سلسلة مقالات نقدية حول المنطق المقالة الثانية: موقف ابن الصلاح من المنطق-تابع(2)

06 سبتمبر 2024 21:01

هوية بريس – د.محمد أبو الفتح

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد:

فإن الغرض من هذه المقالات هو تصحيح خطإٍ منتشر بين شراح متون “المنطق” يزعم أصحابُه أن من حرم المنطق وعابه من العلماء -مثل: ابن الصلاح، والنووي، وابن تيمية، والسيوطي- إنما قصدوا بالتحريم: المنطق المشوب بشبه الفلاسفة، وأما المنطق الذي يُزْعم أنه سالم من ذلك فيحكون الإجماع على مشروعيته. ولكن عند تأمل فتاواهم وما عللوا به حكمهم على المنطق يتبين بطلان هذا الزعم. وأنا هنا لست بصدد بيان موقفي من تعلم المنطق([1])، وإنما المقصود تحقيق نسبة الأقوال إلى أصحابها، والوقوف على ما عللوا به حكمهم على المنطق. وقد سبق معنا في المقال السابق ذكر القرائن من كلام ابن الصلاح -رحمه الله- التي تدل على عدم تفريقه في الحكم بين منطق مشوب وغير مشوب، وقد ذكرت قرينتين:

1-القرينة الأولى: الإطلاق الوارد في السؤال والجواب، وتقييدُ الكلام بغير مُقَيِّد تَحَكُّم.

2-القرينة الثانية: تعليل ابن الصلاح الحكم بكون المنطق مدخلا للفسلفة، فلو كان يقصد المشوب بشبه الفلاسفة، لعلل الحكم بقوله: “المنطقُ مشوبٌ بشبه الفلاسفة”، عوض قوله: “مدخلٌ للفلسفة”؛ مما يدل على أن ابن الصلاح أعمل في فتواه سد الذريعة كما تقدم بيانه في المقال السابق.

وفي هذا المقال أواصل ذكر القرائن المؤكدة لعدم تفريق ابن الصلاح بين منطق مشوب وغير مشوب:

3-القرينة الثالثة: استنكار ابن الصلاح استعمال “المصطلحات المنطقية” في المباحث الشرعية:

حيث قال جوابا على سؤال السائل: “وَهل يجوز أَن يسْتَعْمل فِي إِثْبَات الْأَحْكَام الشَّرِيعَة الاصطلاحات المنطقية أم لَا؟ وَهل الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مفتقرة إِلَى ذَلِك فِي إِثْبَاتهَا أم لَا؟”

قال -رحمه الله- : “وَأما اسْتِعْمَال الاصطلاحات المنطقية فِي مبَاحث الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة فَمن الْمُنْكَرَات المستبشعة، والرقاعات المستحدثة، وَلَيْسَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة -وَالْحَمْد الله- افتقارٌ إِلَى الْمنطق أصلا “.

قلت: كلام ابن الصلاح هنا عن المصطلحات المنطقية نفسِها، وليس عن شبه الفلاسفة التي تخالط المنطق، فابن الصلاح سدَّ ذريعتها أيضا، ولم يقل :”لا مشاحة في الاصطلاح”، ولم يقل: “هذه مجرد تعاريف واصطلاحات لا ضرر فيها”، ولم يقل: “وأي ضرر في تعريف التصور والتصديق؟!” مكتفيا بما يظهر لقاصر النظر بادي الرأي من كونها تعاريف بريئة؛ ولكنه نظر في العواقب والمآلات؛ وذلك لأن الواقع قد أثبت أن استعمال المنطق في المباحث الشرعية يؤدي إلى البدعة في الأصول، وإلى الخطإ في الفروع، كما قال السيوطي: “من أراد تخريج القرآن والسنة والشريعة على مقتضى قواعد المنطق لم يصب غرض الشرع ألبتة، فإن كان في الفروع نُسِب إلى الخطأ، وإن كان في الأصول نُسِب إلى البدعة”([2]).

4-القرينة الرابعة: انتقاد ابن الصلاح لحدود المنطق وبراهينه التي يتباهى بها أصحابه:

قال في جوابه: “… وَمَا يزعمه المنطقي للمنطق من أَمر الْحَدّ والبرهان فقعاقع قد أغْنى الله عَنْهَا بِالطَّرِيقِ الأقوم والسبيل الأسلم الأطهر كُلَّ صَحِيح الذِّهْن ، لَا سِيمَا من خدم نظريات الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة”.

قلت: انتقد ابن الصلاح الحدود والبراهين المنطقية من وجهين:

-الوجه الأول: أنها “قعاقع”: في إشارة إلى ما فيها من تعقيد وركاكة في العبارة…

وخذ على سبيل المثال قولهم في أمثلة القياس الاستثنائي: “كلما كانت الشمس طالعة كانت الأرض مضيئة، ولكنَّ الشمس طالعةٌ؛ فالأرض مضيئة”. ونحو ذلك من الكلام الذي يُشْعِرُك أَنَّكَ أمام ترجمة حرفية ركيكة.

-الوجه الثاني: عدم الحاجة إليها: في إشارة إلى أن ما صح منها يدركه صحيح الذهن بفطرته.

وفي هذين الوجهين انتقادٌ وهدمٌ للمنطق جملةً وتفصيلا، بتصوراته وتصديقاته؛ وذلك لأنه انتقد الحدود التي هي طريق إدراك التصورات، وانتقد البراهين التي هي طريق إدراك التصديقات…

5- القرينة الخامسة: رد ابن الصلاح على من يدعي افتقار العلوم الشرعية إلى المنطق:

قال رحمه الله: ” وَلَقَد تمت الشَّرِيعَة وعلومها وخاض فِي بحار الْحَقَائِق والدقائق علماؤها حَيْثُ لَا منطق وَلَا فلسفة وَلَا فلاسفة

قلت: وأما المهوسون بالمنطق فيدعون أنه ميزان العلوم جميعها، وأن العلوم كلها مفتقرة إليه، وهو غير مفتقر إليها، بل زعم غلاتهم أن من لم يشتغل بالمنطق فلا يوثق بشيء من علومه…

كلُّ هَذِه التهاويل نسفها ابن الصلاح بالتنبيه إلى أن فطاحل العلماء في كل علم من العلوم الشرعية قد بلغوا الغاية فيها، وذلك قبل أن تُتَرجم كتب المنطق والفلسفة في عهد الدولة العباسية، نعم! مِن هؤلاء العلماء من أدرك زمن الدولة العباسية لكنه لم يدرس المنطق ولا عرفه حتى لقي الله؛ ومن هؤلاء العلماء الفطاحل، الذين بلغوا الغاية في تخصصاتهم، والذين عَوَّل عليهم في فنونهم كل من جاء بعدهم: شموس القراءات العشرة، وأئمة المذاهب الأربعة، وحفاظ الحديث الجهابذة، وأساطين اللغة العربية…

6-القرينة السادسة: رد ابن الصلاح على من يدعي الاشتغال بالمنطق لما فيه من الفائدة المتوهمة:

قال رحمه الله: ” وَمن زعم أَنه يشْتَغل مَعَ نَفسه بالْمَنْطق والفلسفة لفائدة يزعمها فقد خدعه الشَّيْطَان ومكر بِهِ”.

قلت: في كلامه رحمه الله إشارة إلى الرد على من يزعم أن المنطق عظيم الفائدة، وأنه للجنان بمنزلة النحو للسان، وأنه يعصم الفكر عن الزلل والهذيان…

ومما يدل على صدق كلامه رحمه الله:

-أن المنطق الأرسطي لم يعصم واضعَه -أرسطو- من الكفر والضلال، ولم يمنعه من القول بقدم العالم، ولا عصمه من السحر وعبادة الأوثان…

-أنه قد اشتغل بالمنطق فلاسفة المسلمين بدعوى الرد على فلاسفة اليونان الملحدين فلم يعصمهم من الكفر والزندقة، حتى وُجد منهم من ألف في السحر وعبادة النجوم مثل الفخر الرازي قبل توبته، ووُجد منهم من يقول بقدم العالم، وينكر علم الله بالجزئيات، وينكر معاد الأبدان كابن سينا، وَوُجد منهم من يزعم أن الفيلسوف أكمل من النبي كالفارابي الملقب عندهم بالمعلِّم الثاني…

-أنه قد اشتغل بالمنطق المعتزلةُ ليردوا على الفلاسفة فما عصمهم المنطق من الغواية والضلالة، وحملهم على إنكار أسماء الله وصفاته بدعوى تحقيق التوحيد، وإنكار القضاء والقدر بدعوى تنزيه الله عن الظلم…إلى غير ذلك من أصولهم الفاسدة.

-ثم اشتغل بالمنطق الأشاعرةُ ليردوا على المعتزلة فأفضى بهم ذلك إلى الانحراف عن الجادة، وعدل بهم عن سبيل السلف الصالح، فعطلوا صفات الله الذاتية بدعوى توحيد الذات، وعطلوا صفات الله الفعلية بدعوى تنزيه الله عن الحوادث، وأنكروا علو الله على خلقه، واستواءه على عرشه….

فكيف يوصف علم هذا حاله بأنه ميزان العقول، وأنه يعصمها من الانحراف والزلل في باب المعقول…

7-القرينة السابعة : أن ابن الصلاح قد ختم فتواه بما يؤكد الصلة الوطيدة بين المنطق والفلسفة: ولم يفرق بينهما في الحُكم، مع أن السائل سأل عن كل واحد منهما، فقال: “…وَمَا الْوَاجِب على من تلبس بتعليمه وتَعَلُّمِه متظاهرا بِهِ (يعني المنطق)؟ مَا الَّذِي يجب على سُلْطَان الْوَقْت فِي أمره؟ وَإِذا وجد فِي بعض الْبِلَاد شخص من أهل الفلسفة مَعْرُوفا بتعليمها، وإقرائها، والتصنيف فِيهَا، وَهُوَ مدرس فِي مدرسة من مدارس الْعلم، فَهَل يجب على سُلْطَان تِلْكَ الْبِلَاد عَزله وكفاية النَّاس شَره؟”

قال رحمه الله: “…فَالْوَاجِب على السُّلْطَان -أعزه الله وأعز بِهِ الْإِسْلَام وَأَهله- أَن يدْفع عَن المسملين شَرّ هَؤُلَاءِ المشائيم (يعني الفلاسفة)، ويُخرجهم من الْمدَارِس، ويبعدهم، ويعاقب على الِاشْتِغَال بفنهم، ويعرض من ظهر مِنْهُ اعْتِقَاد عقائد الفلاسفة على السَّيْف أَو الإسلام؛ لتخمد نارهم، وتنمحي آثارها وآثارهم، يسر الله ذَلِك وعَجَّله! وَمِن أوجب هَذَا الْوَاجِب عزلُ من كَانَ مدرس مدرسة من أهل الفلسفة والتصنيف فِيهَا والإقراء لَهَا، ثمَّ سجنه، وإلزامه منزله، وَمن زعم أَنه غير مُعْتَقد لعقائدهم فَإِن حَاله يكذبهُ وَالطَّرِيق فِي قلع الشَّرّ قلع أُصُوله، وانتصاب مثله مدرسا من العظائم جملَة . وَالله تبَارك وَتَعَالَى ولي التَّوْفِيق والعصمة وَهُوَ أعلم”.

قلت: السائل سأل عن حكم من يُعَلِّم المنطق والفلسفة، فجاء جواب ابن الصلاح شديدا فيمن يُعَلِّم الفلسفة، ولم يصرح بحكم من يُعَلم المنطق؛ وذلك لأنه يعتبر المنطق مدخلا للفلسفة، و”مدخل الشر شر“-كما تقدم من كلامه-، فهما عنده مرتبطان ارتباطَ العلة بمعلولها، والوسيلة بمقصودها.

ومما يدل على عدم إمكان التفريق بين المنطق والفلسفة:

-أن واضع المنطق هو الفيلسوف اليوناني: أرسطو، وهذا مما لا خلاف فيه.

-أن أرسطو وضع قواعد منطقه بناءً على فلسفته، ومن يظن أن المنطق الأرسطي منفصل عن فلسفته فهو واهم أو غافل… بل هو مرتبط ارتباطا وثيقا بأصوله الفلسفية ، وبمذهبه الميتافيزيقي([3]).

-أن المنطق يعتبر جزءا من الفلسفة عند طائفة من الفلاسفة ، وآلة لها عند آخرين([4])، ولا تناقض بين القولين، فهو منها وإليها.

-أن فساد أصول الفلاسفة يرجع إلى فساد القواعد المنطقية التي بنوا عليها فلسفتهم، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ([5]).

وبالجملة فالذي يروم الفصل بين المنطق والفلسفة كالذي يريد أن ينفي الولد عن أمه الشرعية، فأنى له ذلك، وقد حملته في بطنها، وسقته من ثديها حتى نبت لحمه، ونشز عظمه من لبنها، وانتقلت إليه صفاتها وَجِينَاتُها؟!  فمن يدعي تخليص المنطق من شوائب الفلسفة إنما يقصد تجريده من شبه الفلاسفة وكفرياتهم الظاهرة، والتي ربما امتزجت بالقواعد المنطقية عند التطبيق والتمثيل، وأما ما هو كامن في تلك القواعد نفسها من جذور فلسفية فيستحيل تخليص المنطق منها، ولا يُؤْمن أن تظهر تلك الشوائب مرة أخرى، تماما كما تختفي بعض صفات الآباء في الأبناء، ثم سرعان ما ينزعها عرق فتظهر في الأحفاد والأجيال اللاحقة…

خاتمة: كان هذا المقال والذي قبله قراءة تحليلية لفتوى ابن الصلاح حول حكم الاشتغال بالمنطق، وفي المقال الآتي بحول الله أنتقل إلى بعض ما كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية لنرى حقيقة موقفه من المنطق، وهل يقول أصلا بوجود منطق مُخَلَّص من شوائب الفلسفة؟!

ــــــــــــــــــــــــــــ

([1])  سأخصص لذلك -إن شاء الله- مقالا يكون كالخاتمة لهذه المقالات.

([2]) “صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام”: ص49 .

([3]) ينظر: “الحد الأرسطي” لسلطان العميري ص261، و”حكمة الغرب” لبرتراند رسل 1/127، و”النقد التيمي للمنطق” لسعود العريفي ص 103 .

([4]) ينظر: تفسير كتاب إيساغوجي لفرفوريوس ص26-27، والنقد التيمي للمنطق لسعود العريفي ص 103 .

([5]) الرد على المنطقيين ص46- طبعة مؤسسة الريان.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M