شُيُوعُ المُنْكرِ والفُجورِ فِي المُجْتَمعِ مُنْذِرٌ بِقُربِ هَلاكِهِ
عبد الله كوعلـي
هوية بريس – السبت 14 نونبر 2015
أمام المد الملفت للفكر الشهواني الفاجر، والميول نحو السلوك البهيمي المنكَرِ، وتعالِي الأصوات الداعية إلى إباحة كل شيء مما كان محرما. سعيا منهم لتطويق الفضيلة ووضعها مُؤبَّداً تحت الإقامة الإجبارية، وتحرير الرَّذيلة ومنحِها حق احتلال كل مكان عام كان أو خاصٍ.
وقد نجحوا في ذلك إلى حدٍّ بعيد، فمنهم من جاهر بما يربطه بآخر من علاقة الخدنية المحرمة، بل وبِه افتخر! وآخرون شواذ جنسيون مجاهرون بلواطهم وسموه زواجا (مثليا) بل وطالبوا إدراجه ضمن بنود مدونة الأسرة !!! وأمورٌ كثيرة من هذا القبيل. والعجيب أنهم لم يريدوا ذلك لأنفسهم فحسب، لكنهم طالبوا بإلزام المسلمين وفي وطنهم بفعل ما يجلُب سخط الله عليهم، من شيوع الفاحشة وانتشار الاباحية.
وإننا في هذا المقام سنفصل الكلام عمّا يمكن أن تؤول إلية الأمور في حال تفشي الرذيلة وشيوع الفاحشة في المجتمع المسلم من هلاك النسل وزوال النعم وحلول النقم وسوء المنْقَلب، وذلك وفقا لما تسير عليه السُّنن الاجتماعية المطَّردَة في الأقوام والمجتمعات.
أولا: مفهوم السُّنَّةِ الاجتماعية
عرف بعض الباحثين السنة الاجتماعية كما يلي: “هي العادة المألوفة والطريقة المتبعة في معاملة الله تعالى للناس بناء على أعمالهم في حال طاعة الله تعالى وحال عصيانه، وما يترتب على ذلك من نتائج، وثواب وعقاب، في المعاش قبل المعاد.
ويمكننا أن نستنتج من هذا التعريف ما يلي:
1- السنة الاجتماعية تعني كل المجتمعات الإنسانية، مسلِمة كانت أو كافرة. فهي لا تحابي طرفا ولا تعادي طرفا، فهي مجرد أسباب إذا تحققت تحققت النتائج بشكل تلقائي.
2- السنة الاجتماعية عادة مألوفة معتادة، لا تتأخر عن السريان والحدوث متى تحققت أسبابها.
3- تأتي مستجيبة لأعمال الناس، إن كانت أعمالهم حسنة كانت الاستجابة حسنة، والعكس بالعكس.
4- إن السنة الاجتماعية دنيوية لا أخروية، فإذا نزلت النعمة لا تستثني الطالح، وإذا نزلت النقمة لا تستثني الصالح، أما في الآخرة فمنطق آخر.
وبالرجوع إلى كلام الله تعالى الذي هو أصل كل أصل، نقرأ قوله تعالى: (إِنَّ الله لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)[1]، فالآية الكريمة على وجازَتِها تُبيِّن لنا الموضوعَ كاملاً في أقصر عبارة، وقد أَلَّفَ بعض المفكرين كتابا كاملا في تفسيرها. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: ” أما قوله تعالى: (إِنَّ الله لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) فكلام جميع المفسرين يدل على أن المراد : لا يغيِّر ما هم فيه من النِّعم بإنزال الانتقام إلَّا بأن يكون منهم المعاصي والفساد. قال القاضي[2]: والظاهر لا يحتمل إلا هذا المعنى … فالمراد مما ذكره الله تعالى التَّغيير بالهلاك والعِقاب.”[3] . فمن رحمة الله تعالى بعباده أن أَغْدَقَ عليهم من النعم والأرزاق ما لا يُعدُّ ولا يُحصى، لكن إذا ما غيَّروا من حالهم مع الله تعالى فتركوا الأوامر واقترفوا النواهي وانتهكوا الحدود فإن الجزاء وَفق السنَّة الاجتماعية، أن يُغيِّر الله ما بهم من النِّعم بالزوال، فتَحلّ عليهم النقم بالجملة زَجْرا لهم تأديباً، لعلهم يعتبرون فيرجعون إلى جادَّة الصواب.
يقول الدكتور جودت سعيد: “تغيير القوم وتغيير الله، لابد من توفُّرهما جميعا، ليتحقق التغيير.
كما لابد من أسبقية التغيير الذي يُحدثِه القوم. إلا أن بين هذين التَّغييريْن تَرابطا، فإذا وقع التغيير الذي يخلقه الله، دل ذلك قطعا على أن التغيير الذي يقوم به القوم قد سبق أن حدث لأن الله اشترط هذه الأسبقية. كما أنه إذا تحقق التغيير الذي يقوم به القوم، فإن التغيير الذي يخلقه الله سيتم على أساس وعد الله تعالى الذي لا يُخلف الميعاد وسنته التي لن تجد لها تحويلا”[4].
ثانيا: مُقابَلةُ انْتشار الفاحشَةِ والمنْكرِ في المجتمعِ بهَلاكِه وخَرابهِ سنَّةٌ اِجتِماعيةٌ مُطَّرِدَةٌ
إن تفشي الفواحش بمختلف تلاوينها، والمنكر بشتى أنواعه، وانتشار ذلك في القوم إلى حد الدعوة إليه علنا، بل التفاخر به، فذلك عين الفجور الذي يعتبر الحرب المفتوحة مع الجَبَّارِ سُبحانه، القَهَّارِ الذي يقول للشيء كن فيكون.
ومَهمَّتُنا هنا دراسة هذه السنة الاجتماعية، بالرجوع إلى القران الكريم أصل القواعد والسنن، الهادي إلى التمكين في الدنيا، وإلى الجنة في الآخرة، ثم الرجوع إلى السنة النبوية المبَيِّنةِ وبكل جَلاءٍ، ثم إلى كلام أهل التاريخ المسْتَقْرئينَ.
يقول الله سبحانه: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَاةَ واتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً)[5]، بعدما ذكر عددا من الأنبياء عليهم السلام، ومدى امتثالهم للأوامر الربانية واجتنابهم للنواهي، إلا أن الجيل الخلف الذي جاء بعدهم -وهو الموصوف في الآية الكريمة- ضيع الأمانة واقترف المعاصي والفواحش وانتهك الحدود، وكان بذلك مستحقا للغَيِّ، ومعناه عند أهل التفسير: الهلاكُ. وتلك نهاية المجاهرين بالمعاصي من كل قوم وفي كل زمان ومكان.
يقول المؤرخ العلامة ابن خلدون رحمه الله: (ومن مفاسد الحضارة أيضا الانهماك في الشهوات والاسترسال فيها، لكثرة الترف فيقع التفنن في شهوات البطن من المآكل والملاذِّ والمشارب وطيبها. ويتبع ذلك التفنن في شهوات الفرج بأنواع المناكح، من الزنا واللواط، فيفضي ذلك إلى فساد النوع: إما بواسطة اختلاط الأنساب كما في الزنا، فيجهل كل واحد ابنه… أو يكون فساد النوع بغير واسطة، كما في اللواط المؤدي إلى عدم النسل رأسا وهو أشد من فساد النوع “[6]. والجميل من كلام ابن خلدون تسميته الأشياء بأسمائها الحقيقية، خلاف ما نسمعه اليوم من تحريف الأسماء وتغييرها بأخرى تَقبَلُ التطبيع معها، رغم أن الكنه والمضمون واحد.
روى الشيخان أن أم المؤمنين زينب رضي الله عنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نَعَم إِذَا كثُر الخَبَثُ). فإذا انتشر الفجور وطغى في القوم، واستحسنه أغلب المجتمع ، فلا عبرة آنذاك بأفراد صالحين لا تكاد كلمتهم تُسمع، -إن كانت لهم كلمة- بل الإجراء الذي وصل أوانه هو تدخل سنة الله في المجتمعات والأقوام، فيُغيِّر الله ما بهم من نعمة بعدما غيروا ما بأنفسهم من صلاح وطاعة، فيَحل عليهم الغضبُ واللعنة، وتُرفعُ عنهم النعم، وتَنْزِل عليهم النِّقَمُ. يقول العلامة الدكتور فريد الأنصاري رحمة الله عليه: “والمجتمع الإسلامي مادام مستجيبا لله من خلال سنته الشرعية، أي عاملا بمقتضى الإرادة التكليفية، فإنه بإذن الله في حماية الله وحفظه، فإذا زاغ عن ذلك، فإن للزيغ علاجا اختياريا هو انتصاب أهله للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لإصلاح الناس، فإن تقاعس الكل واستفحل المرض، فربما وصل درجة اليأس من الشفاء، فلا يكون له حينئذ من علاج غير إهلاكه وتدميره تدميرا؛ ليأتي الله بجيل جديد، يصلح لتحمل الأمانة، ويُقدِّرها حق قدرها، قال عز وجل: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)[7]“[8].
روى الحاكم رحمه الله في مستدركه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما ظهرت الفاحشة في قوم قط حتى يُعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم)، تأمل أيها القارئ الكريم هذا الحديث الشريف، ثم انظر في واقعنا ومجتمعنا وما يَحل به ، وليس ذلك إلا بما فعله السفهاء منا؛ أزمات في مختلف المجالات بالجملة، أوبئة لا حصر لها، أمراض ما شهد مثيلها الأسلاف والأجداد من قبل، كلما أوجدوا دواء لوباء، تفجرت من بين أيديهم أخرى، إنها الحرب الخاسرة مع خالق الأكوان، القهار جل شأنه، ثم إنها (سُنَّةَ اللهِ فِي الّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وكَانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً)[9] ، تلك السنة الإلهية في المجتمعات والأقوام التي لا تعرف للمسلم محتباةً، ولَا تُكِنُّ للكافر مُعاداةً (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْويلاً)[10].
وقد قص الله تعالى علينا في كتابه الكريم قَصص الأقوام السالفة التي عثت في الأرض بالفساد وبين سوء مصيرها، حيث تعرضت للهلاك والدمار فصارت كأن لم تكن؛ يقول الله تعالى واصفا قوم لوط في فحشهم وسوء فِعَالِهم: (وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَومِهِ أَتَاتُونَ الْفَاحِشَةَ وأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ)[11].
فقد جهروا بالفواحش وأعلنوها وأصروا واستكبروا استكبارا، وتحدوا بها الرسول المبعوث إليهم، فكان من اللازم حينئذ أن تتحرك السنة الإلهية للإهلاك والتدمير، قال عز وجل: (فَأَنْجَيْنَاهُ وأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرينَ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ)[12].
تلك هي عاقبة المفسدين الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وإن ذلك المصير المقيت ليس خاصا بقوم دون آخر، بل هو مصير كل قوم مفسد في الأرض، وإن القرآن قص علينا هذه القصص لعلنا نعتبر فنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – سورة الرعد؛ الآية:12.
[2] – أحسبه يقصد القاضي عبد الجبار المعتزلي إذ هو من بين المصادر التي اعتمدها الرازي في تفسيره.
[3] – “مفاتيح الغيب” للرازي. ج: 19. ص:23. ط: دار الفكر.
[4] – كتاب “حتى يغيروا ما بأنفسهم” جودت سعيد. ص:69.
[5] – سورة مريم؛ الآية:59.
[6] – “المقدمة” لابن خلدون؛ ص:452-453.
[7] – سورة هود؛ الآية:117.
[8] – كتاب “الفجور السياسي” فريد الأنصاري. ص:37.
[9] – سورة الأحزاب؛ الآية:38.
[10] – سورة فاطر؛ الآية:43.
[11] – سورة النمل. الآية:54.
[12] – سورة النمل. الآية:57-58.