سلوك شعاب الجد والاجتهاد في تحصيل العلم
هوية بريس – صفية الودغيري
على طُلاَّب العِلم أن يسلكوا كلَّ شِعبٍ من شِعاب العِلم وجدوا فيه منفعة، وأن يطلبوا كلَّ ثَنيَّة من ثَنايا المعارف أحَسُّوا بفائدتها؛ “فالْعِلْمَ أَشْرَفُ مَا رَغَّبَ فِيهِ الرَّاغِبُ، وَأَفْضَلُ مَا طَلَبَ وَجَدَّ فِيهِ الطَّالِبُ، وَأَنْفَعُ مَا كَسَبَهُ وَاقْتَنَاهُ الْكَاسِبُ؛ لِأَنَّ شَرَفَهُ يُثْمِرُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَفَضْلَهُ يُنْمِي عَلَى طَالِبِهِ”.
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أثنى على طالب العلم وعلى من سلك طريق العلم فقال: (مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه عِلْمًا، سلَك اللهُ به طريقًا مِن طُرُقِ الجَنَّةِ، وإنَّ الملائكةَ لَتضَعُ أجنحتَها رِضًا لطالبِ العِلْمِ، وإنَّ العالِمَ ليستغفِرُ له مَن في السَّمواتِ ومَن في الأرضِ، والحِيتانُ في جَوْفِ الماءِ، وإنَّ فَضْلَ العالِمِ على العابدِ كفَضْلِ القمَرِ ليلةَ البَدْرِ على سائرِ الكواكبِ، وإنَّ العُلَماءَ ورَثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُورِّثوا دينارًا ولا درهًما، ورَّثوا العِلْمَ، فمَن أخَذه أخَذ بحظٍّ وافرٍ).
وعلى طُلاَّب العلم أن يرتقوا مقامات العلم ويدركوا مراتبه العليا، ليدخلوا في زمرة من آثرهم الحق سبحانه، واصطفاهم لحمل أمانة العلم الثقيلة، وتبليغ رسالتها الشريفة، وأن يرتفعوا بالعلم في أقوالهم وأفعالهم، ليكونوا أهلا للارتفاع إلى مقامه، ويستحِقُّوا التكليف والتشريف الذي خَصَّهم بفضيلته، حيث لم يساوِهم بأهل الجهالة والغباوة، ولا بمن دونهم ممن لا يفقهون ولا يعلمون، ولا يميزون الحق من الباطل، ولا يَعْقِلون عنه أَمْرًا، ولا يفهمون منه زَجْرًا، فقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)..)، وقال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ ۖ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)..).
وعلى طُلاَّب العلم أن لا يزهدوا في طلب العلم، ويواصِلوا المُضِي في طريقه الطويل، ويأخذوا بأسباب الكدِّ والكدح في تحصيله، ويكونوا فيه من الطالبين الرَّاغبين في متونه، ومن المستكثرين الحافظين له، العاملين بأحكامه وأصوله وفروعه، ولا يأخذوا بالتقصير في جنابه، ويتركوا العمل بسننه وفروضه وواجباته، ويحتجُّوا بالأعذار الواهية والأشغال المتصلة اللاَّزمة، وتسويف النَّفس بالمواعيد الكاذبة والأماني الخادعة، “فإنَّ لكلِّ وقت شغلاً ولكلِّ زمان عذرا”.
كما ينبغي لهم أن لا يُبْطِئوا بالإِقدام على العلم، والجدِّ في طرق أبوابه ومنافذه، والسَّعي في الإقبال على شيوخه وحُذَّاق علمائه، وأن لا تَقْصُر همَّتهم عن لزوم مجالسهم، وأن لا يتخلَّفوا عن حضور حلقات دروسهم، ولا يتهاونوا في تَصَفُّح مصادر العلم الصَّحيح، واسْتِبانة كتبه وموسوعاته، حتى لا يفوتهم استدراك منافعها واقتناص فوائدها.
وقد نظم أحدهم أسباب تحصيل العلم فقال:
أخي لن تنال العلم إلا بسـتة سـأنبيك عن تعدادها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة***وإرشاد أستاذ وطول زمان
وقد أثنى على طلب العلم وتحصيله كل من سلمت فطنته وصَحَّت رَوِيَّته، وعرف فضله وقدره كل من لم يَبْخَسه حقَّه، وأكمل شرفه من استفرغ مجهوده في مدحه ورفع شأن أهله، وممن أثنى عليه عبد الملك بن مروان، حيث قال لبنيه: “يَا بَنِيَّ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنْ كُنْتُمْ سَادَةً فُقْتُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ وَسَطًا سُدْتُمْ، وَإِنْ كُنْتُمْ سُوقَةً عِشْتُمْ”.
وقال بعض الأدباء: “من لم يفد بالعلم مالا كسب به جمالا”.
وقال بعض البُلَغاء: “تَعَلَّمْ الْعِلْمَ فَإِنَّهُ يُقَوِّمُك وَيُسَدِّدُك صَغِيرًا، وَيُقَدِّمُك وَيُسَوِّدُك كَبِيرًا، وَيُصْلِحُ زَيْفَك وَفَاسِدَك، وَيُرْغِمُ عَدُوَّك وَحَاسِدَك، وَيُقَوِّمُ عِوَجَك وَمَيْلَك، وَيُصَحِّحُ هِمَّتَك، وَأَمَلَك”.
وإذا طَمِحت إلى أسْنى المراتب ورغِبت في بلوغ أعلى المنازل في تَحصيل العلم؛ فعليك أن لا تتعَجَّل حصاد الثَّمر قبل أوانه، ولا تتصَدَّر مجالس الشيوخ الكبار والعلماء الفطاحِل، حتى تتمرس بما تمرَّسوا به من طلب العلم وإتقانه رواية ودراية، وتدرك ما أدركوه من لبِّه ولبابه، وأن تتريَّث في الاجتهاد والتأويل والإفتاء بغير علم، حتى تكون أهلا للفتوى وإصدار الأحكام، وتكون سويا على جادة الحق والصواب، مصداقا لقول الحق سبحانه وتعالى، القائل في محكم تنزيله: ﴿أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (22)﴾.
كما ينبغي عليك أن تضرب الأرض وتشقَّ مناكبها بحافِر الجِد، وتتحمَّل وَعْثاءَ السَّفر في سبيل التَّحصيل والطَّلب، وتلازم شيوخ العلم وتُحاذي مَناكبهم، وتنتفع مِن مجالستهم وتتأدَّب بآدابهم وأخلاقهم، وتتلقَّى العلوم والمعارف ممن اخْتَصُّوا في أصولها وفروعها، وتفنَّنوا في شرحها وتلقينها، وحذقوا في امتلاك مفاتيحها وخبَروا أسرارها وعجائبها، وتكون حاضِر الذِّهن أثناء الإنصات إليهم، ولا تشغلك أعراض الدنيا والفتن عن انشغالك بتحصيل العلم، وتفرغ قلبك وعقلك من كل شيء وأنت في مجالس العلم وتلَقِّي الدروس النافعة، فتزداد بذاك سُموًّا في الحفظ ورِفعةً في تحصيل العلم، وتقبض بيدك على جمْر الشَّدائد والمحن ولا ينالك من ذاك نصَبٌ ولا ضجر؛ فالغايات العُظْمى لا تُدرك بالرُّكون إلى مجالس التَّرف والدَّعة والرَّاحة، بل تُدْرَك بالتَّعب والكفاح والمجاهدة، وشدِّ حزام المصابرة..
قال صفوان بن عمر بن عبد الواحد: “عرضنا على مالك الموطأ في أربعين يوماً، فقال: كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوماً قل ما تتفقهون فيه”. وقال: “لن ينال هذا ألأمر ـ يقصد تحصيل العلم، حتى يذاق فيه طعم الفقر”، وقال: “تعلموا من العلم حتى لبس نعله”.
فإذا أيقنت بما تؤمِن به ستُسَخِّر لأجل تبليغ رسالته كلَّ ما فطرك الله عليه، وستدافع عن قضاياه بكلِّ ما أوتيتَ من معرفة تُنال بالسَّمع والإِبْصار، وما تدركه بالعقل والإحساس، وما أوتيت من جهد وقدرة بلا تهاون أو إِغْفال، فكلُّ مَطْلب عزيز شريف المقصد وعظيم الغايات، يُهَوِّن عليك كلَّ مَشقَّة وكفاح..
حبذا مثل هذا المقال كل أسبوع.