صرخة النقل.. قُطبية في شوارع كازا
هوية بريس – سفانة إراوي
في تقاطع شارعي باريس ووادي المخازن بحي المدينة البيضاوي في وقت الذروة، وتحديدا أمام إعدادية أم أيمن الثانوية، أكون شاهدة للمرة التي لا أستطيع تحديد رقمها المتقدم على معركة ليست أهدأ من تلك التي يرمز لها تناقض اسمي الشارعين؛ معركة تدور بين استعمار ومقاومة، من نوع آخر هذه المرة، فالأبطال في طرفيها هم دوما أبناء الشعب الهائمون على وجوههم في هذه المدينة، طلباً لعلمٍ أو لعيش.
تقف جيوشُ المقاومة اللاهثة بعد يوم شاقٍّ أمام الإعدادية عشوائيا في انتظار سيارات الأجرة البيضاء، وما أن يبزغ فجر إحداها من بعيد حتى تتحلقَ الجموعُ مُؤذنة بالهجوم. يركبُ البعض دون أن تمتلأ السيارة، فسرعان ما تتراجع الأغبية لتسفِرَ ملامِحها عن سخط الانتقاد لنخوة السائقين المزيَّفة وهم يُصرّون على أن يكون “كاراج علال” وجهتهم الأخيرة للرحلة.
لماذا يُتعبون أنفسهم للوصول إلى “عين الشق” أو “سباتة” وليست الإضافة المادية سوى درهم ونصف؟ في حين يستطيعون العودة بفوج آخر من “الكاراج” في رحلة سريعة ويربحون سريعا أيضا! إنّ حقوق السائقين ستضيع يا سادتي، إذا ما حاول أحدهم أن يندد وينادي المسؤولين في الفلوات حتى يقفوا على تنظيم هذا الخط الذي باتت وجهة السائقين فيه واحدة: “الكاراج”!
” -سباتة عافاك
– كاراج علال، كاراج علال.. ويده على شكل قبضة مشيرا لرمز المكان”
” -عين الشق ا سيدي
– (نفس رمز القبضة) الكاراج…
– عافاك، واش ماكاينش طاكسيات عين الشق؟
– أنا حدي الكراج
– (أقول في حدة) يعني كلكم حدكم الكاراج، ماكينش شي مجموعة تعتق هاد الأفواج د الناس المنشورين، المفروض تكونوا مقسمين ا سيدي ولا لا؟
– كل واحد حر فراسو، وتانتي حرة ا بنتي الا مابغيتيش تركبي ماتركبيش!”
ينتفض رجل ساخطا:
“هؤلاء قد أرادوها معركة ا عباد الله، يرون بأن إصرارهم كفيل بإضعاف إرادة الناس والركوب معهم إلى الكاراج ثم أخذهم وسيلة أخرى بعد ذلك. أيها الناس، من يركبنّ منكم فهو خائنٌ لحقوقه وحقوق إخوانه. إنها محطة سباتة وعين الشق، ويجب أن تظل كذلك. محطة الكاراج في الزنقة المجاورة، اثبتوا على صبركم، ولو أننا جميعا اتفقنا على هذا الخيار ما فسحنا لهم بابا للتطاول والأنانية وتخريب النظام!”
ما أبعد اليوم عن فرحتي قبل يومين بمشهد الخير مع أصحاب الضمائر التائقة؛ استقللت سيارة أجرة صغيرة مع أمي وأخي، انتظرنا قليلا قبل أن تأتي سيارة خاويةٌ تماما. كانت الوجهة بعيدة وكنا على يقين بأننا لن نجد سائقا متفهما بسهولة. لكن صاحب سيارتنا كان من طراز خاص، هز رأسه موافقا وملامحه تدل على صعوبة المهمة، لكنه يرحب بها.
ما الذي ميز الرحلة؟ لقد كان طوال الطريق هادئا، غارقا مع صوتيات مجموعة نقابية على الواتساب، يخطط أعضاؤها -وهم من سائقي طاكسيات الأجرة الصغيرة- ليومهم الأسبوعي المميز (الاثنين) الذي يتفقون فيه على الانتشار على مستشفيات المدينة الرئيسية في أوقات الذروة لتسهيل عملية نقل المرضى إلى بيوتهم بعد تعب الانتظار المرهق في هذه المرافق العمومية المزدحمة مع بداية الأسبوع.
كانت لحظات انتشاء بجمال هذه الضمائر، وهي تذكر بالهدف، فيما يحذر بعضها الآخر من الانسياق وراء أنانية السائقين في بحثهم عن المقاعد الانفرادية… وتلكُم الحقيقة التي تصفع في هذه القطبية بين المشهدين يا سادتي!
{ولولا دفاعُ الله الناس بعضهم ببعضٍ لَفَسدَت الأرض}.