شريف جابر: في نقد مقولة “غالب علماء الأمة في مختلف العلوم من الأشاعرة والماتريدية” وما يراد منها
هوية بريس – شريف محمد جابر
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبيّ بعده، أمّا بعد، فقد سأل سائل كريم عن مقولة بعض المعاصرين في أنّ “غالب علماء الأمة الاسلامية وأصحاب الأسانيد في الحديث والتلاوة وكبار المحققين وأصحاب المتون والحواشي وواضعي علوم الأصول والمقاصد هم أشاعرة وماتوريدية”. محتجّين بذلك على صحّة مذهبهم وشرعيّته وضرورة اتّباعه، وعلى أنّه لا مدخل للإنسان إلى دين الله إلا من طريق الأشعرية أو الماتريدية، وكذلك لتقريع من يجرؤ على توجيه النقد لمذهب الأشعرية أو الماتريدية، كأنّهم يُسبلون هالة من “القداسة” على المذهب الكلامي من خلال هذه المقولة، ويصبح الناقد منتقصًا لكل هؤلاء، وليس كذلك كما سيأتي.
والردّ على هذه المقولة من وجوه:
01. الأصل في اعتقاد المرء اتباع البرهان لا الرجال، والله سبحانه يقول {قل هاتوا برهانكم} ولم يقل “قل هاتوا رجالكم”. وهو ما عليه هؤلاء الأئمة من الأشعرية والماتريدية، إذ لا يجيزون التقليد في الاعتقاد. فكيف يُستدلّ على شرعية مذهبهم وضرورة اتّباعه بالكثرة وانبثاث رجالهم في مختلف العلوم؟! ومن ثمّ فلا قيمة لهذا الاستدلال في مقام الاعتقاد. بل لا قيمة في أن يقلّد المسلم في العقائد فيقال: أشعري أو ماتريدي.
02. نشط الماتريدي في النصف الثاني من القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، وكذلك الأشعري، وتوفي الأول عام 333 هـ وتوفي الثاني عام 324 هـ، وقد سبقهم أئمة كبار كتبوا في العقائد وحاججوا الفرق المخالفة للسنّة والخارجة عن الإسلام، كما ألفوا كتب الفقه والتفسير والحديث وشروحه والأصول والنحو واللغة والبلاغة وغيرها من العلوم، بل أسّسوها، وجميعهم لم يكونوا منتسبين للأشعرية أو الماتريدية، بل كان معظمهم بعيدًا عن علم الكلام والخوض فيه، فأين هؤلاء من جملة “غالب علماء الأمة”؟ وما وزن المتأخرين المقلّدين في جنب المتقدّمين المؤسسين لتلك العلوم والذين كانوا أقرب إلى عصر التابعين والصحابة وشاع بينهم المجتهدون كمالك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن وزفر والشافعي والأوزاعي والثوري والليث بن سعد وصولا إلى أبي داود والطبري وغيرهم من عشرات الأئمة المجتهدين الكبار، فهؤلاء جميعا لم ينتسبوا إلى الأشعرية أو الماتريدية، وكان الغالب عليهم الاجتهاد والاستدلال لا التقليد، فهم أحرى بأن يُتحرّى ما اجتمعوا عليه من عقائد وما لم يختلفوا فيه، وليس المتأخرون الذين سلكوا في سلك الأشعرية أو الماتريدية تقليدا وانسياقا مع البيئة الغالبة وما يُدرَّس لهم في المؤسسات التعليمية في عصرهم.
03. الأشعرية والماتريدية إنّما هي مذاهب في ما اختُلف فيه من مسائل العقائد والكلام، فلا الأشعريّ يبدّع الماتريدي ولا الماتريدي يبدّع الأشعريّ؛ لأنّ المسائل التي اختلفوا فيها هي من باب الخلافيات، فأيّ وجه من الحقّ بأن يقيّم الناس بناء على انتسابهم إلى مذهب أو مجموعة مذاهب (كما سيأتي) في تفاصيل العقائد التي لم ينزل فيها نصّ فاصل قاطع؟ فإنْ قيل إنّ من بين ما يطرحه الأشاعرة والماتريدية ما جاء به صريح الوحي وقطعيّه، قلنا: فهل أتى به المزني والطحاوي والمروزي والبخاري والرازيان والطبري وغيرهم من أئمة القرنين الثاني والثالث في عقائدهم التي بلغتْنا؟ فإنْ قيل نعم (ولا بد من نعم) فأيّ وجه في أن ينتسب الناس إلى الأشعرية أو الماتريدية فيما وافقت فيه سواد أهل السنّة من عقائد ولم تتميّز به؟
04. على أنّ الأشعرية أشعريات، ومذهب الفخر الرازي (605 هـ) في أشياء ليس هو مذهب الجويني (478 هـ)، ومذهب الجويني في أشياء ليس هو مذهب الباقلاني (403 هـ)، ومذهب الباقلاني ليس مطابقا لمذهب أبي الحسن الأشعري الذي يُنسب إليه كل هؤلاء، فأي قيمةٍ في أن يقال فلان أشعري؟ ومن الذي أفتى بأنّ ما كتبه السنوسيّ (895 هـ) المتأخر مثلا هو الصواب من بين الأشعريات؟ ولماذا يُقبل أن يختار المرء من بين تلك الأشعريّات فيكون أشعريا رازيا أو أشعريا باقلانيّا ولا يُقبل أن يختار غيرها من مذاهب العلماء قبل الأشعري وبعده في مسائل العقائد الخلافية ما دامت جميعها تحمل حظّا من النظر والاستدلال داخل إطار أهل السنة؟
05. وليس كل من يُنسب للأشعرية هو أشعري حقّا، فكثير من العلماء الذين يُتَكَثَّر بهم لم يردْ عنهم تصريح بالانتساب إلى الأشعرية أو تأييد لها، بل ولدوا في عصور هيمنة الأشعرية فيُسلكون في سلكها دون دليل، لنبوغهم في علوم أخرى. ولهذا فلا يصحّ الزعم بأنّ كل علماء القرون المتأخرة كانوا من الأشعرية أو الماتريدية. وهذا الإمام أبو الحسن الكرجي الشافعي (532 هـ) من أئمة القرنين الخامس والسادس كان شافعيا ولم يكن على عقيدة الأشاعرة، وكان مثله كثير من عصره وقبله وبعده، وكتب كتابا سمّاه “الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول” حكى فيه عقائد اثني عشر إماما أولهم مالك وآخرهم البخاري ومن بينهم الشافعي، ونعى على الشافعية مخالفتهم لاعتقاد الشافعي مع انتسابهم له في الفقه. وهذا الإمام شمس الدين الذهبي الشافعي أيضًا (748 هـ) كان مخالفا للأشاعرة في الصفات وغيرها موافقا لأهل الحديث، وإسهامه في العلوم لا يُنكر، ومثله كثير. والإمام ابن الصلاح (643 ه) وتلميذه الإمام النووي (676 هـ) شافعيان يقولان بحرمة علم المنطق وهو من أسس العلوم عند متأخري الأشعرية وعليه تُخرَّج عقائدهم كما في السنوسية الصغرى على سبيل المثال، وهما من أكابر أئمة الحديث والفقه وفضلهما لا يُنكر، وقد أخرج ابن الصلاح الآمديَّ الأشعري عن التدريس لتدريسه الكلام والمنطق. وغيرهم كثير ممن خالف الأشعرية وساهم في العلوم وكان من المتأخرين، فكيف بالمتقدّمين؟
06. على أنّ بعض من ينتسب للأشعرية أو الماتريدية من المتأخرين إنما سلك في سلك هذه المذاهب بحكم انتشارها وهيمنتها على المعاهد الشرعية الرسمية في بلاده وتبنّي السلطات الحاكمة لتلك المذاهب الكلامية. وربما كان حاذقا في علم غير الكلام كالتفسير أو الحديث أو الفقه أو اللغة وليس له اشتغال في الكلام وما فيه مادة الأشعرية والماتريدية، فيُنسب إلى الأشعرية أو الماتريدية تكثُّرا، فهذا أيُّ معنى في التكثّر به والاستدلال بانتسابه؟ وما قيمة انتساب العشرات بل المئات من العلماء في مختلف العلوم للأشعرية أو الماتريدية ولم يظهر منهم اشتغال وخوض عقلي أو كلامي انتهى بهم إلى ترجيح الأشعرية أو الماتريدية؟
07. ولا يخفى تأثير السلالات الحاكمة تاريخيّا في تبنّي بعض المذاهب العقدية، وهو حادث إلى عصرنا هذا، فما شاعت الوهّابية على سبيل المثال إلا بتبنّي السلطة لها ودعمها، ثم بدأ نجمها بالأفول مع انقلاب السلطة عليها علنًا والتحوّل المتسارع نحو العلمانية والليبرالية. وكذلك الأمر مع المذاهب العقدية التاريخية، فقد راجت الجهمية مع المأمون ومن خلفه ثم أفلت بعد تحوّل رأس السلطة عنها، وحارب أحد الوزراء الروافض الأشعرية ثم راجت مع نظام الملك وقبله مع الحكّام الذين أنشأوا لها المدارس، وكذلك راج مذهب الرفض في بلاد فارس مع تبنّي السلطة له بعد أن كان الغالب على فارس مذاهب أهل السنّة. وهكذا، من غير إغفال العوامل الأخرى في انتشار المذاهب، ولكنّ الشاهد أنّ تبنّي سلطة ما لمذهب عقدي وتحوّله إلى مذهب منطقة ما مع مرور الوقت ليس دليلا على صحّة هذا المذهب أو كونه ما رجّحه الأئمة عبر العصور.
08. وأخيرا فنحن إنّما أخذنا هذه العلوم عن هؤلاء الأئمة في التفسير والحديث والفقه واللغة وغيرها بصفتهم ناقلين ومجتهدين في هذه العلوم، لا بصفتهم أشاعرة أو ماتريدية، وكان لسابقيهم فيها فضل عليهم، وسابقوهم لم يكونوا من الأشعرية أو الماتريدية جميعا، بل غالبهم وأهمهم من غير هذين المذهبين بل كانوا قبل نشوئهما بل قبل شيوع علم الكلام، فقد أسس علوم التفسير والفقه والحديث وأصول الفقه والنحو أئمة كبار كربيعة الرأي ومالك وأبي حنيفة والشافعي والأوزاعي والثوري وعبد الرزاق ومقاتل والبخاري ومسلم والطبري وأبو داود والخليل وسيبويه وغيرهم من الأئمة الذين سبقوا الأشعرية والماتريدية، وكانت لهم البصمة الأكبر في هذه العلوم، ومن جاء بعدهم سواء كان أشعريّا أو ماتريديا أو غير ذلك إنما أكمل المسيرة، مستفيدا منهم وزائدا عليهم، ولا علاقة لآراء الأشعرية أو الماتريدية الكلامية بذلك.
والخلاصة أنّه ليس من الواجب أن ينتسب المرء إلى أشعرية أو ماتريدية، بل الواجب عليه الانتساب إلى جُمل العقائد التي أجمع عليها أهل السنة في القرون المفضّلة الأولى، وهي العقائد التي جاءت في صريح الكتاب والسنّة. ولا يضرّه ألا يعرف شيئا من مسائل الكلام التي قالت بها مذاهب الأشعرية أو الماتريدية، ولن يُسأل عنها يوم القيامة، بل سيُسأل عن الإيمان الذي جاء في صريح الكتاب والسنّة وتواترت عليه النصوص بيانا وتجليةً.
وليس كل من يوجّه نقدًا لشيء عند الأشعرية أو الماتريدية فهو بذلك ينتقص هذا الجمع الغفير من مئات الأئمة في مختلف العلوم، فهذا تهويل وقداسة وهمية تُضفى على مقولات كلامية في مسائل خلافية لمتأخرين، لم يعنى بها إلا فريق المتكلّمين دون غيرهم، وسيظل نقدها ومناقشتها كما كان حالها حين كان الأشعري فردًا يحاجِج ويحاجَج بالدليل، وكذلك الباقلاني والجويني والغزالي والرازي والتفتازاني والسنوسي وغيرهم، لكل منهم فضل في الدين وآراء تُقبل منه أو تُرد، ويناقش فيها دون خوف من تهمة الإزراء بجموع علماء الأمة الذين نقلوا العلوم وهذّبوها.
والحمد لله ربّ العالمين.