سلسلة مقالات نقدية حول المنطق المقالة الثامنة: موقف السيوطي من المنطق
هوية بريس – د.محمد أبو الفتح
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد ؛ فإنه قد تقدم معنا في المقال الأول من هذه السلسلة أن السيوطي رحمه الله اختصر كتاب شيخ الإسلام في الرد على المنطقيين وسمى المختصر: “جَهْدُ القريحة في تجريد النصيحة”، وكان قد ألف قبل ذلك كتابا سماه: “القول الْـمُشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق”، وهي فتوى كانت جوابا عن سؤال ذكر فيها أسماء من ذم المنطق من علماء المسلمين، فذكر من غير حصر ما يزيد عن أربعين عالما من مختلف المذاهب الفقهية([1])، ثم ألف مؤلفا مستقلا سماه “صَوْنُ المنطق والكلام عن فَنَّي المنطق والكلام”، وسأذكر في هذا المقال والذي يليه إن شاء الله باختصار شديد أهم ما ذكره السيوطي في كتابه “صون المنطق”، فأقول وبالله التوفيق:
-افتتح السيوطي كتابه ببيان سبب التأليف، فقال: “… وبعد؛ فقد كنت قديما في سنة سبع أو ثمان وستين وثمانمائة ألفت كتابا في تحريم الاشتغال بفنّ المنطق، سميته “القول المشرق”، ضَمَّنْته نقولَ أئمة الإسلام في ذمه وتحريمه، وذكرت فيه أَنَّ شيخ الإسلام أحد المجتهدين تَقِيُّ الدين ابن تيمية ألف كتابا في نقض قواعده، ولم أكن إذ ذاك وقفت عليه، ومضى على ذلك عشرون سنة. فلما كان في هذا العام، وتحدثت بما أنعم الله به عليَّ من الوصول إلى رتبة الاجتهاد، ذكر ذَاكِرٌ أن من شروط الاجتهاد معرفة فن المنطق. يعني: وقد فقد هذا الشرط عندي بزعمه. وما شعر المسكين أنِّي أحسنه أكثر ممن يدعيه، ويناضل عليه. وأعرف أصول قواعده، وما بُنِيَتْ عليه، وما يتولد منها معرفةً ما وصل إليها شيوخ المناطقة الآن -إلا شيخَنَا العلامة محيي الدين الكافيجي فقط…” ([2]).
-قلت: هذا يدل على أنَّ كلامَ السُّيوطي عن المنطق كلامُ خبير به، وليس مِمَّن يُقال فيه : “من جهل الشيء عاداه”. كما يَدُلُّ إِطْلَاقُه القولَ بذم المنطق، وما نقله عن العلماء في فتواه من تحريم الاشتغال به على عدم تفريقه بين منطق مشوب بالفلسفة وغير مشوب، وكذلك ما ذكره عن شيخ الإسلام من نقض قواعد يدل على موافقته له في انتقاد المنطق لذاته، بصرف النظر عما يشوبه من شبه الفلاسفة.
-ثم رد السيوطي على من عاب على ابن الصلاح الفتوى بتحريم المنطق، فقال: “ثم إن كثيرًا من الْـمُخَبِّطين، الذين هم عن تحقيق العلم بمعزل، لَهَجُوا بأن يقولوا: ما الدليل على تحريمه؟ وما مستند ابن الصلاح في إفتائه بذلك؟ ونحو ذلك من العبارات. والعجب أنهم يناضلون عن المنطق ولا يتقنونه، ويدأبون فيه، وفي أبحاثهم لا يستعملونه، فيخبطون فيه خبط عشواء، ولا يهتدون عند المناظرة والاستدلال إلا عمياء.
ولقد اجتمع بي بعض من قطع عمره في المنطق، فرأى قول ابن الصلاح في فتاويه: “وليس الاشتغال بتعلمه وتعليمه مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين والسلف الصالحين”؛ فقال: هذه شهادة على نفي فلا تقبل. فقلت. يا سبحان الله! لا طريقَ أهل الشرع سلكتم، ولا طريقَ أهل المنطق اعتمدتم.
أما أهل الشرع فيقولون: إن النفي إذا كان من أهل الاستقراء التام فإنه يقبل ويعتمد. وقد جرى على ذلك أهل الحديث، وأهل الفقه، وأهل العربية: لغة ونحوا وتصريفًا، وأهل البلاغة: معاني وبيانا وبديعًا، وأهل العروض، في مسائل يطول سردها.
وأما أهل المنطق فإنهم يقول: إن السالبة الكلية إنما تُنقض بموجبة جزئية. وهو أن يقال: بل أباحه فلان الصحابي أو التابعي أو المجتهد، فيحصل بذلك نقض كلام ابن الصلاح، ولا سبيل إلى وجود ذلك عن أحد من المذكورين حتى يلج الجمل في سم الخياط.
وأما الدفع بالصدر وهو أن يقال: “ما هو صحيح”، أو “من أين له ذلك”؛ فما هو طريقة أحد، لا متشرع ولا متفلسف.
وقد رأيت أن أصنف كتابا مبسوطا في تحريمه على طريقة الاجتهاد والاستدلال جامعًا مانعًا، وبالحق صادعًا، أبين فيه صحة ما ادعاه ابن الصلاح من نسبة نفي الإباحة إلى المذكورين”.
-قلت: كلام السيوطي ردٌّ صريح على الذين يزعمون أن كلام ابن الصلاح يُقصد به المنطق المشوب بالفلسفة، لأنه لو كان كذلك لقال السيوطي: “إنما يتنزل كلام ابن الصلاح على المنطق المشوب قبل أن يُخَلِّصه العلماء من شبه الفلاسفة”، خاصة إذا علمنا أن كلام السيوطي (911ه) جاء متأخرا بكثير عن زمن الفصل المزعوم بين المنطق وشبه الفلاسفة، وهو زمن أبي حامد الغزالي (505ه).
-ثم ذكر السيوطي رحمه الله ابتداءَ وضع المنطق على يد أرسطاطاليس الذي ذُكر عنه القول بقدم العالم، وعبادة الكواكب والأوثان، ومعاناة السحر، وذلك قبل بعثة المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة.
-ثم ذكر ابتداءَ دخول المنطق والعلوم الفلسفية في ملة الإسلام، على يد المأمون العباسي (خلافته بين 198ه، و218ه)، وإن كانت ترجمة كتب اليونان قد بدأت قبله على يد خالد بن يزيد بن أمير المؤمنين معاوية (ت 90ه)، وكان مولعا بكتب الكيمياء وعلوم الطبيعة، ثم في زمن يحيى البرمكي (ت190ه) وزير هارون الرشيد، الذي عرب كثيرًا من كتب الفرس مثل كليلة ودمنة، وعُرِّبَ لأجله كتاب المجصطي من كتب اليونان (ألفه بطليموس عام 148م في الفلك والرياضيات)… وأما كتب الفلسفة والمنطق فالذي تولى كبر ترجمتها وإدخالها على المسلمين هو: المأمون العباسي عامله الله بما يستحق.
-ثم ذكر السيوطي ابتداءَ مَزْجِ المنطق بِكُتُبِ الأصول، وخلطه بالعلوم الشرعية على يد أبي حامد الغزالي (505ه) سامحه الله. وكان قبل ذلك بمعزل عن العلوم الشرعية.
-ثم ذكر ابتداءَ فشو المنطق في المتأخرين على يد نصير الطوسي (الرافضي وزير هولاكو) سنة 657ه، بعد سقوط بغداد في يد التتار.
-قلت: ما ظنك بعلم اخترعه ملحد كافر (أرسطو)، وأدخله على الأمة خليفة معتزلي (المأمون)، ونشره فيها وزير سوء رافضي (نصير الطوسي)؟!
-وبعد المقدمة ذكر السيوطي مَنْ صَرَّحَ بذم المنطق من أئمة المسلمين، وهو ما سأتطرق إليه في المقال الآتي إن شاء الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ