صراع الحريات الفردية… أو المعارك الخاطئة
هوية بريس – حليمة الشويكة
ترددت في الخوض في هذا الموضوع الذي تحول فجأة إلى ساحة “حرب طاحنة” مباشرة بعد العفو الملكي عن هاجر الريسوني ومن معها، وكأن الكل كان على استعداد للضغط على الزناد بعدما تنتهي محنة هاجر. والحقيقة أنه حتى بعد العفو عن هاجر فإن أسباب محنتها ما تزال قائمة وقابلة للتجدد تحت مسميات أخرى وفي ملفات لم تطو بعد. فالعفو الملكي السامي صحح الأخطاء التي كانت بادية للعيان في هذا الملف، ورفع الظلم الكبير الذي تعرضت له شابة صحفية وهي في أوج الاستعداد لحفل زفافها، ولهذا السبب لاقت قضيتها تضامنا واسعا لأنها قضية مست الوجدان الجماعي للمغاربة. لكن لا يجب أن ننسى أن هذا التضامن نأى عن الحسابات والمزايدات لأن مبرره ومحركه الأساسي كان هو الرفض الجماعي للتلصص على الحياة الخاصة للأفراد والخرق السافر لقرينة البراءة وبالأساس الرفض التام لإسكات حرية الرأي والصحافة بلي عنق القوانين وصناعة التهم الوهمية.
هذا التذكير هدفه تصحيح طرح الأسئلة المطلوب التفكير فيها اليوم، وتجنب الأسئلة المغلوطة والتي يعد سؤال الحريات الفردية واحدا منها. وأنا على يقين أن تصنيفي لهذا السؤال الحارق ضمن الأسئلة المغلوطة سيعرض موقفي للاستهجان والنقد والاستخفاف. لكن معيار تمييز الأسئلة المغلوطة يوجد في مساحة القرب أو البعد من الأسئلة التي تشغل الشرائح الاجتماعية الواسعة، فكلما اتسعت المسافة بين أسئلة النخب والأسئلة التي تتطلبها المرحلة كلما أيقنا أن هناك من يدفع المغاربة إلى خوض المعارك الخاطئة. وليس هناك أي مرجعية أخرى بإمكاننا الاستناد إليها في تحديد طبيعة أسئلة المرحلة غير الأوضاع الاجتماعية و السياسية التي يعيشها المجتمع، كما أنه من غير المفهوم أن نخلط اليوم بين سؤال الفقر والتنمية و الحرية الفكرية والسياسية، وبين سؤال الحريات الفردية ونجعلهما على درجة واحدة من الأهمية، إلا إذا نظرنا إلى هذا الخلط باعتباره لبسا في ترتيب الأولويات، أو عودة إلى صراع الأمس بين فئة تدافع عن الدين ضد فئة أخرى تظهر بمظهر من يستهدفه. مما يعني الانجرار إلى مربع النقاش العقيم الذي لا يمكن إلا أن يخدم أجندة الاستبداد بقصد أو بغير قصد.
إن استعادة الحديث عن الحريات الفردية اليوم، حتى إذا اعتبرناه نقاشا خاطئا بالنظر إلى السياقات الاجتماعية و السياسية التي دفعت به إلى الواجهة، يجعلنا نستحضر الخلفية الفلسفية لهذا النقاش. فبالتأكيد أن الحداثة الصلبة دافعت عن الحريات التي لا تبقي الفرد مجرد كائن بيولوجي، بل ترفعه لمكانة الإنسان. بينما الحداثة السائلة التي قتلت الإيديولوجيا وغيبت اليوتوبيات والدين واستبعدت السرديات الكبرى لتفسير العالم اختزلت الإنسان في غرائزه وجعلتها مرجعية وحيدة يحتكم إليها في تحديد الحريات الفردية. حيث لا معيار خارج مادية الإنسان وجسده. بل وخلقت هذه الحداثة السائلة تعارضا بين الأسرة والجماعة الاجتماعية كمجال لتوفير العاطفة، وبين تمتع الفرد بحريته.
إن بروز الأهداف الفردية كمعيار للتحرك الجماعي والحقوقي للحركات الاجتماعية هو في نظر المؤرخ والناقد الاجتماعي الأمريكي كريستوفر لاش ناتج عن إقصاء الدين كنسق اجتماعي، الشيء الذي مهد لسقوط السياسة بالمعنى الجماعي، و أفضى إلى حدوث تحول نوعي في خريطة الحركات الاجتماعية بصعود الجسد كمساحة للجدل السياسي حيث أصبحت المرجعية الوجودية للفرد تحل محل المشترك في السياق الاجتماعي. هذا التحول هو الذي جعل الفيلسوف الألماني زيجمونت باومان يحاول فهم “الحالة السوسيولوجية” التي تعيشها مجتمعاتنا المعاصرة التي أثرت فيها الحداثة السائلة على الوعي بالذات وخياراتها الشخصية، فنتج عن ذلك استبدال العلاقات بالصلات والاتصالات. إن العلاقات وصف عميق له ثمن في مجتمع متلاحم، هذا الثمن لم يعد إنسان الحداثة السائلة مستعدا لدفعه ولا للتضحية من أجل علاقات صلبة ودائمة، لذلك استبدلها بالاتصال العاطفي والجنسي العابر.
ليست الغاية من الكشف عن هذه الخلفيات الفلسفية لجدل الحريات الفردية الدخول في سجال مع أي طرف من الأطراف، وإنما الهدف هو التنبيه إلى أنها ينبغي أن تناقش في سياقها الأشمل بعيدا عن الصراع والحرص على التموقع في زوايا ضيقة وتسجيل الأهداف في مرمى الخصوم الفكريين، وهو الصراع الذي سينتهي حتما بخسارة الجميع، طالما أننا لم نرتب أولوياتنا بشكل معقلن ولم نضع على رأس هذه الأولويات القدرة على تملك مشروع وطني تنخرط فيه كل القوى الصادقة.
على الطبقة السياسية والنخب الفكرية اليوم أن تعمل على توسيع هامش الأمل لدى الجمهور بتأجيل هذا النقاش المغلوط، وأن تنفلت من تأثير الاستبداد الذي ينعكس على الخاضعين له ويمنعهم من القدرة على خلق مساحات التعايش والالتقاء ويصنع لدى الجميع حالة التوجس وحذر الكل من الكل. و عليها أن تدرك أن النضال من أجل الحرية الجماعية التي مازال التضييق عليها متواصلا هو المدخل الأساسي لكل الحقوق والحريات الأخرى. ولا يمكن اعتبار هيمنة النقاش حول الحريات الفردية في هذه الحالة سوى تنويم مغناطيسي و إلهاء بمتع الجسد وملحقاته.