ضحايا 16 ماي المنسيون
هوية بريس – الحسن شهبار
في صبيحة يوم السبت السابع عشر من شهر ماي سنة ثلاث وألفين ميلادية؛ استيقظت على سماع أخبار الأحداث الأليمة التي وقعت بالدار البيضاء، جلست بالمقهى لتناول فطوري، وكانت المذيعة تذيع بصوت حزين أن أربعة عشر انتحاريا تتراوح أعمارهم بين عشرين وأربع وعشرين سنة قد استهدفوا عدة أماكن بالعاصمة الاقتصادية للمملكة في تلك الليلة في أسوأ هجوم وأكثره دموية بالبلاد.. توقفت عن إتمام فطوري، وأرخيت سمعي للتلفاز أتابع تعليق المذيعة وأشاهد الصور الأولى للهجمات الإجرامية..
كانت الحصيلة ثقيلة؛ فقد قتل منفذو التفجيرات الاثنى عشر، وقتل أيضا ما يزيد على ثلاثين مدنيا معظمهم مغاربة.. في حين اعتُقل اثنان من المهاجمين قبل أن يقوموا بتفجير نفسيهما، كما جرح ما يزيد عن مئة شخص..
كنت أتابع التلفاز وأنا أُتمتم مع نفسي: هل أنا أمام حقيقة أم خيال.. هل هو كابوس يُراودني في المنام أم هو واقع مؤلم قد ألم بالبلاد، تحسست نفسي؛ فإذا بي مستيقظ وما أراه ليس حُلما ولا خيالا.. لم يكن يدر بخلدي ولا مرة أنه سيأتي يوم على المغرب ليكون هدفا لعمليات انتحارية.. نسيت ما أنا فيه، وما كنت سأفعله في ذلك اليوم، ورُحت أسائل نفسي بمجموعة من التساؤلات المحيرة:
من يكون هؤلاء الشباب؟ وماذا يريدون؟ وكيف خططوا لعملياتهم؟ ومن مولهم؟ وما الهدف من تفجير مقبرة لا ينام بها إلا الموتى؟
هل يكون هؤلاء الشباب ألعوبة بيد جهات معينة تريد زعزعة أمن البلاد واستقرارها، أو تقصد إلى التضييق على العمل الإسلامي والدعوة إلى الله تعالى؟
هل سيدخل المغرب مرحلة جديدة وغير مسبوقة في تاريخه الأمني والاجتماعي، وهل ستنجر البلاد وراء المغرضين الذين يعملون في الخفاء لتهديد السلم الاجتماعي والتعايش المجتمعي؟
هل ما حدث في تلك الليلة هو حلقة أولى في مسلسل الضغط على الحركات والأحزاب الإسلامية، والتضييق على الدعاة والعلماء والنشطاء الإسلاميين؟ أم أنها لا تعدو أن تكون فعلا إجراميا معزولا قام به مجموعة من الشباب المهمش والمحروم الذي لم يتلق تربية دينية سليمة؟
ارتسمت حينها بين عيني أياما سوداوية تنتظر البلاد، وكثيرا من أهل البلاد.. كانت الاعتقالات العشوائية قد بدأت بُعيد التفجيرات الإرهابية مباشرة؛ فاعتقل بسببها ما يزيد على ثلاثة آلاف شخص.. وأصبح لا حديث في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية إلا عن الإرهاب والإرهابيين، وحتى في الشوارع والمقاهي والنوادي والتجمعات، كُنت أمر بالشارع فتلاحقني الأعين بنظراتها الساخرة، وأسمع تمتمات الناس وهم يقولون: لا زال أصحاب اللحى يذهبون ويجيئون، كيف لم يُعتقل هذا؟ ومرة سمعتُ أحدهم يقول بصوت مسموع وكأنه يوجه كلامه إلي: لعنة الله على الإرهابيين حولوا حياتنا إلى جحيم!!
كنت أمر بالشارع وأنا خائف أترقب؛ فرجال الأمن لا يُفلتون من رأوا شعرا نابتا على ذقنه، يتجولون بالشوارع ويُنزلون الناس من الباصات وسيارات الأجرة في الحواجز الأمنية التي انتشرت بكل شوارع مدينة فاس، ويقفون بأبواب المساجد ينتظرون خروج المصلين الملتحين..
كنت أحيانا أمر ببعض المحلات لتصفح الجرائد والتقاط آخر الأخبار، فلا أقرأ إلا خبر اعتقال شخص هنا أو هناك، أو نبأ تفكيك خلية نائمة أوشكت على الاستيقاظ !! أو عصابة إرهابية كانت تُخطط لاستهداف أماكن حساسة بالبلاد.. فأتساءل مع نفسي: أين كانت هذه الخلايا كلها؟ وكيف ظهرت فجأة بهذه السرعة الخيالية؟ هل هي حقا خلايا إرهابية، أم هو أسلوب لإرهاب الخلايا والبرايا؟!
ضاقت علي الأرض بما رحُبت، وتنكرت في نفسي الأرض التي أصبحت أمشي فوقها؛ فلم تعد الأرض التي كنت أعرفها، ولا المساجد التي كنت أرتادها، ولا الشوارع التي كنت أتجول فيها..
ثم جاءت لحظة الابتلاء، ففي ذات مساء حزين من شهر أكتوبر من نفس السنة ألحت علي أمي وبالغت في الإلحاح على غير عادتها أن أُأجل الذهاب لفاس إلى الصباح.. لا أدري لماذا؟ هل لأن قلب الأم يشعر ويحس.. أم أن الأخبار التي كانت تسمعها تلك الأيام زادت من مخاوفها؟ كانت السماء حزينة وكئيبة.. ولا أدري أيضا؟ هل لأن فصل الخريف هو موسم الكآبة والحزن.. أم أن السماء كانت تُشارك أمي بعض مخاوفها..
في المحطة الطرقية استوقفني شرطي وطلب مني بطاقة تعريفي الشخصية، ثم احتجزني داخل غرفة ضيقة بالمحطة مع شخص آخر كان فاقدا لوعيه بفعل المخدرات والكحول، كانت الغرفة شبه مظلمة، ورائحة البول تنبعث من أركانها..
في مركز ولاية الأمن سألني المحقق عن اسمي واسم أبي وأمي وإخوتي.. وأمضيت أسبوعا كاملا لا يعرف بمكاني أحد، بت ليلتين بغرفة لا يُطفأ نورها معصب العينين ومقيد اليدين، لا ماء ولا طعام، أصلي بلا طهارة عندما أسمع الآذان، ثم جاء الفرج وأُلحقت بمجموعة من المعتقلين وأزيلت عصابة عيني وفك قيد يدي، وشاركني بعض المعتقلين من مروجي المخدرات طعامه..
انتهى التحقيق وبشرني ضابط الشرطة القضائية بأنه أعد لي تُهما لا تقل عقوبتها عن خمس سنوات سجنا، فوضت أمري لله تعالى، ثم استسلمت للأمر الواقع..
تلا علي الوكيل العام للملك التهم المنسوبة إلي، كانت ثقيلة جدا تصل إلى المؤبد؛ أذكر منها الآن: تكوين عصابة إجرامية، والاختطاف، والسرقة الموصوفة، والضرب والجرح المؤدي إلى عاهة مستديمة، وتوزيع منشورات تدعو للعنف، وانتحال وظيفة نظمها القانون… وفي اللائحة ست وثلاثون ضحية.. نفيت كل المنسوب لي، لكن الوكيل العام قال لي: لماذا وقعت المحضر إذا كان هذا كله كذبا؟ فقلت له: لقد أرغمت على توقيع المحضر دون أن أطلع عليه، ويجب أن أحال على قاضي التحقيق لأن الجرائم المنسوبة إلي خطيرة جدا، وأنا بريء منها براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام.. لم يجبني على طلبي وأحالني مباشرة إلى السجن المحلي عين قادوس بفاس..
بعد جلسات مارطونية بمحكمة الاستئناف كانت العقوبة كما وعدني ضابط الشرطة القضائية: خمس سنوات سجنا وغرامة مالية قدرها ألف درهم، ثم خففت العقوبة إلى سنتين وزادت الغرامة إلى ثلاثة آلاف درهم.. وكانت العقوبة الكبرى اغتصاب مكتبتي التي أنفقت فيها كل ما أملك في سنوات الدراسة..
هناك داخل السجن التقيت أصنافا من الناس، وعاشرت كل أصناف المجرمين، من قتلة ومروجي مخدرات وسراق وزناة.. وكان أبشع ما رأيت هو ذلك الشاب الذي حُكم بالإعدام بسبب قتله أمه، كان منبوذا داخل السجن لا يُكلمه أحد، وأينما ذهب تلاحقه نظرات السجناء الساخرة وكلماتهم الجارحة.. وهناك بالسجن المحلي أوطيطة 2 كانت المعاناة أقل؛ فكل السجناء سجناء رأي، لا تسمع إلا الأصوات وهي تعلو بتلاوة القرآن وحفظه، وليالي رمضان كانت لها نكهة خاصة بفضل صلاة التراويح بساحة السجن.. هناك كل سجين له قصة خاصة، يبدأها بالبكاء ويختمها بالضحك.. السجناء ليسوا أمة واحدة، وإنما هم أصناف وألوان، ومراتب ودرجات، في العلم والجاه والمكانة الاجتماعية، بل فيهم من لا يُحسن وضوء ولا يعرف صلاة، وإنما اعتُقل لأنه شرب يوما كأس شاي مع فلان..
ومضت السنتان بحلوها ومرها، بآلامها وآمالها.. وعانقت الحرية من جديد، وليس عندي شيء أقبح من الزج بمظلوم في السجن بلا جريرة ولا جريمة..
واليوم، وبعد مرور أربع عشرة سنة عجاف على تلك الأحداث الأليمة، لا زال هناك داخل السجون ضحايا لهذه الأحداث الإجرامية، لم يقترفوها بأيديهم ولم يرضوها بقلوبهم.. ولم يعرفوا إلى الآن من هو فاعلها الحقيقي.. هؤلاء الضحايا المنسيون وراء القضبان خلفوا وراءهم ضحايا أبرياء من النساء والأطفال.. لا ندري كيف يعيشون، ولا كيف يدرسون، ولا كيف يشعرون وهم يكبرون بعيدا عن حنان آبائهم وعطفهم ورعايتهم..
ألم يأن للمسؤولين بعد أن يعملوا بجد لوضع قطيعة مع هذا التاريخ الحزين من تاريخ المغرب الحديث، وإصلاح الأخطاء الجسيمة التي ذهب ضحيتها آلاف الأبرياء، وعقد مصالحة وطنية تجعل مصلحة الوطن فوق كل الاعتبارات وتحفظ حقوق المواطن وتضمن كرامته..
لكم الله يا اخوة. فعذرا
لا حول و لا قوة الا بالله