توقفنا ـ ضمن سلسلة أنواع القلوب في جزئها الرابع والعشرين ـ عند القسم الثاني من أقسام القلب العزيز، حيث تبينا حقيقة واقع المسلمين اليوم، وما آل إليه أمره من ضعف، وتراجع، وتخلف، وانقسام، واختلاف، وحاولنا أن نسلي أنفسنا ببعض أحداث تاريخ المسلمين، وما كانوا عليه من قوة، وغلبة، وغزة، حتى كان الجيش يسير لنجدة أسير واحد ـ كما حدث في عهد عمر بن العزيز ـ، أو في سبيل نجدة امرأة واحدة ـ كما ذكرناه عن المعتصم في فتح عمورية ـ، أو في سبيل نجدة شعب محاصر ـ كما فعل صلاح الدين الأيوبي في تحرير بيت المقدس ـ، أو عندما يستهزئ العدو بديننا وقيمنا ومبادئنا ـ كما كان سببا في معركة الأراك بقيادة الخليفة يعقوب المنصور.. ذكرنا ذلك تذكيرا بحال سلفنا، وتنويها بفعل العزة في نفوسهم، وما كانوا عليه من شموخ وإباء.
فما الأسباب الكفيلة برجوع هذا المجد، والسبل القاصدة إلى مثل هذا العهد؟
لقد وضع علماؤنا خارطة طريق للنهوض، اشتملت على ثمانية من البنود، تحتاج ـ في تفعيلها والعمل بها ـ إلى أصحاب الهمم العالية، والنفوس الوثابة الغالية:
1ـ طلب العزة من الله وحده، في دينه الذي ارتضاه، وشرعه الذي أرساه، والإيمان بعدم صلاحية غيره من قوانين البشر، وأحكام من يجتهد بمجرد العقل والنظر. قال تعالى: “مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً”، أي: فليطلبها من الله لا مِن سواه. ومصادر التشريع عندنا ترتكز على الوحيين: الكتاب والسنة. قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “إِنَّهُ لاَ يَذِلُّ مَنْ وَالَيْتَ، وَلاَ يَعِزُّ مَنْ عَادَيْتَ” صحيح سنن أبي داود. ويقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “وجُعلَ الذلةَ والصغارَ على من خالفَ أمري” أحمد. كان تميم الداري يقول: “عرفت ذلك بأهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافرًا الذل والصَّغار والجزية”. “وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ”.
وقال رجل للحسن: “إني أريد السِّند فأوصني”. قال: “أعِزَّ أمرَ الله حيث ما كنت يُعزَّك الله”. قال: “فلقد كنت بالسِّند وما بها أحد أعزُّ مني”.
فالعجب للمسلمين، كيف يكون بأيديهم أعظم تشريع، ثم هم تائهون، مقلدون، تابعون؟
بأيديهمُ نُورانِ: ذكرٌ وسُنةٌ *** فما بالهمْ في أحلك الظلماتِ؟
لقد حسم ربنا ـ عز وجل ـ معادلة العزة والتمكين، فجعلها في نصرة دينه، وتطبيق شرعه، فقال تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ”. قال في أبو حيان: “أي: ينصركم على أعدائكم، بِخَلْق القوة فيكم”. وصدق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: “إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ”.
ولقد دلنا ربنا على مآل النصارى الذين نقضوا الميثاق مع ربهم، فانتهى بهم المطاف إلى الانشغال بأنفسهم ونزاعاتهم. قال تعالى: “وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللّهُ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ”.
2ـ صدق الانتماء لهذا الدين، وخلوص الثبات عليه. فشبهات المناوئين كثيرة، ومعاول هدم الدين عديدة، وبريق الحضارة الوافدة يُعشي الأبصار، وأدوات الصرف عن مبادئ الشريعة ألهت الصغار والكبار. فصاحب القلب العزيز لا تحركه العواصف، ولا ترديه الزوائف، ولا تضعفه الكواشف، شامخ بِسَمْتِه، معتز بشريعته، معتصم بربه، فخور بنبيه، لا يخجل من إسلامه، ولا يرضى الدنية في دينه، عالم بأن الذي اتخذ من دون الله معبودا ليكون له عزا، سيقال له يوم القيامة: “ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ”، أي: كنت في الدنيا عزيزا عزة زائفة، كريما كرما مرائيا، تريد المكانة بين الناس، والشهرة بين الخلائق، فذق اليوم العذاب بما كنت عن الله تحيد، وعن سنة رسول الله تميد.
3ـ اليقين بأن عزة الظالمين إلى زوال، لا يملكون دوامها، ولا الاستقامة عليها، فلا نغترُّ بها، ولا نَسقطُ في حمأتها. يقول تعالى: “لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ”. فلا خير في عز محفوفٍ بالزوال، محاطٍ بسوء المآل. ولا ننزعج من زرايتهم بنا، وتعييرهم لنا بتخلفنا وضعفنا، ونسبة ذلك لديننا. قال أبو وائل (أحد الذين شهدوا القادسية المظفرة): “كان الفرس يقولون للمسلمين: لا يَدَ لكم ولا قوة ولا سلاح، ما جاء بكم؟ ارجعوا”. قال: “قلنا: ما نحن براجعين، فكانوا يضحكون من نبلنا”. فكان النصر للمسلمين. ويقول ماكس: “كاد يكون مستحيلاً أن نفهم كيف أن أعراباً منتمين إلى عشائر، ليست عندهم العُدد والأعتدة اللازمة، يَهزمون في مثل هذا الوقت القصير جيوش الرومان والفرس، الذين كانوا يفوقونهم مراراً في الأعداد والعتاد”. “وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا”.
4ـ تعويد النفس على القيام بالأعمال الصالحة، والتصرفات الإيجابية النافعة، حسب ما تقتضيه الأوامر الربانية، والتوجيهات النبوية، لا شرك في الأقوال والأفعال والمعتقدات، ولا بدعة في المعاملات والعبادات. قال تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا”.
ولا تقتصر العبادة هنا على الصلاة والزكاة والصيام والحج، بل العبادة تتعلق بعلاقات الإنسان بغيره، قولا وفعلا، مثل صدق الحديث، وحفظ الأمانة، وأكل الحلال، وعفة النفس، وبر الوالدين، وصلة الرحم، والإحسان للجار، وغير ذلك من الأعمال. قال شيخ الإسلام: “العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والأعمال الباطنة والظاهرة”.
والعزة تقتضي أن يكون العمل صحيحا خالصا لله، لا رياء فيه ولا شبهة، ولا غش ولا خديعة، ولا جور ولا خيانة، ولا حسد ولا وقيعة، ولا غِيبة ولا نميمة.
5ـ الاجتهاد في الاستقلال عن الأعداء، والاستغناء عنهم، وعدم الاعتماد عليهم في شتى شؤون الحياة، مع الاستفادة منهم بما يُسخر لخدمة الدين، وتقوية صفوف المؤمنين، ومع الأخذ بالأسباب المادية الموصلة إلى كل ما فيه قوة المسلمين، لقوله تعالى: “وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ”. قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ: “ألا إن القوة الرمي” مسلم. ويتحقق ذلك بالتمكن من العلوم الدنيوية النافعة، كعلم الطب، والهندسة، والفيزياء، والكيمياء، والرياضيات وغيرها.
إذا انقطعت أطماع عبد عن الورى *** تعلق بالرب الكريم رجــاؤه
فأصبــــح حـــرًا عزة وقناعـــة *** على وجهه أنواره وضيــــاؤه
وإن علقــت بالعبد أطماع نفسـه *** تباعد ما يرجو وطال عنــاؤه
6ـ تحقيق وحدة المسلمين، وتماسكِ صفوفهم، وجمعِ كلمتهم، ودرءِ وَهْنِ الاختلافات والخصومات، ونزع فتيل العداوات والمقاطعات، ورسولنا ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوصي ويقول: “لاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسَدُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا” متفق عليه. وقبل أن يتحقق ذلك بين الأمم والشعوب، يجب أن يتحقق بيننا وبين أنفسنا، ومع إخواننا، وجيراننا، وداخل أسرنا وأحيائنا. “إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ”.
7ـ ترك المعاصي، فما عز قوم وهم في الغفلة منحدرون، وعن الطاعة ساهون، وفي شهواتهم منهمكون. قال تعالى: “وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ”.
يقول الحسن البصري: “مَنْ تَعَزَّزَ بِالْمَعْصِيَةِ، أَوْرَثَهُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ الذِّلَّةَ، وَلا يَزَالُ الْعَبْدُ بِخَيْرٍ مَا كَانَ لَهُ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِهِ”.
واشتهر عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قوله: “ولَذُنوب الجيش عندي أخوف عليهم من عدوهم، فإن الله إنما ينصرنا بطاعتنا له ومعصيتهم له، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية، كان لهم الفضل علينا في القوة”.
8ـ اليقين بأن الله كتب لهذا الدين العلو والرفعة، وكتب لعباده الصالحين العزة والنصرة، تصديقا بموعود الله: “كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي”. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:”لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللَّهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللَّهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللَّهُ بِهِ الإِسْلاَمَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ” رواه أحمد، وهو في الصحيحة. “وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ”.