صناعة المثقفين
هوية بريس – إبراهيم الناية
قد يتساءل البعض: كيف يمكن صناعة المثقفين والثقافة تقتضي مجهودا مضنيا واستماتة فائقة ، وتضحية بكثير من المنافع الظرفية التي قد تعترض الانسان اثناء مسيرة حياته؟ بل قد نتجاوز ذلك الى سؤال اخر. وهل يمكن صناعة الزعماء؟
كيف يحصل ذلك؟
والمثقف هو ذلك الشخص الذي تصبح الثقافة جزءا من كيانه ، فكرا وسلوكا ومواقف. ومن شيمه الاصطفاف مع المظلومين والمحرومين ، ولم يكن في يوم من الايام ناطقا اعلاميا لمنظومة الفساد والاستبداد لان الثقافة الحقيقية هي التي تسعى جاهدة الى تغيير كل المفاهيم المرتبطة بعقلية الهيمنة والاستحواذ ، وتهدف الى غرس قيم التحرر والعلم والفضيلة.
ولكن عندما تصبح المجتمعات مفلسة فكرا واخلاقا واقتصادا وحاضنة لمنظومة الفساد المتعدد الاوجه ومباركة لسلوكاتها وتصرفاتها فلابد ان يظهر ما لم يكن متوقعا في الحسبان فلا نستغرب اان تطل علينا بعض العناصر في المجتمعات التي لم تؤسس قومتها وانبعاثها بداية على مشروع ثقافي مبني على مبادئ وقيم حضارية تعلي من قيم الانسان وتنادي بالعدل والمساواة.
وانما تبنت الايديولوجيات الاستلابية التي تغيب العلم والانسان، وتفتح المجال للخطاب السياسي المبتذل. ولذلك ظلت تتخبط في التيه لانها فاقدة للعنوان والهوية. بل اصبحت الثقافة محل تساؤل عن جدواها وفاعليتها. ومن ثم بدأ مشروع الانحطاط يتشكل وظهرت اجيال ترفع شعارات ترتبط بالفكر الغربي او بجدور ثقافية اخرى. ولكن القاسم المشترك بينها هو الجهل بمضامين تلك الشعارات.
وهكذا بدأت عقلية التفاهة في الانتشار واصبحت الرداءة تتصدر المشهد ، وانقلبت المفاهيم واعتقد الكثير ان بامكانه ان يصبح مفكرا لامعا وزعيما بكل سهولة ولا ينقصه في ذلك الا بعض التحسينات لتنتهي مشكلته مع الثقافة، وهكذا نرى بعض الاشخاص تقدمهم منابر اعلامية على انهم مفكرون ومحللون وعندما تمعن النظر في خطاباتهم وطرق تفكيرهم واليات تحليلهم والمفاهيم التي يوظفونها تدرك جليا انهم يطبلون للرداءة وقيم الجهل والتخلف ويقوم هؤلاء بصناعة واقع من الاكاذيب ويقدمونه للناس على انه حقائق ثم يصدرون بناء على صناعته احكاما تقدم للجمهور على انها حقائق علمية.
وهؤلاء القوم يتحدثون في موضوعات يجهلونها تماما، ولكنهم يصرون على ان رؤيتهم هي الحق الذي لا تشوبه شائبة. فهم بهذا الصنيع يريدون استحمار الناس وتبليد احساسهم ظنا منهم انهم يستطيعون ان يصنعوا منهم ادوات طيعة تكون في خدمة ما يريدونه ويهدفون اليه. ومن هذا القبيل يسعى البعض الى ان يتبوأ مكانة مرموقة وينعت بالمفكر العضوي فيكفيه فقط أن يتحدث عن الدين بسخافة وعلى أنه مجموعة من الاساطير والخرافات لينعت بعد ذلك بالتنوير والحداثة.
ولم يعلم أن الحداثة ابداع وليست تقليدا ومجهود علمي ينبغي ان يكون حاضرا إذا اردنا تحديث بنيات المجتمع. ومن المؤسف حقا ان ينتقد الانسان منظومة فكرية وهو يجهلها ليصبح بعد ذلك اضحوكة بين الناس. لانه كان يقدم نفسه على انه المحيط علما بكل شيء. ولكن لا تثريب عليه مادام من الأشخاص الذين تمت صناعتهم ليقوم بالدور المنوط به تحقيقه، وهو خدمة المشروع الذي وظف من أجله. وقس على ذلك من يتبنى إعادة النظر في علم اصول الفقه او الكلام عن المتن والسند في علم الحديث ، او الحديث في الإرث وهي موضوعات لا صلة لعلومها بالاشخاص الذين يطرحون اعادة النظر فيها ويصل الضجيج ذروته حول مدونة الاسرة. والمطلوب كيف نحافظ على متانة الأسرة من اجل ان يستمر مشروعها وينجح وليس بوضع قوانين الصراع والفشل. وقد نجد اقواما يتحدثون باستمرار عن الفضائل -رغم اهميتها – وكأن الدين محصور في الفضائل فقط علما ان الفضائل جزء من الدين وليست كل الدين. وقد نرى من يعتقد أن رأيه هو الحق الذي يمثل عين الصواب.
وينكر على الناس لماذا يقولون قولا يخالف ما عليه هو واصحابه. وكأن كلامه اصبح دليلا شرعيا. اي يريد من الناس ان يفكروا بالطريقة التي يفكر بها.
وينظرون الى الامور بنفس المنظار. ولا يرى في أحقية الاختلاف أية مشروعية. أي أنه يريد ان يفرض وصايته على الناس. والأمر يعود الى جهله وعدم اطلاعه. وكان الاجدر به ان يقدم رؤيته على انها معرفة بشرية تصيب وتخطئ.
وان يلتزم بالتواضع، وهو فضيلة من شيم النفوس الابية. وهناك من ينتمي الى حقل الفلسفة ويطرح تصورات انفعالية قد تصيب معتقدات الناس وكأنه ينصب نفسه قاضيا يحاكم الناس في قناعاتهم، وتكون النتيجة عكسية مما يترتب عنه النظر إلى الفلسفة نظرة دونية، وفي المقابل يتحامل بعض الناس على الفلسفة وليس لهم أي إلمام بمجالها على الاطلاق.
والغريب اننا لم نعد نسمع كلمات كالحركات الامبريالية والفكر التحرري وأمال الشعوب في التحرر والانعتاق. وإنما اصبح الرائج هو العلاقات الرضائية والأطفال الطبيعيون والامهات العازبات. لأن البعض ممن كان يحمل شعارات الثورة والتقدم تم تجنيده لخدمة أهداف الاستعمار الأجنبي. وهو تخريب المجتمعات من الداخل، وهو بهذا العمل. يعتبر هذا الامر ثقافة المرحلة.
وفي الأخير عندما يغيب العلم والإيمان والتربية يمكن صناعة المثقفين. وعندما تصبح الشعوب مفلسة في كل المجالات يمكن صناعة الزعماء.