سلسلة مقالات نقدية حول المنطق المقالة السابعة: نقد شيخ الإسلام ابن تيمية للمنطق (تابع)
هوية بريس – د.محمد أبو الفتح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه؛ أما بعد؛
فقد تقدم معنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله انتقد المنطق في أربع مقامات، مقامان منهما يتعلقان بالتصورات، وآخران بالتصديقات، وسأعرض في هذا المقال للمقام الرابع والأخير، وهو قول المناطقة: “القياس يفيد العلم بالتصديقات”([1]). وهذا المقامُ أَدَقُّ المقامات كما قال شيخ الإسلام؛ لأنه لا ينفي دلالة القياس المنطقي على التصديقات مطلقا، وإنما يكشف عُيُوبَه، وَأَنَّه لا يستحق تهويل المناطقة ومبالغاتهم فيه، ويُبَيِّن أن الصحيح منه يمكن إدراكه بالفطرة من غير حاجة إلى تطويل، وقد فصل شيخ الإسلام الكلام في هذا المقام، وأوضحه من وجوه كثيرة منها:
-أن القياس المنطقي عديم التأثير في العلم وجودا وعدما:
قال رحمه الله: “…لكن الذي بَيَّنَه نُظَّار المسلمين في كلامهم على هذا المنطق اليوناني المنسوب إلى أرسطو- صاحب التعاليم- أن ما ذكروه من صور القياس ومواده -مع كثرة التعب العظيم- ليس فيه فائدة علمية؛ بل كل ما يمكن علمه بقياسهم المنطقي يمكن علمه بدون قياسهم المنطقي. وما لا يمكن علمه بدون قياسهم لا يمكن علمه بقياسهم. فلم يكن في قياسهم لا تحصيل العلم بالمجهول الذي لا يعلم بدونه، ولا حاجة به إلى ما يمكن العلم به بدونه، فصار عديم التأثير في العلم وجودا وعدما، ولكن فيه تطويل كثير متعب، فهو مع أنه لا ينفع في العلم، فيه إتعابُ الأذهان، وتضييع ُالزمان، وكثرةُ الهذيان”([2]).
-قلت: خلاصة كلامه رحمه الله أن القياس المنطقي -مع ما فيه من التعب- لا يضيف شيئا للعلم، بل وجوده كعدمه.
-أنَّ استعمال طرق غير فطرية تعذيبٌ للنفوس من غير فائدة:
قال رحمه الله: “…والأمور الفطرية متى جُعل لها طرقٌ غيرُ الفطرية ؛كانت تعذيبا للنفوس بلا منفعة لها. كما لو قيل لرجل: ”اقسم هذه الدراهم بين هؤلاء النفر بالسوية“، فإن هذا ممكن بلا كُلفة. فلو قال له قائل: ”اصبر! فانه لا يمكنك القسمة حتى تعرف حدَّها، وتميز بينها وبين الضرب، فإِنَّ القِسْمَةَ عَكْسُ الضرب، فإن الضرب هو تضعيف آحاد العددين بآحاد العدد الآخر، والقسمة توزيع آحاد أحد العددين على آحاد العدد الآخر“ …فهذا، وإن كان كلاما صحيحا، لكن من المعلوم أنَّ من معه مال يريد أن يقسمه بين عدد يعرفهم بالسوية، إذا ألزم نفسه أنه لا يقسمه حتى يتصور هذا كله، كان هذا تعذيبا له بلا فائدة، وقد لا يفهم هذا الكلام، وقد يعرض له فيه إشكالات”([3]).
وقال في موضع آخر: “والصواب في هذا الباب أن يُقال: ما ذكروه إذا كان صوابا فإنه تطويل للطريق، وتبعيد للمطلوب، وعكس للمقصود؛ فإنهم زعموا أنهم جعلوه آلة قانونية تمنع الذهن أن يزل في فكره، وما ذكروه إذا كلفوا الناظر المستدل أن يلزمه في تصوراته وتصديقاته كان أقرب إلى زَلَلِـه في فكره، وضلاله عن مطلوبه، كما هو الواقع، فلا تجد أحدا التزم وضع هؤلاء واصطلاحهم، إلا كان أكثر خطأ، وأقل صوابا ممن لم يلتزم وضعهم، وسلك إلى المطلوب بفطرة الله التي فطر عباده عليها؛ ولهذا لا يوجد أحدٌ ممن حقق علما من العلوم كان ملتزما لوضعهم.
ولهذا يُقال: كثرة هذه الأشكال وشروط نتاجها تطويل قليل الفائدة، كثير التعب، فهو لحم جَمَلٍ غَثٍّ، عَلَى رَأْسِ جَبَلٍ وَعْرٍ، لَا سَهْلٌ فَيُرْتَقَي، ولا سمينٌ فَيُنْتَقَل؛ فإنه متى كانت المادة صحيحة أمكن تصويرها بالشكل الأول الفطري، فبقية الأشكال لا يحتاج إليها، وإنما تفيد بالرد إلى الشكل الأول…” ([4]).
-قلت: حاصل كلامه رحمه الله، أَنَّ مَا صَحَّ من علم المنطق يمكن التوصل إليه بالذكاء الفطري، من غير حاجة إلى تعذيب النفس بتعلم طرائق المناطقة المنافية للفطرة.
-العلم بالمفردات أسبق وأولى وأقرب إل الفطرة من العلم بالكليات.
قال رحمه الله: “…وأيضا فما يذكرونه من القياس لا يفيد إلا العلم بأمور كلية، لا يفيد العلم بشيء معين من الموجودات، ثم تلك الأمور الكلية يمكن العلم بكل واحد منها بما هو أيسر من قياسهم، فلا تعلم كلية بقياسهم، إلا والعلم بجزئياتها ممكن بدون قياسهم الشمولي، وربما كان أيسر؛ فان العلم بالمعينات قد يكون أبين من العلم بالكليات“([5]).
-قلت: خلاصة كلامه رحمه الله أن العلم بالجزئيات أقرب وأيسر من العلم بالكليات، فمثلا: قولنا: “كل نار محرقة”، ما كنا لنتوصل إلى هذه الكلية لولا أننا علمنا إحراق النار في حالات معينة كثيرة، ثم انتقلنا إلى القياس التمثيلي فسحبنا هذا الحكم على جميع النيران، لنستنتج الحكم الكلي، وهذا يعني أن علمنا بالأحكام الجزئية المعينة كان أقرب وأيسر من علمنا بالحكم الكلي، وأن العلم بالكليات استفدناه من العلم بالمعينات، وليس العكس.
-قصور قياسهم عن أشرف المطالب:
قال رحمه الله: “….وإثبات العلم بالصانع والنبوات ليس موقوفا على شيء من الأقيسة؛ بل يعلم بالآيات الدالة على شيء معين لا شِرْكَةَ فيه، ويحصل بالعلم الضروري الذي لا يفتقر إلى نظر، وما يحصل منها بالقياس الشمولي فهو بمنزلة ما يحصل بقياس التمثيل، فهو أمر كلي لا يحصل به العلم بما يختص به الرب، وما يختص به الرسول، إلا بانضمام علم آخر إليه.. “([6]) .
-قلت: معلوم أن قياس المناطقة مبني على الكليات، والكُلِّيُّ عندهم هو: “مَا لَا يَمْنَعُ تَصَوُّرُهُ مِنْ وُقُوعِ الشَّرَاكَةَ فيه”، فالكليات هي أمور مشتركة، فلا يمكن التوصل بها إلى إثبات ما يختص به الله تعالى من صفات الكمال التي لا يشاركه فيها أحد. وإنما يتوصل إلى ذلك عن طريق الوحي… وكذلك لا يتوصل بالكليات إلى ما يختص به الرسول ﷺ من النبوة ونزول الوحي، لأن تلك الخصائص غير قابلة للاشتراك بين جميع الناس….
–ليست شريعة الإسلام موقوفة على شيء من علوم غير المسلمين:
“فنحن قد بينا أن شريعة الإسلام ومعرفتها ليست موقوفة على شيء يُتَعَلَّم من غير المسلمين أصلا، وإن كان طريقا صحيحا، بل طريق الجبر والمقابلة فيها تطويل يغنى الله عنه بغيره ،كما ذكرنا في المنطق. وهكذا كل ما بعث به الرسول ﷺ، مثل: العلم بجهة القبلة، والعلم بمواقيت الصلاة، والعلم بطلوع الفجر، والعلم بالهلال. فكل هذا يمكن العلم به بالطرق المعروفة التي كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يسلكونها، ولا يحتاج معها إلى شيء آخر، وإن كان كثير من الناس قد أحدثوا طرقا أخر وكثير منهم يظن أنه لا يمكن المعرفة بالشريعة إلا بها وهذا من جهلهم”([7]).
-قلت: خلاصة كلامه رحمه الله أن القياس المنطقي كما أنه قاصر عن إدراك أشرف المطالب والعلوم في باب الأصول والعقائد، فإنه لا يحتاج إليه في شيء من فروع الشريعة. ولهذا لم يحتج إليه فقهاء الأمة، من أصحاب المذاهب المتبوعة وغيرهم ممن بلغ الغاية في العلم بالشريعة.
-استحالة تحصيل اليقين بالجزئيات من طريق قياسهم، لأنه قائم على الكليات وهي إما مُنْتَقَضَة، أو بمنزلة التمثيل، أو لا تفيد علما بموجود معين.
قال رحمه الله: “… فالقضايا الكلية المتلقاة عن الرسل تفيد العلم في المطالب الإلهية. وأما ما يُستفاد من علومهم فالقضايا الكلية فيه إما مُنْتَقَضَة، وإما أنها بمنزلة قياس التمثيل، وإما أنها لا تفيد العلم بالموجودات المعينة، بل بالمقدرات الذهنية، كالحساب والهندسة؛ فإنه وإن كان ذلك يتناول ما وجد على ذلك المقدار، فدخول المعين فيه لا يعلم بالقياس، بل بالحس، فلم يكن القياس محصلا للمقصود، أو تكون مما لا اختصاص لهم بها بل يشترك فيها سائر الأمم بدون خطور منطقهم بالبال، مع استواء قياس التمثيل وقياس الشمول” ([8])
قلت: حاصل كلامه رحمه الله أن قياس المناطقة مبني على الكليات، وهذه الكليات ظنية، فهي قابلة للانتقاض غالبا، فمثلا: قولهم “كل نار محرقة”، يمكن نقضها بالنار التي ألقي فيها إبراهيم عليه السلام، ثم إن هذا الحكم إنما توصلنا إليه بقياس التمثيل، فهو بمنزلته (أو دونه لأنه مبني عليه)، ثم إن هذا الحكم الكلي إنما هو حكم موجود في الأذهان، توصلنا إليه بالقياس، ولا يلزم بالضرورة وجوده في الخارج في الأعيان. وإنما يدرك وجوده في الأعيان بالحس لا بالقياس.
-قلت: وعلى هذا فإن القياس المنطقي الأرسطي قليل المنفعة حتى في العلوم الدنيوية، ولهذا استغنى عنه علماء الغرب في نهضتهم الحديثة، وتجاوزوه إلى المنطق التجريبي، بل وانتقدوه، ووصفوه بالعقم، وسأذكر منهم 3 نماذج:
-بيير دو لا رامي 1572 م (Pierre de la Ramée): فيلسوف فرنسي ألف رسالة ماجيستير بعنوان “كل ما قاله أرسطو باطل”، وألف بعده كتاب “في الأخطاء الأرسطوطالية”، وهو نقد مفصل للمنطق الأرسطي القديم، فكرته الأساسية: أن المنطق فنٌّ عملي يزاول بالطبع (بالفطرة)، وأن القواعد التي وضعها أرسطو عقيمة مرهقة للعقل([9]).
-فرنسيس بيكون 1626م (Francis Bacon): فيلسوف إنجليزي، يعتبرونه أَبَ المنهج العلمي الحديث الذي يقوم على التجربة والملاحظة، وقد ألف في نقض المنطق الأرسطي كتابه : “الأورجانون الجديد” ومن جملة كلامه:
-قوله: “…القياس الأرسطي لا يهتم بعالمنا الطبيعي؛ إذ هو استدلال صوري لا يهمه سوى حتمية الانتقال من مقدمات إلى نتائج تلزم عنها، سواء أكانت تلك المقدمات صادقة من حيث الواقع أم كاذبة. لا قيمة للقياس إذن في تحقيق هدفه الأكبر”.
-وقوله: ” يبدأ القياس الأرسطي من أفكار جزئية محسوسة، ويجعلها أفكارًا عامة، ويفترض أنها مقدمات صادقة لازمة، لكن ما تلك المقدمات إلا محتوية على أفكار شائعة قد تكون غالبًا كاذبة، وإذن فضررها أكبر من نفعها”.
-وقوله: “إذا افترضنا أن المقدمات في القياس الأرسطي صادقة على الواقع، وإذا افترضنا أن انتقالنا إلى النتيجة سليم صحيح، كانت النتيجة عقيمة؛ أي لا تحوي جديدًا عما أُثبتت من قبل في المقدمات، ولكن ينبغي من المنطق أن يدفعنا إلى نتائج جديدة ومعارف جديدة. إذن فالقياس الأرسطي مضيعة للوقت”([10]).
وهذا يلتقي تماما مع ما قرره شيخ الإسلام قبله بنحو ثلاثة قرون.
-رينيه ديكارت 1650 م (René Descartes): الفيلسوف والرياضي الشهير، الملقب ب “أبو الفلسفة الحديثة”، ومن جملة كلامه : ” القياس الأرسطي أو الاستدلالي القياسي لا يؤدي إلى معارف جديدة، والأفضل استخدام الاستدلال الرياضي”([11]).
وغيرهما كثير من الفلاسفة الذين أدركوا فساد المنطق الأرسطي وعُقمه، فتجاوزوه إلى غيره، وكان لهم دور في بناء النهضة العلمية الغربية الحديثة.
وأما المتكلمون والأشاعرة فتوقفت عُقًولًـهم عند عصور اليونان، فأفسدوا على المسلمين دينهم وعقيدتهم بهذا المنطق الأرسطي، وما زالوا يُدَرِّسُون متونه إلى يوم الناس هذا، ويزعمون أنه علم يعصم العقول من الزلل!! ويسفهون من ينتقده أو يتكلم فيه ببنت شفة!!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) هذا ما يدل عليه كلام الغزالي في “معيار العلم” ص 265: “… وقد قدمنا أن العلم قسمان: أحدهما علم بذوات الأشياء ويسمى تصورا، والثاني: علم بنسبة تلك الذوات بعضها إلى بعضها بسلب أو إيجاب ويسمى تصديقا، وأن الوصول إلى التصديق بالحجة، والوصول إلى التصور التام بالحد”. قلت: في هذا الكلام حصر الغزالي العلم في شيئين هما: التصور والتصديق، وحصر طريق الوصول إليهما في طريقين هما: الحد للوصول إلى التصور، والحجة للوصول إلى التصديق. والحجة عنده ثلاثة أقسام: “قياس، واستقراء، وتمثيل”(“معيار العلم” ص 131)، والذي يفيد اليقين منها هو القياس، وأما الاستقراء والتمثيل فلا يفيدان إلا الظن، والاستقراء أقوى من التمثيل(“معيار العلم” ص 161)، فتبين مما سبق أن الحجة اليقينية محصورة عندهم في القياس الشمولي، ويسمونه البرهان (“معيار العلم” ص 70). وعلى هذا يصح ما نسبه شيخ الإسلام إلى المناطقة من حصرهم طريقة الوصول إلى التصديقات في القياس، وقصده بذلك التصديقات اليقينية عندهم.
([2]) الرد على المنطقيين ص 292.
([3]) الرد على المنطقيين ص 293.
([4]) الرد على المنطقيين ص 342-343.
([5]) الرد على المنطقيين ص 295.
([6]) الرد على المنطقيين ص 401 فما بعدها.
([7]) الرد على المنطقيين ص 302-303.
([8]) الرد على المنطقيين ص 400 فما بعدها.
([9]) ينظر: “تاريخ الفلسفة الحديثة” ليوسف كرم ص 34، والنقد التيمي للمنطق ص160.
([10]) ينظر: “نظرية العلم عند فرنسيس بيكون” للدكتور قيس هادي أحمد، و “الاستقراء والمنهج العلمي” للدكتور محمود فهمي زيدان .