سلسلة مقالات نقدية حول المنطق: المقالة الأولى: موقف ابن الصلاح من المنطق (1)

30 أغسطس 2024 18:09

هوية بريس – د.محمد أبو الفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

فمن المعلوم أنه قد اختلفت أقوال العلماء في حكم الاشتغال بالمنطق، ما بين مُحَرِّم، ومُجيز، ومُوجب… ومن أشهر العلماء الذين حرموا الاشتغال بالمنطق ابن الصلاح في فتوى له، وتبعه على ذلك النووي رحمهما الله جميعا، ومن أشهر الذين ألفوا في ذم المنطق ونقض قواعده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، له في ذلك جواب مختصر طُبع باسم “نقض المنطق”، ثم طُبع بعنوان “الانتصار لأهل الأثر”، وله كلام مفصل في كتابه “الرد على المنطقيين” والمسمى أيضا ب “نصيحة أهل الإيمان في الرّدّ على منطق اليونان”، والذي اختصره السيوطي في كتابه “جَهْدُ القريحة في تجريد النصيحة”، ثم ألف السيوطي في ذلك مؤلفا مستقلا سماه “صَوْنُ المنطق والكلام عن فَنَّي المنطق والكلام”،  وبَيَّنَ فيه علة تحريم ابن الصلاح لعلم المنطق، وكان قد ألف قبل ذلك كتابا سماه:  “القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق”، وهي فتوى كانت جوابا عن سؤال ذكر فيها أسماء من ذم المنطق من علماء المسلمين، فذكر من غير حصر ما يزيد عن أربعين عالما من مختلف المذاهب الفقهية([1]).

والذي دعاني إلى كتابة هذه الأسطر أنِّي رأيت كثيرا ممن يُدَرِّس المنطق-وبعضُهم من فُضَلاء أهل السنة وعلمائهم- يزعم أن المنطق الذي حَرَّم الاشتغال به وذمه هؤلاء العلماء؛ إنما هو المنطق المشوب بالفلسفة، وأما المنطق الذي خَلَّصه العلماء من أقوال الفلاسفة، وشوائب الفلسفة -بزعمهم- فإنه لا خلاف في مشروعية الاشتغال به، بل حكى بعضهم الإجماع على مشروعيته، وادعوا أنه لا يمنع من دراسته وتدريسه إلا من جَهِلَه، ومن جَهِلَ الشيء عاداه([2]).

فما مدى صحة هذا الزعم؟ وهل المنطق الذي ألف شيخ الإسلام في نقض قواعده، وأفتى ابن الصلاح قبله، والسيوطي بعده بتحريم الاشتغال به هو المنطق المشوب بشبه الفلاسفة فحسب؟ وإذا كانوا قد حرموا المنطق مطلقا فما مستندهم في ذلك؟ وما علة قولهم بتحريم الاشتغال به؟

للجواب عن هذه الأسئلة نحتاج إلى النظر في كلام هؤلاء العلماء بإنصاف وموضوعية، حتى لا ننسب إليهم ما لم يقولوا به، مُتَوِخِّينَ في ذلك الأمانة العلمية، والنقاش العلمي الهادئ، المتجرد من التقليد والعصبية، والأحكام المسبقة …

وهذا كله بغضِّ النظر عن موقف القارئ من الرأي المحرم، فإن نسبةَ الأقوال إلى غير قائليها غيرُ جائز بإطلاق، وتقييدُها بغير مقيد تَحَكُّم باتفاق…

ولتكن البداية مع فتوى ابن الصلاح رحمه الله، المنشورة ضمن فتاواه (1/209):

فتوى ابن الصلاح:

إن الناظر في فتوى ابن الصلاح بإنصاف لا يجد فيها ما يساعد على تقييد فتواه بمنطق (مشوب بشبه الفلاسفة) دون منطق (مُخَلَّص من شبه الفلاسفة) ، بل يجد القرائنَ كلَّها تدل على أن حكمه بتحريم الاشتغال بالمنطق لم يكن مقيدا بالمنطق المشوب بشبه الفلسفة، ومن تلكم القرائن:

أولا: الإطلاق الذي ورد في سؤال السائل، ثم في جواب الشيخ رحمه الله:

حيث قال السائل: “هل الْمنطق جملَةً وتفصيلا مِمَّا أَبَاحَ الشَّارِع تَعْلِيمه وتعلمه، وَالصَّحَابَة والتابعون وَالْأَئِمَّة المجتهدون وَالسَّلَف الصالحون ذكرُوا ذَلِك؟ أَو أباحوا الِاشْتِغَال بِهِ؟ أَو سوغوا الِاشْتِغَال بِهِ أم لَا؟ ”

فالسائل يسأل عن المنطق جملة وتفصيلا، ولا يقصد بالسؤال منطقا دون منطق…

فكان جواب ابن الصلاح رحمه الله بعد ذمه الشديد للفلسفة، قائلا: “الفلسفة رأس السفه والانحلال، ومادة الحيرة والضلال، ومثار الزيغ والزندقة…”.

ثم قال في المنطق مُطْلِقاً الجَوَابَ غَيْرَ مُقَيِّدٍ وَلا مُفَصِّل: “…وَأما الْمنطق فَهُوَ مدْخل الفلسفة، ومدخل الشَّرّ شَرّ، وَلَيْسَ الِاشْتِغَال بتعليمه وتعلمه مِمَّا أَبَاحَهُ الشَّارِع، وَلَا استباحه أحد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَالْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين، وَالسَّلَف الصَّالِحين، وَسَائِر من يَقْتَدِي بِهِ من أَعْلَام الْأَئِمَّة وسادتها، وأركان الْأمة وقادتها قد برأَ اللهُ الْجَمِيعَ من مَعَرَّة ذَلِك وأدناسه، وطَهَّرهم من أوضاره”,

قلت: لو كان ابن الصلاح يفرق بين المنطق المشوب بالفلسفة وبين غيره لَفَصَّل الجواب، ولما أفتى بالتحريم جملة وتفصيلا. ولو طُرِحَ هذا السؤال على المدافعين عن المنطق والمدرسين له لاضطروا للتفصيل والتفريق بين المنطق المشوب وغير المشوب… فلو كان ابن الصلاح يعتقد هذا التفريق لما جاز له أن يُجْمِل الجواب في مقام يقتضي التفصيل…

خاصة إذا كان الحكم يتعلق بِعِلْمٍ يَدَّعِي أَصْحَابُه أنه يعصم الفكر عن الضلال، وأنه للجنان بمنزلة النحو للسان!!!

وبالأخص إذا علمنا أن المنطق في زمن ابن الصلاح (643هـ) يزعم المدافعون عنه أن العلماء وعلى رأسهم أبو حامد الغزالي (505ه) كانوا قد جردوه من شبه الفلاسفة، وردوها عليهم كما فعل الغزالي في كتابه: “تهافت الفلاسفة” الذي رد فيه على شبه الفارابي وابن سينا، واللَّذَيْن هما أبرز الفلاسفة المنتسبين للإسلام، الذين اشتغلوا بالمنطق وألفوا فيه.

فابن الصلاح لم يفرق بين مشوب وغير مشوب، ولكنه علل حكمه بكون المنطق مدخلا للفلسفة، ولو كان يقصد بحكمه المنطق المشوب بشبهها، لقال: “المنطق المخلوط بشبه الفلاسفة…”، لكنه قال عوض ذلك ” المنطق مدخل للفلسفة“…

ثانيا: قول ابن الصلاح: ” المنطق مدخل للفلسفة”: يدل أن مستنده في التحريم هو سد الذريعة؛ لأن المنطق هو آلة الفلسفة وعلم الكلام، وتعلم الاشتغال بهذه الآلة يفتح الباب لاستعمالها من أجل الخوض فيما خاض فيه الفلاسفة من المباحث الفلسفية. كما لو علَّمتَ إنسانا كيفية استعمال آلات النجارة، فإن ذلك يفتح له باب استعمالها عندما تُتاح له الفرصة، وكما لو علمت إنسانا السياقة والسباحة فإنه يكون مُتَشَوِّفاً ومُتَشَوِّقاً إلى تطبيق ما تعلمه، مع علمه بما في ذلك من المخاطرة؛ ولهذا حرم الشرع تعلم السحر، بل جعل مُجَرَّدَ تَعَلُّمِه كُفْراً، كما قال تعالى:﴿وَمَا يُعَلِّمَٰنِ مِنَ اَحَدٍ حَتَّيٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ﴾[البقرة: 101]، وذلك لأن تعلمه وسيلة إلى إعماله، والوسائل لها أحكام المقاصد… فيظهر من هذا أن فتوى ابن الصلاح مبنية على فقه عميق، ونظر بعيد في العواقب والمآلات؛ وذلك أنه نظر إلى عاقبة من خاض في المنطق من الفلاسفة فوجده قد انتهى بهم إلى الكفر والزندقة، ونظر إلى من خاض فيه من المتكلمين فوجده قد انتهى بهم إلى التخبط والحيرة، مع أنهم قصدوا بالدخول فيه ابتداءً الذب عن الدين والرد على الفلاسفة، فلا هم للدين نصروا، ولا هم للفلاسفة كسروا؛ بل إنهم قد أقروا أن علم الكلام، -والمنطق أداته وآلته- لا يتوصل به إلى اليقين، بل يوقع في الحيرة والتخبط وفي ذلك قال الغزالي في سياق كلامه عن علم الكلام: ” … ‌وأما ‌منفعته فقد يُظَنُّ أن فائدتَه كشْفُ الحقائق، ومعرفتها على ما هي عليه، وهيهات!! فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من مُحَدِّث أو حَشْوِيّ ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا، فاسمع هذا ممن خبر الكلام، ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة، وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود”([3]).

ونحو ذلك قوله في معرض كلامه عن علم الكلام: ” … والدليل على تضرر الخلق به -يعني علم الكلام- : المشاهدة والتجربة، وما ثار من الفتن بين الخلق منذ نبغ المتكلمون، وفشت صناعة الكلام مع سلامة العصر الأول من الصحابة رضي الله عنهم عن مثل ذلك”([4]).

وفي ذلك قال الفخر الرازي أبياته الشهيرة:

نِهَايَةُ ‌إِقْدَامِ ‌الْعُقُـــــــــولِ عِقَــــالُ***وَأَكْثَرُ سَعْيِ الْعَالِمِينَ ضَلَالُ
وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَـــا***وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَــــــــــــالُ
    وَلَمْ نَسْتَفِدْ مَنْ بَحْثِنَا طُولَ عُــمْرِنَا***سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ قِيلَ وَقَالُوا ([5])

فإذا كان هذا كلامَ الغزالي (505ه) والرازي (606ه) بعدما بلغا الغاية في الكلام والمنطق، فلا عجب بعد ذلك أن يُفتي ابن الصلاح (643ه) بعدهما بتحريم الخوض في علم ضرره أكبر من نفعه، ونهايته الحيرة والتخبط والضلال.

ولا يقولن قائل هذا الكلام يتوجه إلى “علم الكلام”، وموضوعنا “المنطق”؛ فإنه إذا كان “علم الكلام” – كما قال ابن خلدون-: “علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية”([6])؛ فإن المنطق هو أداة ذلك الحجاج وآلته، فالكلام والمنطق صنوان لا يفترقان، بل هما أَخَوَا لِبَان، وأُمُّهُمَا فلسفة اليونان، ولهذا قرن بينهما ابن الصلاح في الفتوى، مُلحقا الوسيلة بمقصدها في الحكم، معبرا عن ذلك بقوله: “مدخل الشَّرّ شَرّ“.

وفي فتوى ابن الصلاح قرائن أخرى كلها تدل على ذمه للمنطق مطلقا من غير تفصيل، كما سيأتي معنا في المقال التالي بحول الله…

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) الحاوي للفتاوي1/300.

([2]) الذي أوقع بعض أهل السنة في هذا القول هو حملهم لكلام الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي في مذكرته على إطلاقه، وسيأتي الجواب عن ذلك إن شاء الله.

([3]) إحياء علوم الدين 1/97.

([4]) “إلجام العوام عن علم الكلام” (ص94)، وهو من آخر ما كتب قبل وفاته بنحو أسبوعين.

([5]) أقسام اللذات له ص 262.

([6]) أقسام اللذات له ص 262.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M