطِيهِ؟”. قَالَتْ: أُعْطِيهِ تَمْرًا. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: “أَمَا إِنَّكِ لَوْ لَمْ تُعْطِيهِ شَيْئًا، كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ” صحيح سنن أبي داود.
لبعضُ جيفة كلبٍ خيرُ رائحةً***من كِذبة المرء في جدٍّ وفي لعبِ
2- الكذب يورث مقت الرب سبحانه، ويعاقب عليه أشد العقاب. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: “أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ، وَإِنَّهُمَا ابْتَعَثَانِي، وَإِنَّهُمَا قَالاَ لِي: انْطَلِقْ .. فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفَاهُ، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِكَلُّوبٍ مِنْ حَدِيدٍ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ، فَيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ.. ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذَلِكَ الْجَانِبُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ، فَيَفْعَلُ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الأُولَى”، فلما سألهما النبي -صلى الله عليه وسلم- عن أمره، قالا له: “إِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الْكِذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ” البخاري.
ورأينا -اليوم- من أنواع الكذب المقيتة، وفنون الشائعات المغرضة، وضروب الصور القبيحة ما يمكن أن يبلغ الآفاق، فيصل إلى الملايين في لحظة واحدة، عبر وسائل التواصل الحديثة، وفي ذلك من المخاطر الجسيمة ما يستدعي التأني والتثبت من الأخبار قبل نشرها وإذاعتها.
ولقد وصلتني رسالة واحدة، فيها من الكذب على الله ورسوله، والاستخفاف بالعقول والنفوس ما ترتعد له الفرائص. افتتحت الرسالة بقول المرسل: “قبل أن تفتح الرسالة، اطلب ما تتمناه”، ثم يأمرك بقراءة الرسالة كاملة”، ويقسم عليك بقوله: “اقرأها بالله عليك”. وبعد ذلك يدغدغ شعورك بقوله: “إن الأحلام تتحقق، أَثبت إيمانك بالرب بإرسالك هذه الرسالة إلى عشرين من أصدقائك، وسترى أنه خلال عشرين دقيقة، سيصلك خبر لطالما رغبت في سماعه، هذه ليست مزحة”، ثم يذكر بعض أسماء الله الحسنى، ويقول بعدها: “لا تخاطر، إنها أسماء الله الحسنى، أرسلها إلى عشرين، وانظر ما ذا سيقع بعد عشرين دقيقة، جرب حتى لو كنت غير مصدق”، وبعدها مباشرة يقول: “أرسل هذه الأسماء الحسنى الخمسةَ إلى أصدقائك، وسترى أكبر مشكلة عندك ستحل بإذن الله تعالى، جرب حتى لو لم تكن مقتنعا بها”، ثم – بعدها – يكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وينسب إليه هذا الدعاء: “يا الله، يا كريم، يا أول، يا أخر، يا مجيب، يا فارج الهم، يا كاشف الغم، فرج همي، ويسر أمري، وارحم ضعفي، وقلة حيلتي، وارزقني من حيث لا أحتسب، يا رب العالمين”، ويقول – كذبا وزورا -: “قال -صلى الله عليه وسلم-: “من قرأ هذا الدعاء، وأخبر الناس به، فرج الله همه”. فأين وجد هذا الكلام؟ وعن أي محدث عرفه؟ ومن أي كتاب نقله؟ والعلماء يقولون: “إن كنت ناقلا فالصحة، أو مدعيا فالدليل”.
وبعد هذا الكذب المفضوح، يخوف القارئ بقوله: “إذا ما قدرت على إرسالها، فاعلم أن الله غني عنك.. في ذمتك إلى يوم القيامة، أمانة في رقبتك”. ولما علم صاحب الرسالة أن ادعاءه مفند، التجأ إلى القَسم فقال: “والله العظيم، أنا بنفسي ما صدقت، وكنت أظن أنها إشاعة”. ويطفح الكيل حين يزعم هذا المفتري، أن هذه الوصفة مجربة، وأن نتيجتها موثوقة، فيقول: “يقال إن هذه الرسالة وصلت عميدا بحريا، فوزعها على اثني عشر شخصا، فحصل على ترقية خلال أحد عشر يوما. ووصلت هذه الرسالة إلى تاجر، فأهملها، فخسر كل ثروته خلال اثني عشر يوما. ووصلت إلى طالب على أبواب الامتحان، فوزعها فنجح”.
لا يكذب المرء إلا من مهانته***أو فعلة السوء أو من قلة الأدب
كل هذا في رسالة واحدة، يعلم الله كم مرةً أرسلت، وكم شخصا صدق بها، فإن وافقت الرسالة خبرا سارا، اقتضته حكمة الله، نسب الفعل إلى الدعاء المكذوب، لا إلى القدر الإلهي، وهي فتنة في عقيدة الناس عظيمة، وإن لم يتحقق شيء – وهذا هو الغالب الأعم – شكك في الأدعية الصحيحة الأخرى، وعزف عنها، وهي فتنة في عبادة الناس جسيمة.
فانظر إلى مفاسد الكذب كم تجني على الناس من المفاسد والشكوك؟ وكم تقلب الحقائق؟ فتجعل الحق باطلا، والباطل حقا.
قال ابن القيم -رحمه الله-: “إياك وَالْكذب، فَإِنَّهُ يفْسد عَلَيْك تصور المعلومات على مَا هِيَ عَلَيْهِ.. فَإِن الْكَاذِب يصور الْمَعْدُوم مَوْجُودا، وَالْمَوْجُود مَعْدُوما، وَالْحق بَاطِلا، وَالْبَاطِل حَقًا، وَالْخَيْر شرا، وَالشَّر خيرا”.
لذلك وجب التثبت من كل خبر وصلك، فإن لم تستيقن صحته، أو لم تظهر لك فائدة نشره، فلا ترسله إلى غيرك، وبخاصة إذا كان كلاما في جنب الله تعالى، أو منسوبا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ“.
قال الحسن البصري -رحمه الله-: “المؤمن وقاف حتى يتبين”.
3- وبالإضافة إلى أضرار الكذب المادية والاجتماعية والنفسية، هناك – أيضا – الأضرار الصحية؛ فقد أثبتت الدراسات الطبية، أن للكذب انعكاسات خطيرة على صحة صاحبه. فالكذاب يعيش توترا وقلقا داخليين، يولدان هرمونا يسمى (الكورتيزون)، وهو مسؤول عن زيادة نسبة السكر في الدم، ويضعف جهاز المناعة، ويزيد من سرعة ضربات القلب، ويرفع ضغط الدم، بالإضافة إلى التعرض للشعور بالتوتر، والاكتئاب، والصداع المتكرر، وقرحة المعدة، والأرق.
إن مضار الكذب لا تنتهي، وآفاته لا تنقضي. قال ابن القيم -رحمه الله-: “وكم قد أزيلت بالكذب من دول وممالك، وخربت به من بلاد، واستُلِبت به من نِعَم، وتعطَّلت به من معايش، وفسدت به مصالح، وغُرست به عداوات، وقُطعت به مودات، وافتقر به غني، وذل به عزيز، وهتكت به مصونة، ورُميت به محصنة.. وأفسد به بين الابن وأبيه، وغاض بين الأخ وأخيه، وأحال الصديق عدوًّا مبينًا، ورد الغنيَّ العزيز مسكينًا”.
عود لسانك قول الخير تحظ به***إن اللسان لما عودت معتاد