سلسلة مقالات نقدية حول المنطق المقالة السادس: نقد شيخ الإسلام ابن تيمية للمنطق (تابع)
هوية بريس – د.محمد أبو الفتح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد؛
فقد تقدم معنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله انتقد المنطق في أربع مقامات، وسأعرض في هذا المقال إلى المقام الثالث، وهو قول المناطقة: “إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس”. وقد بين شيخ الإسلام بطلان مقولتهم هذه من وجوه كثيرة منها:
-قال رحمه الله: “قولهم: “إنه لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس “([1]) قضية سلبية نافية، ليست معلومة بالبديهة، ولم يذكروا على هذا السلب دليلا أصلا، فصاروا مدعين مالم يبينوه، بل قائلين بغير علم؛ إذ العلم بهذا السلب متعذر على أصلهم، فمن أين لهم أنه لا يمكن أحدا من بني آدم أن يعلم شيئا من التصديقات التي ليست عندهم بديهية إلا بواسطة القياس المنطقي الشمولي الذي وصفوا مادته وصورته؟!”([2]).
-قلت: مرة أخرى ينقض شيخ الإسلام المنطق بالمنطق، ويطالب المناطقة بإقامة الدليل على دعواهم بأنه “لا يعلم شيء من التصديقات إلا بالقياس”، وإلا فستكون هذه الدعوى مجرد قضية سالبة عارية عن الدليل.
-قال رحمه الله: “والثاني: أن يقال: هم معترفون بما لا بد منه من أن التصديقات منها بديهي، ومنها نظري، وأنه يمتنع أن تكون كلها نظرية لافتقار النظري إلى البديهي. وإذا كان كذلك فالفرق بين البديهي والنظري إنما هو بالنسبة والإضافة … ومعلوم أن الناس يتفاوتون في قوى الأذهان أعظم من تفاوتهم في قوى الأبدان …” ([3]).
-قلت: يحتج شيخ الإسلام على المناطقة باعترافهم أن التصديقات البديهية يتوصل إليها بغير قياس، وبأن البداهة أمر نسبي، بحسب تفاوت مدارك الناس وقواهم العقلية، فقد يكون بديهيا عند زيد، ما ليس بديهيا عند عمرو، وهذا يعني أن زيدا قد توصل إلى ذلك التصديق بالبداهة من غير حاجة إلى قياس.
-قال رحمه الله: “… قالوا العلوم اليقينية النظرية لا تحصل إلا بالبرهان الذي هو عندهم قياس شمولي وعندهم لا بد فيه من قضية كلية موجبة…
-فيقال: إذا كان لا بد في كل ما يسمونه برهانا من قضية كلية؛ فلا بد من العلم بتلك القضية الكلية، أي: من العلم بكونها كلية… وإذا كان لا بد في العلم الحاصل بالقياس الذي يخصونه باسم البرهان من العلم بقضية كلية موجبة؛ فيقال: العلم بتلك القضية إن كان بديهيا؛ أمكن أن يكون كل واحد من أفرادها بديهيا بطريق الأولى. وإن كان نظريا؛ احتاج إلى علم بديهي، فيفضى إلى “الدور المعيّ” أو “التسلسل” في أمور لها مبدأ محدود…”([4]).
-قلت: خلاصة كلامه رحمه الله أن برهان المناطقة لا بد فيه عندهم من قضية كلية (مثلا: كل نار محرقة)، وأن هذه القضية الكلية إما أن يكون العلم بكليتها بديهيا أو نظريا:
-فإن كان بديهيا كان العلم بأفرادها بديهيا من باب أولى (أن نارا بعينها محرقة)،
-وإن كان نظريا احتاج إلى علم بديهي يستند إليه مما يفضي إلى الدور أو التسلسل…
وفي الحالين معا تظهر عدم الحاجة إلى برهان المناطقة.
-وقال رحمه الله: “ومما يبين أن حصول العلوم اليقينية الكلية والجزئية لا يفتقر إلى برهانهم أن يقال: إذا كان لا بد في برهانهم من قضية كلية؛ فالعلم بتلك القضية الكلية لا بد له من سبب، فإن عرفوها باعتبار الغائب بالشاهد، وأن حكم الشيء حكم مثله -كما إذا عرفنا أن هذه النار محرقة؛ علمنا أن النار الغائبة محرقة؛ لأنها مثلها، وحكم الشيء حكم مثله، فيقال: هذا استدلال بقياس التمثيل، وهم يزعمون أنه لا يفيد اليقين بل الظن، فإذا كانوا علموا القضية الكلية بقياس التمثيل؛ رجعوا في اليقين إلى ما يقولون أنه لا يفيد إلا الظن …” ([5]).
-قلت: حاصل كلامه رحمه الله أنه لا سبيل إلى العلم بالقضايا الكلية إلا بقياس الشاهد على الغائب، والذي هو قياس التمثيل، وبعبارة أخرى: قياس الشمول -الذي يزعم المناطقة أنه يفيد اليقين- مبني على القضايا الكلية، والعلم بالقضايا الكلية مبني على قياس التمثيل، الذي لا يفيد عندهم إلا الظن. وإن شئت فقل: قياس الشمول مبني على قياس التمثيل، فكيف يُرَجَّحُ الفرع على أصله الذي بني عليه؟! وكيف يكون الفرع أقوى دلالة من الأصل.
-قال رحمه الله: “تفريقهم بين “قياس المشمول” و”قياس التمثيل” بأن الأول قد يفيد اليقين، والثاني لا يفيد إلا الظن، فرق باطل. بل حيث أفاد أحدهما اليقين؛ أفاد الآخر اليقين. وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن ؛ لا يفيد الآخر إلا الظن. فإن إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه على صورة أحدهما دون الآخر، بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين. فإن كان أحدهما اشتمل على أمر مستلزم للحكم يقينا حصل به اليقين، وان لم يشتمل إلا على ما يفيد الحكم ظنا لم يفد إلا الظن. والذي يسمى في أحدهما “حدا أوسط” هو في الآخر “الوصف المشترك”، والقضية الكبرى المتضمنة لزوم الحد الأكبر للأوسط هو بيان تأثير الوصف المشترك بين الأصل والفرع، فما به يتبين صدق القضية الكبرى به يتبين أن الجامع المشترك مستلزم للحكم، فلزوم الأكبر للأوسط هو لزوم الحكم للمشترك” ثم بين شيخ الإسلام كلامه هذا بالمثال بيانا شافيا كافيا لكل من أنصف”([6]).
-قلت: خلاصة كلامه هو إبطال تفريق المناطقة بين “قياس الشمول” و”قياس التمثيل” من حيث دلالتهما على اليقين أو على الظن، وأن قياس الشمول يمكن صياغته في صورة قياس التمثيل، والعكس صحيح، فدلالة أحدهما على اليقين أو على الظن بحسب المادة التي يتضمنها، وليس بحسب صورة صياغته.
أكتفي بهذه الأوجه الخمسة مما ذكره شيخ الإسلام في إبطال دعوى المناطقة أنه “لا يتوصل إلى التصديقات إلا بقياسهم الشمولي”، وخلاصة ما انتقيته في إبطال هذه الدعوى:
1-أنها قضية سلبية عارية عن الدليل، ودعوى مجردة عن الحجة، فهي لاغية.
2-إقرارهم أن البديهيات يتوصل إليها بغير قياس، دليل على أنه يمكن لبعض الناس الاستغناء عن القياس في إدراك بعض التصديقات؛ لأن البداهة أمر نسبي.
3-أن القياس الشمولي يستند إلى قضية كلية، والقضايا الكلية إما أن تكون بديهية مستغنية عن القياس، وإما أن تكون نظرية ترجع إلى أمر بديهي، فيلزم من ذلك الدور أو التسلسل. وفي الحالين معا عاد الأمر إلى البداهة، وظهرت إمكانية الاستغناء عن القياس المنطقي في سائر التصديقات.
4-أن القضية الكلية تُعرف كليتها بقياس الغائب على الشاهد، وهو قياس التمثيل، فكيف يزعم أن القياس الشمولي يفيد اليقين دون التمثيلي مع أنه مبني عليه؟! وكيف يدعى أن التصديقات يتوصل إليها بالقياس الشمولي دون التمثيلي؟!
5-أنه لا فرق بين القياس الشمولي والقياس التمثيلي في الدلالة على الظن أو على اليقين، مما يدل على بطلان دعوى المناطقة حصر التصديقات في القياس الشمولي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) هذا ما يدل عليه كلام الغزالي في “معيار العلم” ص 265: “… وقد قدمنا أن العلم قسمان: أحدهما علم بذوات الأشياء ويسمى تصورا، والثاني: علم بنسبة تلك الذوات بعضها إلى بعضها بسلب أو إيجاب ويسمى تصديقا، وأن الوصول إلى التصديق بالحجة، والوصول إلى التصور التام بالحد”. قلت: في هذا الكلام حصر الغزالي العلم في شيئين هما: التصور والتصديق، وحصر طريق الوصول إليهما في طريقين هما: الحد للوصول إلى التصور، والحجة للوصول إلى التصديق. والحجة عندهم ثلاثة أقسام: “قياس، واستقراء، وتمثيل”(“معيار العلم” ص 131)، والذي يفيد اليقين منها هو القياس، وأما الاستقراء والتمثيل فلا يفيدان إلا الظن، والاستقراء أقوى من التمثيل(“معيار العلم” ص 161)، فتبين مما سبق أن الحجة اليقينية محصورة عندهم في القياس الشمولي، ويسمونه البرهان (“معيار العلم” ص 70). وعلى هذا يصح ما نسبه شيخ الإسلام إلى المناطقة من حصرهم طريقة الوصول إلى التصديقات في القياس، وقصده بذلك التصديقات اليقينية عندهم.
([2]) الرد على المنطقيين ص 130.
([3]) الرد على المنطقيين ص 130-131.
([4]) الرد على المنطقيين ص 148 .