سيّد قطب عَاشقًا للكتب
هوية بريس – ربيع السملالي
كثير من المثقفين فضلاً عن غيرِهم لا يعرفون عن الأستاذ الكبير سيد قطب أنّه كان من عشّاق الكتب، ومن طلاّب المعرفة، ومن الباحثين عن هذا الوعاء الذي مُلئ علمًا (الكتاب) مذ كان طفلا صغيرًا في قريته (موشا).. وإلى أن قُتِل رحمه الله.. فالمهتمون لا يعرفون عن سيد قطب إلا أنّه كان أديبًا وناقدًا فحلا، وربما شاعرًا أيضا، خرج من مدرسة العملاق عباس محمود العقاد.. قبل أن يتحوّل إلى العمل الإسلامي بعد رجوعه من أمريكا، والانكباب على الكتابات الإسلامية الفكرية التي تدعو إلى تطبيق شريعة الله على أرض الواقع.. ولكنّهم يجهلون كلّ الجهل أنّه قال يومًا للأستاذ وديع فلسطين وهو معه في سيارة أجرة كما أخبر عن ذلك الأستاذ وديع في كتابه (وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره ج1ص:283.284):
“إنّني أقتّرُ على نفسي في معيشتي كي أستطيعَ شراء ما أحتاجه من كتب، ولو كان عليّ أن أختار بين شراء جورب عوضًا عن جوربي المثقوب وبين شراء كتاب، لفضّلتُ شراء الكتاب”.
وكأنّي به يقول ما قاله أبو البقاء الكَفَوي في كلياته: (وبعدُ، فمُذ أميطَت عنّي التّمائم، ونيطت بي العمائم، قدّرَ الله لي أن ألازم الكتابَ وأداوم الفنون، وأكتحل بإثمد الليالي لتنوير العيون.. والكتاب أحبُّ إليّ من كلّ حبيب، وأعجب لديّ من كلّ عجيب).
وكان معروفًا بين أهل قريته ومثقفيها وهو شاب صغير بهذا العشق الجميل: (عشق الكتب).. فناظِرُ المدرسة يُعجب بهذه الموهبة فيه، ويعيره الكتب كما نقل ذلك الخالدي في كتابه (سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد) بعدما قال:
(نشأ سيّد قطب على محبّة المطالعة والقِراءة، والتّزود من المعرفة والثّقافة).
ويذكر سيّد عن نفسه في سيرته الذاتية (طفل من القرية) أنّه كان يتردّد على أهل القرية بائعُ كتب، وهو (العمّ صالح)، وكان سيد زبونًا ممتازًا عنده يعرفه جيّدا، ويحتفظ له بأجود الكتب، وأكثرها خطرًا، فما كان صاحبنا ليبخل على الكتب بالمال، مهما ارتفع السِّعرُ، وحتى لو بلغ ثمنُ الصّفقة الواحدة خمسة قروش.
وكان يوفّر (مصروفه) اليومي، ويجمعه، بانتظار قدوم (عمّ صالح) بكتبه، فيشتري منها بمصروفه، فإذا نفد المصروفُ استعان بوالده فأعطاه ما يشتري به.
وإذا أعجِبَ بالكتاب ولم يقدر على شرائه، استعاره من (عمّ صالح) استعارةً خارجية، وبعد قراءته يردّه له، ويوصيه أن يحضرَه له في المرّة القادمة ليشتريه.
وقد ارتفع سيّد قطب في أعين أهل القرية بهذا العشق والوله والاهتمام بالكتب وقراءتها درجات، وأخذ الجميع يتنبّؤون له بالمستقبل الزّاهر…
لسانُ حاله:
إذا استحسنتُ الكتابَ واستجدته، ورجوتُ منه الفائدة، ورأيتُ ذلك فيه -فلو تراني وأنا ساعةً بعد ساعة أنظرُ كم بقيَ من ورقه مخافةَ استنفاده، وانقطاع المادّة من قِبَله، وإن كان المصحفُ عظيمَ الحجم كثيرَ الورق، كثير العدد- فقد تمّ عيشي وكمُل سروري.
ولا غرو فهو القائل في مقدّمة (الظّلال): “الحياة في ظلال القرآن نعمة لا يعرفها إلا من ذاقها. نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكّيه..”، وفي (المعالم ص18): “إنّ هذا القرآن لا يمنح كنوزه إلا لمن يُقبل عليه بهذه الرّوح: روح المعرفة المنشئة للعمل”.
وكانت له وهو صغير مكتبة ضخمة كما ذكر عن نفسه في سيرته وكان عاشقًا لها لا يبغي عنها حولا، ومن عناوينها: قصص أبي زيد الهلالي، والزير سالم، وكليب، ودياب بن غانم، والزناتي خليفة، وسيرة إبراهيم الدسوقي.. وبعض القصص البوليسية الأجنبية.. وغير ذلك كثير..
وممّا يعزّز رأينا فيما ذهبنا إليه من أنّ سيّدًا كان عاشقًا للكتب جمّاعةً لها، مغرمًا بالقراءة ما كتبه عن نفسه في كتاب (العدالة الاجتماعية ص:203): “إنّ الذي يقول هذا الكلام إنسان عاش يقرأ أربعين سنة كاملة، كان عمله الأول فيها هو القراءة والاطلاع في معظم حقول المعرفة الإنسانية، ما هو من تخصصه، وما هو من هواياته الثقافية.. ثم عاد إلى مصادر عقيدته وتصوره، فإذا هو يجد كل ما قرأه ضئيلاً ضئيلاً إلى جانب ذلك الرّصيد الضخم -وما كان يمكن أن يكون الأمر إلا كذلك-، وما هو بنادم على ما قضى فيه أربعين سنة من عمره..”.
فانظر يرعاك الله إلى قوله: (كان عمله الأوّل فيها هو القراءة) أربعون سنة وهو على هذه الحال لا يملّ ولا يضجر، وهل رأيتم عاشقًا يسرع إليه الملل، ويستولي عليه الضّجر تجاه معشوقه ؟ لا والله..
وقد ذكّرني كلامه هذا بالحَسَنُ اللؤلؤي الذي قال: “غبرت أربعين عامًا ما قِلْتُ ولا بِتُّ ولا اتّكأتُ إلاّ والكتاب موضوع على صدري”.
ومن يطالع كتابه الضّخم (في ظلال القرآن) يلاحظ ذاك الكمّ الهائل من المراجع الغربية والعربية والإسلامية التي يستشهد بها.. ثمّ يأتي شابّ غرّ لم يقرأ عشرةَ كتب في حياته ليرفع عقيرته ويقول: لم يكن سيد قطب عالمًا ولا شبيها بالعلماء.. يا مسكين:
(ما أنتَ بالحكم التّرضى حكومته…ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجَدَل)
ولنذكّر هذا القائل وغيره أنّ سيّد قطب قد التحقَ بمدرسة المعلّمين الأولية، وهي مدرسة تشترطُ فيمن يتقدّم إليها أن يكون حافظًا للقرآن الكريم، ويُعقد له امتحان قبل أن يُقبل، ليجد نفسه أمام دروس الفقه والتوحيد والحديث والسيرة النبوية. وقد كان سيّد حافظا ضابطا لذلك كلّه في مرحلة الشّباب… [يُراجع “كتاب النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين” ج3ص161].
ومن يطالع كتابه (كتب وشخصيات) أو كتاب (النّقد الأدبي أصوله ومناهجه) الذي قرأ من أجل تأليفه نحو مائة كتاب عدا الفصول المتفرقة في الصحف والمجلات، سيعرف أنّ الرّجل كان صديقًا حميمًا للكتب، وكان قارئًا نَهِمًا لا يقع كتاب في يده إلا استوفى قراءته.. كما حُكي عن الجاحظ قديمًا.
وعلى كلّ حالٍ فلا أعتقد أنّ هناك أديبًا أريبًا، أو كاتبًا مجيدًا كان في خصام مع الكتب، فالكتب هي التي تصنع المبدعين، وعشّاق الكتب هم أكثر الأدباء تأثيرًا في المتلقي. فمن يعشق الكتب كما عشقها الجاحظ قديمًا، وكما عشقها سيد قطب حديثا، وغيرهما من أدباء وعلماء هذه الأمّة فلا يمكن أن يتجاوزهم القرّاء بغير اهتمام عبرَ العصور والأزمان. فهم يعلمون (أنّ هذه الكتب هي التي تزيد في العقل وتشحذه، وتداويه وتصلحه، وتهذّبه، وتنفي الخَبَثَ عنه وتفيدك العلم، وتصادق بينك وبين الحُجّة، وتعوّدك الأخذ بالثّقة).
ودامت لكم المسرات.
قال الله تعال “وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت”إنه جنون العظمة والقوة والطغيان الذي لايقبل أن يسمع همسا أو وشوشة أو حسّا مخالفا أو غير مخالف،وهنا نقف ونسأل بمرارة وألم مابعدهما مرارة وألم،ألأجل آرائه قبروا هذا الرجل المسن في السجن حتى أمسى برئة واحدة لايقدر على الصيام،في زنزانة بساتر وبلا باب يتلظى بين قيظ الصيف وزمهرير الشتاء ،حيث عكف في هذه الظروف على إخراج تفسير للقرآن يعتبرمنارة دينية وتحفة فكرية وبديعة أدبية،كانت تكفي لتقديره واحترامه وإكرامه لكن بدل هذا نُفّذ فيه مايتعذّر إصلاحه،وكان وطنيا وفديا سعديا لم تلن له قناة مع الإستعمار،وأديبا بأسلوب متميز وذكاء وقّاد جعله يكتشف موهبة محفوظ ويبشّربتميّزها ويوجّهها بنصائح غالية ،وكان قطب من طينة أدباء الغرب الذين يكتبون لرقي أوطانهم ومجتمعاتهم وأفرادهم مترفّعين عن حظوظهم الدنيوية.
سيادته في الادب الرباني لا تنكر و مواقفه الشريفة تعتبر رحمه الله