صناعة التربية
هوية بريس – عبد الرحيم بيوم
التربية عملية منهجية واقعية، تهدف إلى تطوير النفوس والأعمال من طور إلى طور، وأخذها في درجات الرقي من منازل إلى منازل أعلى، ومن ملكات قديمة إلى ملكات جديدة، أفضل وأنسب وأقوم..
فتأسيس التربية مقصد مهم لبناء قوام الأمم وضمان بالغ الأهمية لاستمرارها والسير بها قدما، وحصن مطلوب لحماية المجتمع من رياح السلبية المهلكة والتبعية الطاغية على مشهدنا الآن في مختلف المناحي.
لذا كانت العناية بها جلية بارزة منذ القدم.. وكان لكبراء وعلية أي قوم مربون خاصون ينتقون بعناية لأبنائهم، يعلمونهم الأدب، ويحلون نفوسهم بما يناسب حلّتهم المستقبلية ودورهم الذي ينشدون منهم.. فيبنون الذات والكيان الإنساني، ينمون الوجدان والملكات، يبذرون في بساط قلوبهم زهرة الفكر وحب المعرفة.
التربية في توصيف تقريبي لها ولتمثيل فاعليتها على بساط الحياة، تعتبر جسرا فاعلا وحلقة ربط مهمة بين ضفتين، يعبر من خلالها العلم منطلقا من ضفة التنظير والمعرفة وصولا الى ضفة الواقع والحياة. فهي محطة عبور لتحقيق العلم وتنزيله على أرض معاش الناس. لأن السلوك في كينونته لا ينفصم عن الخلفية المعرفية والعلمية.
فالأخلاق المكتسبة، والمهارات العملية، والمبادئ المؤطرة لتفاعلاتنا وغير ذلك مما تتطلبه الحياة كواقع معاش، تمر ولا بد قبل وصولها إلى مرحلة التطبيق من مرحلة التأطير المفاهيمي والتخطيط الفكري والتصور الكلي ثم الجزئي لها. لأنها من غير امتزاج وتلاقي المرحلتين تبقى مجرد سحابة عابرة لا تمطر على بساط الواقع لتينع بذورها، ولا لتنتج تأثيرا حقيقيا يساهم في وضع لبنات التغيير والتقدم المنشود. إلا إن رافق ذلك كله منهجية تربوية مناسبة تسعى لأن تحقق ذاك التصور الفكري، وتكد لتنشئة جيل يخط بوقع أقدامه تلك الآمال العريضة والتأصيلات النظرية. وعندها فقط سنعيش الفكر حيا بيننا، متجسدا بذواتنا، متمثلا بحياتنا وواقعنا، قد انتقل من النظر وارتحل من صفحات الكتب إلى علاقاتنا وبساط دنيانا بمختلف أشكالها وأنواعها.
وبذا تتنوع حقيقة التربية وتتسع مظاناتها ومناحي تمثيلها. فهي معنى شامل يتجلى في جميع الملكات المكتسبة باختلاف أنواعها. وتتمثل في محاضن عديدة تكتنف تنزيلها من: الأسرة والتي تتعثر الجهود للأسف في سبيل بث روح الحياة فيها بين جيل تهاون كثيرا في تقديرها والجد في تناولها وإدراك منطلقاتها ومقاصدها وسبل بناء قيمها. ومن المجتمع المنهك تفكيكا وتشرذما، المختلة أساساته الأخلاقية ودعاماته الاجتماعية. ناهيك عن المدرسة ومجالات البناء العلمي الفكري والتي غُيب دورها أو حار عن غايته لعدة أسباب اجتمعت على نزع ثماره المرجوة. ولا ننسى هنا محضن الإعلام بشتى أنواعه بما يمثله من أهمية في التأثير والتأثيث لمشهدنا الثقافي، فقد غزا بصوره المتعددة قعر الغرف وباحة الحياة وصار مورد تنمية وتوجيه لمسارات التفاعل مع جميع الأحداث والوقائع. وقد تتفاوت هذه المحاضن وغيرها مما لم يذكر في مجال التأثير وقوته حسب المتغيرات المكانية والزمانية، لكن يبقى دور البناء التربوي في نجاعة استثمارها هو آخيتها ونقطة ارتكازها.
إن الأمة الواعية بموقعها في السياق العام والمدركة لسنن التغيير لهي التي تتحكم في مساراتها من جميع النواحي، بإحكام قبضتها للخيوط الخفية التي تسعى في استهداف قاصد لمكوناتها.. وبصياغة وبناء سوار حصانتها بمنهجية منبثقة من رؤيتها الخاصة بها لبناء معالمها. مشيدة جسرا متينا يوصل طموحها بالواقع: التربية.