سيكولوجية التطبيع The Psychology of Normalization التطبيع لا يُبْرَم… بل يُبَرْمِج

هوية بريس- د. الحضري لطفي
مقدمة: من السياسة إلى النفس
لم يعُد التطبيع مجرد حدث سياسي طارئ، ولا حتى خيارًا دبلوماسيًا في لحظة اضطرار، بل تحوّل إلى مشروع نفسي شامل يُعاد فيه تشكيل الإنسان العربي والمسلم على مستوى الشعور والذاكرة والانتماء. فالمسألة لا تقف عند حد توقيع اتفاق بين طرفين، بل تتجاوز ذلك إلى إعادة برمجة الوجدان، وتفكيك البنية العاطفية التي طالما ربطت الشعوب بقضاياها العادلة، وفي مقدّمتها قضية فلسطين.
لم يعد المطلوب أن تتعايش مع الاحتلال بوصفه واقعًا سياسيًا مفروضًا، بل أن تراه أمرًا طبيعيًا، وتتعامل معه بلا ألم، ولا توتر، ولا إحساس بالظلم. وهنا، يبدأ التحول الأخطر: حين يتحوّل الظلم إلى “طبيعي”، فإن العقل يتكفّل تدريجيًا بجعله “مبررًا”، ثم “مقبولًا”، وربما “مرغوبًا” باسم الواقعية والانفتاح.
إننا أمام حالة معقّدة من الاختراق النفسي المُمنهج، الذي يستهدف لا فقط المواقف، بل أجهزة الاستشعار الفطري لدى الإنسان: الضمير، الإحساس، البوصلة الأخلاقية، وموقع الولاء العَقَدي. ومع غياب المقاومة الشعورية لهذا التحوّل، تصبح المجتمعات عرضةً لأمراض جماعية: من التبلّد إلى التنافر المعرفي، ومن اضطرابات الهُوية إلى حالات مَرضية خطيرة كالسادية والمازوخية.
في هذا السياق، لم يَعُد من الكافي تفكيك التطبيع على المستوى السياسي والاقتصادي فقط، بل يجب فهم آثاره على المستوى النفسي والاجتماعي والعَقَدي، لأن ما يُراد قتله ليس فقط الموقف، بل القدرة على اتخاذ الموقف أصلًا.
في هذا النص، نغوص في سيكولوجيا التطبيع بوصفه جهازًا لإعادة تشكيل الشعور الجمعي، وتحويل الشعوب من كتلة حيوية نابضة تتألم وتقاوم، إلى جماهير باردة تُبرّر، أو تُنكر، أو تُنكر أنها تُنكر.
من توقيع المعاهدة إلى برمجة الوعي
في كثير من محطات التاريخ، عرفت الشعوب اتفاقيات سياسية فرضتها نتائج الحروب. هذه الاتفاقيات، وإن تضمنت تنازلات مؤلمة على مستوى الأرض أو السيادة، فإنها كانت تُفهم – شعبيًا ونفسيًا – في إطار الضرورة القاهرة، أو كنتيجة لهزيمة عسكرية واضحة. ففي مثل هذه السياقات، يبقى الشعور بالعداء حيًّا، ويظل الوعي الجمعي على قناعة بأن ما حدث هو وضع استثنائي لا يُلغي الحق ولا يُزيّف التاريخ. بل إن كثيرًا من هذه الاتفاقيات كانت تتم تحت عنوان “وقف إطلاق النار”، أو “اتفاق مؤقت”، يُحمِّل المحتل مسؤولية أخلاقية ولو مؤجلة، ويترك للشعوب بابًا مفتوحًا للرفض أو المراجعة أو حتى المقاومة.
أما التطبيع، فهو شيء آخر تمامًا. ليس مجرد اتفاق، بل إعادة تعريف للعلاقة، وإعادة تشكيل للشعور، وإعادة صياغة للوعي. فالتطبيع يُراد به أن تصبح العلاقة مع العدو طبيعية: بلا عداوة، بلا مرارة، بلا استحضار للظلم أو الاغتصاب أو الاحتلال. وهو بهذا المعنى لا يطلب منك فقط أن تسكت، بل يطلب منك أن تُبدي ارتياحك، أن تتجاوز الماضي، أن تمحو الجريمة من الذاكرة، وأن تتخلّى عن شعورك الفطري بالرفض.
هنا يَكمن البُعد النفسي الأخطر: ما هو “طبيعي” يصبح بمرور الزمن مقبولًا، بل مطلوبًا غريزيا. فالفرد، بطبيعيته، يسعى إلى الانسجام مع “الطبيعي”، ويتكيّف معه، حتى وإن كان هذا “الطبيعي” مُصطنعًا ومَفروضًا من الخارج. وهكذا، يُراد للمحتلّ أن يتحوّل من غاصب إلى جار، ومن قاتل إلى شريك، ومن خطر وجودي إلى فرصة للتعاون.
لكن هذه العملية تُولِّد تنافرًا فطريًا عميقًا، لأن النفس السليمة لا تقبل – بفطرتها – أن تُعامِل الظالم كأنه مُحسِن، ولا أن ترى من سرق الأرض وقتل الأبرياء شريكًا استراتيجيًا. فالتطبيع يُراد به تجاوز الحقيقة باسم “الواقعية”، لكن هذه الواقعية تُصطدم في عمق الضمير بـ”الحق”، فيتولد عن ذلك تناقض بين ما تراه العين، وما تُقرّ به النفس.
ولهذا، لا يبدو اختيار لفظ “التطبيع” مجرد صدفة لغوية، بل هو خيار محسوب بدقة من خبراء يفهمون اللغة والتأثير النفسي معًا. فلفظ “التطبيع” ليس توصيفًا محايدًا، بل يحمل في ذاته هدفًا مضمَرًا: أن يصبح غير الطبيعي طبيعيًّا، وأن يتم إخضاع الإدراك الجمعي لصيغة جديدة من القبول القهري. وهو ما يجعل من هذا المفهوم أداة عميقة في إعادة برمجة الشعور العام، أكثر من كونه اتفاقًا سياسيًا أو صفقة اقتصادية.
ومن هنا نفهم أن خطر التطبيع لا يَكمن فقط في البنود السياسية، بل في النتائج النفسية التي تترتب عليه، وفي المساس العميق بـ”البنية الفطرية للشعور”، التي يُراد تهذيبها قسرًا حتى تتماشى مع سردية مصطنعة، تُمجّد الاحتلال وتُجرّم المقاومة.
وفيما يلي تحليل لأبرز التحولات النفسية والاجتماعية التي زرعها التطبيع، وما نجم عنها من اضطراب في التصور والهُوية.
تقبّل القضاء على القضية الفلسطينية:
تكييف الانفعال بدل رفع الصوت.
حين تُصبح العلاقة مع العدو جزءًا من “الواقع السياسي”، ويتوقف الإعلام عن تسميته “عدوًا”، يبدأ الوعي الجمعي في إعادة تشكيل موقفه العاطفي. يتلاشى الشعور بالغضب، ويحلّ محله شعور بـ”اللامبالاة السياسية”، ثم “الاعتراف الواقعي”، ثم – تدريجيًا – قبول موت القضية دون جنازة شعورية. هذا لا يعني فقط الصمت، بل التحول من موقف رافض إلى موقف بارد، ومن موقف تضامني إلى نظرة داخلية: “فلينقذوا أنفسهم كما أنقذنا أنفسنا”.
خلق اضطراب على مستوى الانتماء:
الانتماء الطبيعي للفرد في العالم الإسلامي لم يكن يومًا محصورًا داخل حدود سياسية مصطنعة، بل كان مركّبًا من: الإسلام، العروبة، الجغرافيا المشتركة، والعدو المشترك. لكن التطبيع كسر هذا التداخل، فجعل الفرد يشعر أن بوصلته لا تتطابق مع بوصلة دولته، مما ولّد صراعًا داخليًا بين الضمير الشخصي والخطاب الرسمي. وهذا يُنتج ما يُعرف في علم النفس الاجتماعي بـ”الاغتراب المعنوي”، حيث يشعر الفرد أنه غريب داخل وطنه، لأنه لا يستطيع التعبير عن رفضه، ولا يستطيع تقبّل صمته.
تعميق الانتماء القُطري الضيق:
في سياق تبرير التطبيع، يُعاد تعريف الهُوية السياسية وفق مبدأ “المصلحة الوطنية أولًا”، لكن دون توضيح من يحدد هذه المصلحة. وهنا يحصل انقلاب في سلم الانتماءات: من الأمة إلى الدولة، ومن الشعب إلى القيادة، ومن القدس إلى مشاريع داخلية محضة. فيُصبح الفلسطيني عبئًا، لا أخًا، وتُصبح الشعوب الأخرى “مشاكل خارجية”، لا امتدادًا لذاتنا الأخلاقية.
النتيجة: تضييق الأفق الأخلاقي للانتماء، واختزال الواجبات في طاعة الدولة فقط، لا نصرة الأمة.
إضعاف البُعد الإيماني في الولاء والبراء: الانشطار الشعوري
الانتماء للأمة في الإسلام ليس موقفًا وجدانيًا عابرًا، بل هو مكون عَقَدي جوهري ضمن منظومة الولاء والبراء، التي تُحدِّد للمسلم من يوالي ومن يُعادي، بحسب ميزان العقيدة لا ميزان المصالح. هذه المنظومة الإيمانية تُبنى على قوله تعالى: “إنما وليّكم الله ورسوله والذين آمنوا”، وهي التي تجعل من العاطفة السياسية امتدادًا للوعي العَقَدي، لا قطيعة عنه.
لكن مشروع التطبيع يسعى إلى تحييد هذا البُعد العقدي، من خلال الترويج لمفاهيم مستوردة مثل “التسامح غير المشروط”، و”السلام الإبراهيمي”، و”التعايش الديني” خارج أُطر الحق والعدل. فيُطلب من المسلم أن يطوّع انتماءه الديني لمعادلات سياسية متقلّبة، فيدخل في صراع داخلي مؤلم:
₋ هل يُحبّ من أمره الله ببغضه؟
₋ هل يُعادي من أمرته دولته بموالاته؟
₋ هل يصطف مع أمته المستضعفة؟ أم مع حكومته المُطبّعة؟
هذا التمزق بين المرجعيتين، يُنتج ما يُعرف في علم النفس بـ “التنافر المعرفي”(Cognitive Dissonance)، وهو حالة من التوتر النفسي الشديد تنشأ عندما تتصادم القناعات الداخلية مع السلوك الظاهري المفروض، ويُجبر الفرد على تبني مواقف تُخالف ضميره الديني أو الأخلاقي.
ومن آثار هذا التنافر:
1. نفاق داخلي مقنّع: حيث يُظهر الفرد عكس ما يُبطن، حفاظًا على مصالحه أو خوفًا من العقوبة، مما يُكرّس ازدواجية في الشخصية تُفرغ القيم من مضمونها، وتُحوّل السلوك إلى وسيلة دفاع نفسي.
2. اضطراب وجداني إيماني: حيث يفقد الإنسان بوصلته الروحية، فلا يعود يعرف من يُناصر ومن يُعادي، ويُصاب بتشوش في الانتماء العقدي، يزعزع علاقته بالله عز وجل، ويُضعف إحساسه باليقين والولاء للأمة.
3. تفكك في البناء النفسي: إذ يَشعر الإنسان بانقسام بين شخصيته الظاهرة، التي تساير الخطاب الرسمي، وشخصيته الإيمانية التي تُكابد التناقض، فيعيش حالة من التيه الأخلاقي والانفصال عن الذات، ويتحوّل من فاعلٍ إلى متفرجٍ بلا هُوية.
4. قلق مزمن يُضعف العلاقات ويُهدد التوازن النفسي: فالتنافر المستمر يُفرز توترًا داخليًا لا يزول، يُضعف علاقة الإنسان بأسرته، ويؤثر على تواصله العاطفي مع زوجته وأبنائه، كما يُضعف إنتاجيته المهنية بسبب فقدان المعنى وتراجع الحافز.
5. اكتئاب: تغذّيه مشاعر العجز، وفقدان القدرة على التعبير، والإحساس بالخذلان، فيتحوّل الحزن إلى نمط شعوري دائم، ينخر في صلابة الإنسان من داخله، ويُضعف قدرته على الفعل، والمبادرة، والإنتاج. وهذا المرض النفسي لا يقف عند حدود الشخص، بل يُصدّر أثره إلى المجتمع، فيُنتج أجيالًا مشوّشة، فاقدة للأمل، لا تُبادر، ولا تُقاوم، ولا تُبدع.
والأخطر من ذلك أن هذا الاكتئاب – مقارنةً بحالة القلق – يُؤثّر بعمق أكبر على الإنتاجية العلمية والاقتصادية، لأنه يُعطّل الحافز، ويُطفئ الرغبة في الحياة ذاتها. وهنا يتقاطع المسار النفسي مع المسار السياسي: فالمُطَبّع لا يكتفي بإخماد الذاكرة، بل يُراد له أن يُنتج بشرًا مُنهارين نفسيًّا ومُعطّلين حضاريًّا، يستهلكون ولا يُنتجون، يتأقلمون ولا يبادرون، ويقبلون التبعية بدلًا من السيادة.
والهدف البعيد من هذا المسار هو إبقاء الأمة “وظيفيّة” لا حضارية، تابعة لا رائدة، تدور في فلك من يُطبع معها، وتفقد القدرة على صناعة البديل. فالاكتئاب هنا ليس مجرد مرض فردي، بل هو نتيجة مقصودة لسياسة مُمَنهجة تستهدف إضعاف الأمة من داخلها، من خلال ضرب مناعتها النفسية، وتحويل الشعوب إلى كتل بشرية خاملة تُساق ولا تسوق.
وهكذا، يتحوّل التطبيع من خيار سياسي إلى أداة تفكيك نفسي وعقدي، تُفرغ المسلم من مرجعيته، وتُقنعه – دون أن يشعر – بأن الولاء للأمة فكرة قديمة، وأن التعايش مع الباطل “ضرورة واقعية”. وهذا هو مَكمَن الخطر الأكبر: تبديل العقيدة تحت غطاء “الاعتدال” السياسي.
تدهور الانتماء للأخوّة الإسلامية: من جسد واحد …
التطبيع يُضعف المشاعر الجامعة بين المسلمين. فحين تُعرض صور القصف في غزة، أو جثث الأطفال في جنين، لا يَعود السؤال: “كيف نُساعد؟”، بل: “ما دخلنا؟”. ومع مرور الوقت، تُصبح المآسي الإسلامية مشاهد اعتيادية، لا توقظ إلا حسرة عابرة، سرعان ما تخبو أمام مشاغل الحياة اليومية. وهذا التحول خطير، لأنه يقتل مفهوم “الجسد الواحد” الذي وصفه النبي ﷺ بقوله: “مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ، مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى”، (رواه البخاري).
وبدل أن يبقى المسلم عضوًا حساسًا يتفاعل مع ألم أمته، يُعاد تشكيله نفسيًا ككائن فردي منزوع الأخوّة، لا يرى في مآسي أمته امتدادًا لألمه، بل يراها كمشهد إعلامي لا يخصّه، أو كحدث خارجي لا يُلزمه.
وقد أشرنا في مقال سابق إلى أن هذه الحالة تُعبّر عن “متلازمة غزّة”، وهي ظاهرة نفسية جماعية يُصاب فيها الإنسان المسلم بتبلّد شعوري تجاه المعاناة المتكررة، نتيجة التعرّض المزمن لصُور الألم دون فعلٍ ولا مخرجٍ ولا مقاومة. وهي من أعراض التطبيع الأعمق، إذ تُعيد برمجة الإحساس، لا لتُنهي التعاطف فقط، بل لتزرع في محلّه اللامبالاة المستقرة، كخطوة نهائية في قتل الانتماء الأخلاقي.
تقبّل انهيار دول إسلامية دون شعور بالخسارة المشتركة
حين يُعتدى على بلد مسلم، يُبرر المواطن في بلد مُطبّع ذلك بأنه “أمر لا يعنينا”. هذا ليس حيادًا سياسيًا، بل حيادًا شعوريًا يُمثل أعلى درجات اللامبالاة الأخلاقية. وتكرار هذا الانفصال يُدرّب العقل الجمعي على تقبّل الانهيارات كأمور عادية. فاليمن، وسوريا، والعراق، وليبيا… لم تعد تثير الحس الجماعي العربي والإسلامي كما كانت. والسبب أن التطبيع ألغى الرابط الأخلاقي، وجعل الإنسان يقبل سقوط الآخر كما لو كان يشاهد سقوطًا في فيلم وثائقي بلا سياق شخصي.
تقبّل الظلم الداخلي والتطبيع مع القمع:
من السياسة الخارجية إلى استباحة الداخل.
حين يُبرَّر التطبيع مع الاحتلال بأنه “واقعي” و”حتمي”، فإن ذلك يُطلق سلسلة قبول للظلم الداخلي أيضًا. فالدولة التي تبرر ذلك الظلم في الخارج، لن تتردد في تبرير سجن المصلحين، أو تعذيب المعارضين، أو اغتيال الصحفيين. ومن يقبل قتل أخيه الفلسطيني في الخارج، سيتعود على قتل أخيه في الداخل، أو على الأقل على السكوت عنه.
هنا يتحوّل التطبيع من ملف خارجي إلى محرّك لاختلال في القيم المحلية، حيث تتشابه مشاعر الصمت أمام الظلم في الخارج مع الصمت أمام الظلم في الوطن.
سيكولوجية الظلم: بين المازوخية والسادية
تقبّل التطبيع مع كيان ظالم، مغتصب للأرض، منتهك للحقوق، ليس مجرّد موافقة سياسية، بل هو – في جوهره – قبول نفسي بالظلم، وتطبيع وجداني مع القهر، وتخلي ضمني عن الحس الفطري بالعدل والانتصار للمظلوم.
وعندما يتحوّل هذا القبول إلى نمط شعوري متكرّر، لا يُستنكر فيه الظلم، بل يُسوَّغ ويُبرَّر، فإننا نكون أمام حالة سيكولوجية شاذة يجب التوقّف عندها. فالموافقة على ظلم يقع على الآخرين – سواء أكانوا إخوة في الوطن أو إخوة في الدين – تُعد الخطوة الأولى في تفكيك الحسّ الأخلاقي الداخلي. والأسوأ من ذلك أن الفرد، مع الوقت، يُعيد تشكيل وعيه ليقبل الظلم الواقع عليه هو نفسه، دون مقاومة أو حتى شعور بالرفض.
في هذا السياق، يُمكن أن يتطوّر هذا الانسحاب الأخلاقي إلى واحدة من حالتين مرضيتين معروفَتين في الطب النفسي:
1. المازوخية: وهي ميل مرضي إلى استعذاب الألم، أو التكيّف المَرَضي مع المعاناة، بحيث تتحول المظلومية إلى حالة استقرار نفسي، ويصبح الإنسان أكثر راحة حين يُظلم من أن يُقاوم. والمجتمع الذي يتكرر فيه هذا القبول قد يُنجب أجيالًا تُفضّل الخضوع، وتُقاوم المقاومة ذاتها.
2. السادية: وهي الوجه المعكوس للمازوخية، حيث يتماهى الإنسان مع الظالم، ويُصبح متلذذًا بإذلال الآخرين، وربما يرى في قهر الضعفاء إثباتًا لولائه للسلطة أو تفوّقه على المقهورين. وقد يظهر ذلك في تبرير العنف الداخلي، أو في الشماتة من قضايا الأمة.
وهذا التحليل ليس ضربًا من الترف العلمي، بل هو من الحقائق الراسخة في علم النفس الإكلينيكي والاجتماعي. فكل المدارس النفسية – من التحليلية التي تُفسّر التكرار القهري باللاوعي المكبوت، إلى المعرفية التي تُرجع السلوك إلى التشوهات الإدراكية، إلى السلوكية التي ترى أن التكيّف مع القهر يولّد اعتيادًا واستجابة مشروطة – كلها تُجمع على أن البيئة، والضغوط المزمنة، والتعرض المتكرر للانحرافات الأخلاقية، يُعيد تشكيل الشخصية، وقد يقود إلى اضطرابات سلوكية أو وجدانية إذا لم تُقابل بمقاومة داخلية أو اجتماعية.
أما في علم النفس الفطري، فإن الأمر أشدّ خطرًا، لأن التطبيع لا يُشوّه السلوك فحسب، بل يُفسد البنية الفطرية للتمييز بين الحق والباطل، والعدل والظلم، والولاء والخيانة. إنه لا يُعطّل فقط آليات التفكير أو الاستجابة، بل يضرب أعماق الإنسان حيث يُفترض أن تعمل الفطرة مرجعًا أخلاقيًا ثابتًا. فإذا تُكرّس القبول بالباطل وتبلّدت الأحاسيس تجاه المظلوم، فإن ذلك يُنذر بانقلاب في البوصلة الفطرية ذاتها.
فلا يمكن – علميًا – أن تمر الأحداث الجارحة، والصدمات الجماعية، والمواقف المتكررة من الظلم والقهر، دون أن تترك ندوبًا نفسية في الفرد والجماعة. وإن لم تُعالج هذه الندوب عبر الوعي والمقاومة، فإنها تتحوّل إلى تشوّهات في الإدراك، وتغيّرات في نمط الاستجابة العاطفية والسلوكية.
ومن هذا المنطلق، نفهم كيف قبِل قطاع واسع من الشعب الألماني – إبان العهد النازي – جريمة الهولوكوست، بل انخرط في تنفيذها، أو على الأقل سكت عنها. فالتكيّف الجماعي مع العنف، إذا لم يُواجَه بضمير حيّ، يمكن أن يُحوّل أمة بأكملها إلى شريك في الجريمة، باسم “الضرورة” أو “السلامة” أو “الولاء”.
ومع ذلك، فإن الفطرة لا تُباد بالكامل. يبقى دائمًا في كل شعب نُخبة تقاوم، تحفظ جذوة الوعي، وتُعيد التوازن، وتُذكّر الأمة بوجهها الحقيقي. هؤلاء هم من يوقفون الانهيار التام، ويكسرون سلاسل التطبيع مع الظلم، ويمنعون تحول القبول إلى سلوك مرضي جماعي يُفرغ الإنسان من إنسانيته.
خاتمة:
لم يعُد التطبيع مجرّد خيارٍ سياسيٍ يُناقَش في أروقة القرار، بل أضحى – كما رأينا – مشروعًا يُخاطب الأعماق، ويستهدف إعادة تشكيل الوعي، وإعادة برمجة الانتماء، وتفكيك البنية الفطرية التي كانت تستنفر عند رؤية الظلم أو سماع صوت الاستغاثة.
لقد أظهر التحليل النفسي والاجتماعي أن خطر التطبيع لا يكمن في البنود الموقَّعة، بل في أثرها طويل المدى على البنية الشعورية والهُوية العَقدية. فحين يتحوّل الاستثناء إلى قاعدة، والظالم إلى شريك، والاحتلال إلى ملف قابل للتفاوض، فإن ذلك يُعيد تعريف الإنسان ذاته: كيف يشعر؟ لمن ينتمي؟ وما الذي يستحق أن يُغضب له القلب أو يُقاتَل من أجله؟
من التحليلية إلى المعرفية إلى السلوكية إلى الفطرية، تتفق المدارس النفسية – على اختلاف أدواتها – بأن التكرار القهري للانحرافات دون مقاومة، يُنتج بنى ذهنية وسلوكية مختلّة، قد تنتهي بالإنسان إلى التبلّد أو الانفصام أو الانحراف المرضي.
إن قبول الظلم باسم الواقعية، والتعايش مع الاحتلال باسم التسامح، والتخلي عن الأخوّة الإسلامية باسم “المصلحة الوطنية”، ليست مجرد تغيرات في اللغة، بل هي مراحل متقدمة من إعادة برمجة الضمير. وإذا لم يُقاوِم الفرد هذا التحوّل من داخله، فإن كل مقاومة خارجية ستفقد معناها.
لهذا، فإن مقاومة التطبيع ليست شأنًا سياسيًا بحتًا، بل هي واجب نفسي، وعقائدي، وفطري. تبدأ من لحظة استعادة الشعور، وتثبيت الرفض في القلب، ومراجعة الانتماء، وتحصين الأسرة، وإعادة تعريف ما هو طبيعي وما هو مُفتعل. تبدأ من داخل النفس… لأن الأمة التي تفقد مناعتها النفسية، لن تقوى على حماية أرضها، ولا الدفاع عن شرفها، ولا الصمود في وجه تاريخ يُعاد هندسته قسرًا.
إن بقاء جذوة الوعي الفطري حيّة، ولو في القليل، كافٍ ليقلب المعادلات. فكما لم يُفلت التاريخ من نُخبٍ صدحت بالحق في زمن الصمت، فإن هذه الأمة، ما دام فيها من يُسمِّي الأشياء بأسمائها، ويعرف العدو من الشريك، ويؤمن أن الظلم لا يصبح عدلًا مهما طال به المقام… فإنها لن تموت.



