سلسلة مقالات نقدية حول المنطق المقالة الثالثة: نقد شيخ الإسلام ابن تيمية للمنطق
هوية بريس – د.محمد أبو الفتح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد؛
فقد تقدم معنا أن من أشهر الذين ألفوا في ذم المنطق ونقض قواعده شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، له في ذلك جواب مختصر طبع باسم “نقض المنطق”، ثم طبع بعنوان “الانتصار لأهل الأثر”، وله كلام مفصل في كتابه “الرد على المنطقيين” والمسمى أيضا ب “نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان”، هذا الكتاب الذي يجزم الناظر فيه بأن شيخ الإسلام ينتقد المنطق بغض النظر عما يشوبه من شبهات الفلاسفة وأقوالهم الكفرية، وذلك ظاهر في كلامه من وجوه كثيرة منها:
الوجه الأول: قول شيخ الإسلام-رحمه الله- في افتتاحية كتابه: “…فإني كنت دائما أعلم أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد، ولكن كنت أحسب أن قضاياه صادقة، لما رأيت من صدق كثير منها، ثم تبين لي فيما بعد خطأ طائفة من قضاياه”([1]) .
قلت: ما هو هذا المنطق اليوناني الذي كان شيخ الإسلام يعتقد أن قضاياه صادقة، ثم تبين له فيما بعد خطأ كثير من قضاياه؟ هل هو المنطق المشوب بكفريات الفلسفة؟ هل يُظن في شيخ الإسلام أنه كان يعتقد صدق قضايا المنطق المشوب بشبه الفلاسفة؟!
الوجه الثاني: قول شيخ الإسلام في أشكال القياس المنطقي: “…ولهذا يقال كثرة هذه الأشكال، وشروط نتاجها تطويل قليل الفائدة، كثير التعب، فهو لحم جمل غث، على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقي، ولا سمين فينتقل“([2]).
قلت: هذا كلام صريح في انتقاد المنطق لذاته، وليس بسبب ما يشوبه من شبه الفلاسفة. فإن المناطقة يقسمون المنطق إلى تصورات وتصديقات، ويقسمون كلا منهما إلى مبادئ ومقاصد، وعند كلامهم عن مقاصد التصديقات يتناولون أنواع القياس، وأشكاله، وشروط إنتاج كل شكل منها… والمطلع على ذلك يدرك يقينا صدق كلام شيخ الإسلام فيما قاله… فكيف يًدعى بعد ذلك انعقاد الإجماع على قبول المنطق الذي يُزعم تخليصه من شبه الفلاسفة؟!
الوجه الثالث: قوله رحمه الله: “…ولم يكن ذلك من همتي (يعني: نقد المنطق)؛ فإن همتي إنما كانت فيما كتبته عليهم في الإلهيات (ما يتعلق بذات الله وأسمائه وصفاته) ([3])، وتبين لي أن كثيرا مما ذكروه في أصولهم في الإلهيات وفي المنطق هو من أصول فساد قولهم في الإلهيات”([4]).
قلت: صرح شيخ الإسلام أن همته كانت مصروفة إلى الرد على الفلاسفة في الإلاهيات، ولم تكن همته مصروفة لنقض قواعد المنطق حتى تبين له أن فساد أصولهم في الإلاهيات يرجع إلى فساد قضايا المنطق التي بنوا عليها أصولهم…
الوجه الرابع: أنه قَدَّم بمقدمة لكتابه “الرد على المنطقيين” ضَمَّنها تلخيصا للمنطق الذي يريد نقض قواعده، فإذا هو نفسه المنطق الذي يزعم أصحابه أن خالص من شوائب الفلسفة. قال شيخ الإسلام: “فصل: ملخص أصول المنطق واصطلاحاته: بنوا المنطق على الكلام في الحد ونوعه والقياس البرهاني ونوعه قالوا لأن العلم أما تصور وأما تصديق وكل منهما بديهي وأما نظري…” إلى آخر ما ذكره من مصطلحات المنطق وأصوله…
قلت: بدأ شيخ الإسلام رده على المنطقيين بخلاصة للمنطق قبل أن يخوض في هدم أركانه، ليعلم القارئ أنه عارف بهذا العلم، مستوعب له تمام الاستيعاب، وأنه ينتقد المنطق عن علم ومعرفة، وليس عن جهل وتحامل، مما يؤكد انتقاده للمنطق لذاته وليس بسبب ما قد يشوبه من شبه الفلاسفة.
الوجه الخامس: أنه انتقد المنطق في أربعة مقامات:
مقامين يتعلقان بالتصديقات، وهما:
المقام الأول: قولهم: التصورات غير البديهية لا تنال إلا بالحد؟
المقام الثاني: هل يمكن تصور الأشياء بالحدود؟
ومقامين يتعلقان بالتصورات، وهما:
المقام الثالث: قولهم : لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس”.
المقام الرابع: قولهم: إن القياس يفيد العلم بالتصديقات”.
قد فصل القول في المقامات الأربعة تفصيلا قال فيه السيوطي: “…فطلبت كتاب ابن تيمية، حتى وقفت عليه فرأيته سماه (نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان) وأحسن فيه القول ما شاء من نقض قواعده، قاعدة قاعدة، وبيان فساد أصولها. فلخصته في تأليف لطيف سميته “جهد القريحة في تجريد النصيحة”([5]).
-قلت: فإذا كان شيخ الإسلام قد هدم تصورات المنطق، وتصديقاته، فماذا يبقى من المنطق بعد ذلك؟! وهل يشك بعد هذا في كونه ينتقد المنطق الأرسطي لذاته؟!
وسيأتي في المقالات اللاحقة -إن شاء الله- ذكر بعض ما تضمنته المقامات الأربعة من وجوه انتقاد شيخ الإسلام للمنطق الأرسطي…
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
([2]) الرد على المنطقيين ص297.
([3]) يقسم المتكلمون العقيدة إلى ثلاثة أقسام: الإلاهيات (ما يتعلق بالإله)، والنبوات (ما يتعلق بالأنبياء)، والسمعيات (ما لا يُتَلَقَّى إلا بالسمع من الغيبيات) انظر حاشية الباجوري على الجوهرة ص 104.
