موقف السيوطي من المنطق (ملخص كتابه: صَوْنُ المْنَطِقِ وَالْكَلَامِ عَنْ فَنَّيْ الْـمَنْطِقِ وَالْكَلَامِ)

25 نوفمبر 2024 19:11

هوية بريس – د.محمد أبو الفتح

أما بعد ؛ بعد مقدمة كتابه “صون المنطق” عقد السيوطي فصلا فيمن ذم المنطق وحرمه من أئمة المسلمين،

فقال: “أما االصحابة رضي الله عنهم والتابعون وأتباعهم فلم يَرِدْ عنهم فيه التصريح بشيء؛ لكونه لم يكن موجودا في زمنهم، وإنما حدث في أواخر القرن الثاني كما تقدم. وكان الإمام الشافعي رضي الله عنه حيا إذ ذاك فتكلم فيه. وهو أقدم من رأيته حَطَّ عليه”([1]).

-ثم نقل عن الشافعي رحمه الله: “مَا جَهِلَ النَّاسُ وَلَا اخْتَلَفُوا إِلَّا لِتَرْكِهِمْ لِسَانَ الْعَرَبِ، وَمَيْلِهِمْ إِلَى لِسَانِ أَرِسْطَاطِيس”([2]).

-ثم شرح السيوطي كلام الشافعي قائلا: “أشار الشافعي بذلك إلى ما حدث في زمن المأمون من القول بخلق القرآن، ونفي الرؤية، وغير ذلك من البدع، وأنَّ سببها: الجهل بالعربية والبلاغة الموضوع فيها: من المعاني والبيان والبديع، الجامع لجميع ذلك قوله: “لسان العرب” الجاري عليه نصوص القرآن والسنة، وتخريج ما ورد فيها على لسان يونان ومنطق أرسطاطاليس، الذي هو في حَيِّز، ولسان العرب في حَيِّز، ولم ينزل القرآن ولا أتت السنة إلا على مصطلح العرب، ومذاهبهم في المحاورة والتخاطب والاحتجاج والاستدلال، لا على مصطلح يونان، ولكل قوم لغة واصطلاح. وقد قال تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ اِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِۦ لِيُبَيِّنَ لَهُمْۖ فَيُضِلُّ اُ۬للَّهُ مَنْ يَّشَآءُ وَيَهْدِے مَنْ يَّشَآءُۖ وَهُوَ اَ۬لْعَزِيزُ اُ۬لْحَكِيمُ﴾ (إبراهيم 5). فمن عدل عن لسان الشرع إلى لسان غيره، وَخَرَّجَ الوارد من نصوص الشرع عليه جَهِلَ وَضَلَّ، ولم يُصِب القصد. ولهذا نرى كثيرًا من أهل المنطق إذا تكلم في مسألة فقهية، وأراد تخريجها على قواعد علمه، أخطأ ولم يصب ما قالته الفقهاء ولا جرى على قواعدهم… والغرض بهذا الكلام شرح قول الشافعي رضي الله عنه، وأنه من أراد تخريج القرآن والسنة والشريعة على مقتضى قواعد المنطق، لم يُصِب غرض الشرع ألبتة، فإن كان في الفروع نُسب إلى الخطأ، وإن كان في الأصول نسب إلى البدعة، وهذا أعظم دليل على تحريم هذا الفن؛ فإنه سبب للإحداث والابتداع ومخالفة السنة، ومخالفة غرض الشارع، وكفى بهذا دليلا. وهو مستنبط من كلام الشافعي رضي الله عنه”([3]).

 

-قلت: هذه هي علة التحريم الأولى التي استنبطها السيوطي من كلام الإمام الشافعي، وخلاصتها: أن المنطق سبب للإحداث في الدين أصولا وفروعا، نظرا لما بين لسان العرب ومنطق اليونان من التباعد والتنافر. ومعلوم أن الوسائل لها أحكام المقاصد.

-ثم ذكر السيوطي تحريم الشافعي النظر في علم الكلام قياسا على تحريم النظر في متشابه القرآن خوفَ الزيغ والفتنة، وخشيةَ إثارة الشبه، والانجرار إلى البدع…

ثم قال: “… وهذه العلة بعينها موجودة في المنطق، كما ذكره الشافعي، فيكون الدليل على تحريم النظر فيه القياس على الأصل المقيس عليه علم الكلام، وهو المتشابه المنصوص على تحريم النظر فيه. وهذا قياس صحيح لا يتطرق إليه قدح بنقض ولا معارضة. نعم! قد يمنع الخصم وجود العلة المذكورة في المنطق، ولكن منعه هذا مكابرة فلا يسمع؛ لأن المشاهدة والاستقراء تكذبه”([4]).

-قلت: خَرَّج السيوطي تحريم المنطق على مذهب الشافعي قياسا على تحريمه النظر في علم الكلام، نظرا لاتحاد العلة فيهما. ولا شك أن الكلام والمنطق متلازمان؛ وذلك لأن علم الكلام هو: “الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية”([5])، والمنطق هي أداة علم الكلام وآلته التي يُزْعَمُ أنها تعصم العقل من الزلل والخطإ في الاستدلال العقلي.

-ثم قال السيوطي: “…وقد يُدَّعَى دخول هذه الصورة بخصوصها –أعنى تحريم النظر في المنطق –تحت عموم النصوص الدالة على تحريم كل ما جر إلى فساد، أو خشي منه فتنة، فيكون التحريم مستفادًا عن عموم النصوص لا من خصوص القياس وللمستدل أن يستعمل كلا من الأمرين ويكون الدليلان تعاونا، طابق خصوص القياس، عموم النصوص”([6]).

-قلت: استدل السيوطي على تحريم المنطق أيضا بعموم النصوص المحرمة لكل ما يؤدي إلى الفساد والفتنة…

-ثم بين السيوطي أن الاشتغال بالمنطق أفضى ببعضهم إلى التشكيك في أدلة الوحي، وازدراء علم الصحابة والسلف([7])

-قال السيوطي: “وقد أشار الشافعي إلى علة أخرى في علم الكلام، تأتي في المنطق. فأخرج النووي في ذم الكلام من طريق الكرابيسي قال: شهدت الشافعي ودخل عليه بشر المريسي. فقال لبشر: أخبرني عما تدعو إليه: أكتاب ناطق، وفرض مفترض، وسنة قائمة، ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال؟  فقال بشر: لا! إلا أنه لا يسعنا خلافه. فقال الشافعي: أقررت بنفسك على الخطأ. فأين أنت من الكلام في الفقه والأخبار؟! فلما أُخرج قال الشافعي: لا يفلح”. دل هذا النص على أن من العلة في تحريم النظر في علم الكلام، كونه لم يرد الأمر به في كتاب ولا سنة، ولا وجد عن السلف البحث فيه. وهذا بعينه موجود في المنطق فإنه لم يرد الأمر به في كتاب ولا سنة، ولا يوجد عن السلف البحث فيه، بخلاف العربية فإنه ورد الأمر بها في الحديث، ووجد عن السلف البحث فيها. وهذه العلة هي التي اعتمدها ابن الصلاح، حيث أفتى بتحريم المنطق حيث قال: (وليس الاشتغال بتعلمه وتعليمه مما أباحه الشارع، ولا استباحه أحد من الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين). وكأن ابن الصلاح استنبط هذه العلة من تعليل الشافعي لعلم الكلام”([8]).

-قلت: استنبط السيوطي علة أخرى لتحريم المنطق قياسا على الكلام، وهي: عدم ورود الأمر به في الكتاب والسنة، وترك السلف البحث فيه…

-قال السيوطي: “وقد أشار الشافعي إلى علة ثالثة في علم الكلام تأتي في المنطق فأخرج الهروى أيضًا من طريق أبى ثور قال سمعت الشافعي يقول: “حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد، ويحملوا على الإبل ويطاف بهم في العشائر والقبائل وينادي عليهم، هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام” … دل نصه على أن مما يعلل به تحريم النظر في علم الكلام كونه أسلوبا مخالفًا لأسلوب الكتاب والسنة، أو كونه سببًا لترك الكتاب والسنة ونسيانهما، وذلك جار في المنطق أيضًا” ([9]).

-قلت: استنبط السيوطي من كلام الشافعي علةً أخرى لتحريم النظر في المنطق قياسا على علم الكلام، وهي كونه يفضي إلى ترك الكتاب والسنة، وهذا يدل على معارضته لهما، وعدم إمكان الجمع بينه وبينهما. وهذا يؤكد ما نقله السيوطي نفسه عن الذهبي حين قال: “قَلَّ مَنْ أَمْعَنَ النَّظَر في علم الكلام، إلا وَأَدَّاه اجتهاده إلى القول بما يخالف محض السنة؛ ولهذا ذم علماء السلف النظر في علم الأوائل: فإن علم الكلام مُوَلَّدٌ مِنْ عِلْمِ الْحُكَمَاءِ الدهرية، فمن أراد الجمع بين علم الأنبياء وبين علم الفلاسفة بذكائه، فلابد وأن يخالف هؤلاء وهؤلاء، وَمَنْ كَفَّ ومشى خلف ما جاءت به الرسل من إطلاق ما أطلقوا ولم يتحذلق ولا عمق فإنهم صلوات الله عليهم أطلقوا وما عمقوا فقد سلك طريق السلف الصالح، وسلم له دينه ويقينه، نسأل الله السلامة في الدين”([10]).

ثم ساق السيوطي قول أبي حنيفة ومالك في ذم الكلام… ([11]).

ثم لخص مقاصد ذم الكلام للهروي، ونقل عنه إطباق السلف على ذم الكلام طبقة طبقة من الصحابة إلى الطبقة التاسعة… ([12]).

ثم رد على المتكلمين اعتراضهم باشتغال الفقهاء بالاجتهاد في الفروع وطلب أحكام الحوادث، بقوله: “إنا أُمِرنا بالاتباع، ونُدِبْنا إليه، ونُهِينَا عن الابتداع، وَزُجِرْنَا عنه. وشعارُ أهل السنة اتباعهم للسلف الصالح، وتركهم كل ما هو مبتدع محدث”، وبأن السلف “نهوا عن هذا النوع من العلم، وهو علم الكلام، وزجروا عنه، وعدوا ذلك ذريعة للبدع والأهواء”، بخلاف الاشتغال بالفقه فإنهم لم يذموه، بل ثبت عنهم القياس والاجتهاد في الفروع([13]).

ثم رَدَّ على أهل الكلام رَدَّهم لخبر الواحد في الاعتقاد، وبَيَّن أن أصل الدين الاتباع، وَبَيَّنَ مقام العقل عند أهل السنة وأن الأصل عندهم اتباع المأثور، والعقل تبعٌ له، خلافا لأهل البدع الذين جعلوا العقل أصلا والمأثور تبع له ([14]).

ثم نقل السيوطي كلام الجويني والغزالي في ذم الكلام وهما من أئمة هذا العلم وأساطينه… ([15]).

قلت: اشتغال السيوطي بتلخيص كتاب “ذم الكلام” للهروي، ورده على بعض شبهات المتكلمين يدل على الارتباط الوثيق بين علمي الكلام والمنطق، وهو ما يدل عليه عنوان الكتاب: “صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام”. وقد سبق قياس السيوطي المنطق على علم الكلام لاتحادهما في علة التحريم.

-ثم نقل مناظرة أبي سعيد السيرافي النحوي (368ه) لِمَتَّى بن يونس المنطقي النَّصْرَاني (328ه) بحضرة الوزير ابن الفرات، وظهور السيرافي عليه في ردِّ دعواه أنه لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل إلا بالمنطق اليوناني… ([16]).

-ثم ختم السيوطي الكتاب بإنكار العلماء على من أدخل المنطق في أصول الفقه وفي النحو…([17]).

 

([1]) صون المنطق ص 47.

([2]) صون المنطق ص48.

([3]) صون المنطق ص 48 فما بعدها.

([4]) صون المنطق ص52.

([5]) تاريخ ابن خلدون 1/580 .

([6]) صون المنطق ص 53.

([7]) صون المنطق ص 53-54.

([8]) صون المنطق ص64.

([9]) صون المنطق ص65.

([10]) صون المنطق ص52 نقلا عن ميزان الاعتدال 3/144.

([11]) صون المنطق ص66-67.

([12]) صون المنطق من ص 68 إلى ص209 .

([13]) صون المنطق ص209 فما بعدها.

([14]) صون المنطق من ص212 إلى 231.

([15]) صون المنطق من ص236 إلى 242.

([16]) صون المنطق ص243 فما بعدها.

([17]) صون المنطق ص255 إلى 256.

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M