ضبط الفتوى بين الموضوعية والتوظيف
هوية بريس – عبد الكريم الفاسي
ما فتئت منابر إعلامية معروفة بتوجهها العلماني تركز على موضوع الفتوى والمفتين، وفق منهجية يعتريها كثير من الخلل؛ حيث أن هذه المنابر لم تهتم بطرح الموضوع من خلال مقاربة موضوعية تراعي طبيعة الموضوع وحجمه وأبعاده، وتجعل الكلمة الفصل فيه لذوي التخصص من العلماء العاملين المتجردين ..
بل نحت منحى آخر تلاحظ فيه كثير من التجاوزات؛ منها:
غياب الموضوعية
غياب الإنصاف
وكالة الأمر إلى غير أهله
الطعن في العالم وتشويه سمعته
ممارسة رقابة رهيبة على العالم من قبل من لا يملك الحق في ذلك
استنكار طبيعة مواضيع الفتاوى؛ مع أن هذه الأخيرة تنبع من حاجة المستفتي، والمفتي لا يملك تحديد موضوع الفتوى التي تعرض عليه.
.. ونحو ذلك مما يدل على توظيف موضوع “ضبط الفتوى” للتشويش على الفتوى وعلاقة المواطن بالمفتي.
والحقيقة أننا أمام موقف ذي خلفية (إيديولوجية)؛ تتمثل في نظرة العلمانية للفتوى بصفتها أحد أهم قنوات المد الإسلامي وانتشار التدين في المجتمع، فهو موقف يعبر عن رفض العلمانية لرقابة الدين وهيمنته على المجتمع.
فليس المشكل مع الفتوى والإفتاء بل مع مبدأ التدين نفسه..
وإلا فكيف نفسر التهويل الذي أحيطت به -مثلا- فتوى تحريم التسوق من الأسواق التي تبيع الخمر، مع غض الطرف عن الإخلال بقانون تحريم بيع الخمر للمسلمين؟ وما يترتب على هذا الإخلال من مفاسد؛ ليس أقلها (المساهمة) في تفشي حوادث السير؟
وكيف نقرأ الضجة الإعلامية حول ما سمي بفتوى زواج الصغيرة، مع أن معاناتنا اليوم ليست من تفشي زواج الصغيرة؛ بل من تردي وضعية الزواج نفسه؟
وإذا كان سن الثامنة عشرة الذي حددته المدونة؛يراعي تحقق نوع من اكتمال النضج البيولوجي للفتاة، فإنللموضوع أبعادا أخرى أهم من البعد القانوني وتحديد السن؛ أهمها: البعد التربوي؛ وهكذا فإن مؤسسة الزواج والأسرة اليوم مهددتان بأزمة النضج التربوي، وليس بمشكل غياب النضج البيولوجي؛ لأن هذا الأخير لا يشكل ظاهرة ذات أرقام مخيفة، ولا تكاد تجده اليوم إلا في قرى نائية..
بخلاف آثار ضعف النضج التربوي، فإنها متفشية في كثير من الأسر؛ وهي المتسببة في ظواهر سلبية: كثرة حالات الطلاق، العنف ضد المرأة، التفريط في تربية الأولاد، تضييع حق الزوجة وحق الأطفال بسبب تناول الزوج للخمر والمخدرات والقمار ..
والمشكلة الحقيقية أيضا هي في العنوسة، وفي تهديد بنات المدارس واستهدافهن من طرف مرضى الجنس وتجاره..
إلى غير ذلك منالإشكالات التي تمثل ظواهر ذات أرقام مخيفة.
فترشيد النقاشات المجتمعاتية في الإعلام؛ يستلزم أن تبنى على الظواهر الحاضرة في المجتمع، وأن لا تنساق مع أمواج التوظيف السياسي أو (الإيديولوجي).
إن واجب إصلاح المجتمعات ضرورة شرعية، أناطها الشارع بركنين؛ هما الدعوة والإفتاء:
ندعو الناس إلى ما يصلحهم الله به؛ وهو الدين، فإن أشكل عليهم شيء في الدين؛ أفتيناهم فيه.
فالدعوة تسبق الفتوى والفتوى تثَبّت الدعوة.
ومن هنا رقى الشارع بمنصب الإفتاء فجعله الله سبحانه من صفاته: “قل الله يفتيكم“.
كما وصف نفسه بالدعوة: “والله يدعو إلى دار السلام”
فالدعوة والإفتاء متلازمان في حركة العلم وإصلاح المجتمع بهداية الوحي.
ولكي يفهم الناس أهمية الفتوى؛ لا بد أن يسبق إلى وعيهم خطاب الدعوة، التي تعرفهم بحق الله عليهم، وتقنعهم بالعلة الكبرى لخلقهم وهي عبادة الله، وأنهم سيسألون وسيحاسبون على هذا المقصد، وأن هذا يقتضي منهم تعلم أمور دينهم، والسؤال والاستفتاء عما جهلوا من ذلك.
وأن للاستفتاء آداب وضوابط ينبغي تعلمها.
وواجب ضبط الفتوى بالضوابط الشرعية التي تقي المجتمع من خطر فتاوى التعالم والشذوذ؛ مؤصل له عند العلماء بما يكفي ويشفي، وما على الإعلام إلا أن يستضيف العلماء الربانيين من أجل أن يوضحوا هذا الموضوع، وأن يبرزوا منهجية عملية للمواطن المستفتي كي يسلم من خطر الفتاوى التي لا تنضبط بالضوابط الشرعية ..
فهذا هو السياق السليم لمناقشة مسألة “ضبط الفتوى”، وهو الذي ينبغي أن نلتزمه إذا أردنا أن نعالج مشكلة الفتاوى المنحرفة، بعيدا عن التسييس، والمواقف الأيديولوجيةالتي تخدم التوجهات الرافضة أن يكون للدين سلطان على سلوك الفرد وأحوال المجتمع وقوانين الدولة.
إننا بحاجة ماسة إلى ترشيد الكلام في موضوع الفتوى والإفتاء؛فنناقش حقيقة الفتوى ومقاصدها ومأسستها، والحد الشرعي بين التسيير المشروع والتمييع الممنوع..
ونناقش بإنصاف وموضوعية الأخطاء التي ينبغي أن تصحح؛ سواء تلك التي تقع من المفتي أو من المستفتي، أوالتقصير الحاصل من المؤسسات الرسمية..