طلاسم خطبة الجمعة!

طلاسم خطبة الجمعة!
هوية بريس – صالح ايت خزانة
ظلت خطبة الجمعة، على هزالة تأثيرها، مرمى هجوم خصوم الرسالة المحمدية، من اللادينيين، والعلمانويين، والملاحدة من قبيلة النخبة المثقفة، منذ عقلنا أنفسنا ونحن نغشى بيوت الله في الجُمَع والجماعات.
فقد كان الإمام الخطيب مُرَاقبا، لا يكاد ينبس بكلمة يبلغ صداها قلوب المصلين، ويحرك وقعها ركود الغافلين؛ حتى ينبري من يتهمه بالتطرف، والغلو، واستغلال المنبر لغير ما وضع له.
ففي الجرائد من إياها، حديث شبه أسبوعي عن كلمات نطق بها فلان أو علان من خطباء الجمعة، تأخذ لها مكانا في الصحيفة تُشرَّح، وتُفسَّر، ويقرأ ما بين سطورها مما قصده الخطيب ومما لم يقصده. في حرب لا تتوقف ضد كل ما هو دين، وخلق، ودعوة للاستقامة، ونقد للظواهر الاجتماعية المشينة، وللمظاهر التسلطية الظالمة.
لقد ظلت خطبة الجمعة الشوكة في حلق التيار العلماني الذي لم يستطع أن يحاصرها في زاوية تخدم أجندته السياسية والاجتماعية، حتى حقق السيد التوفيق، لهذه الأصوات النشاز، بُغْيَتها القديمة/الجديدة، من خلال خطة وُسِمت بتسديد التبليغ، وما لها من التسديد والتبليغ إلا الاسم . أما التبليغ المُسدَّد، حقيقة، فهو ما درجت عليه خطب الجمعة لعقود، زمن انطلاق الفكر، وتحرر العقل. أما الآن، فمع هذا التسديد المفترى عليه، لم يبق لهذه الخطبة إلا رسمها الباهت. فقد تحولت إلى كلام جاف، ولغو باطل، وحديث مُنْبَت، لا يقدم ولا يؤخر. بل أصبح الحضور لسماعه ثقلا على النفس، والفكر، والقلب، يجده المصلون في أنفسهم، فيخلد غالبيتهم إلى النوم، أو يُسرِحون التفكير في مشاغل الدنيا، وهمومها.
نعم، لقد نجح السيد التوفيق، المتحكم في أنفاس الأئمة والخطباء، في تحويل هذه الخطبة إلى كلام لا ينكر منكرا، ولا يدعو لمعروف. كلام يحمل الكثير من التشدق الذي نهينا عنه، فلا يفهمه إلا خاصة الخاصة من أهل العلم. مصطلحات ومفاهيم تخصصية، بعضها في المنطق، وبعضها في فلسفة الاجتماع، وبعضها في أصول الفقه، وبعضها في المقاصد التي يُلوَى عنقها لتبرير أحكام البشر حتى تصير نِدًّا لأحكام الله وتشريعه. يتلقاها المصلون في المداشر، والقرى النائية، وضواحي المدن المهمشة، وحتى وسط المدن الكبرى؛ طلاسمَ لا يفهمون منها معنى ولا مبنى، خلا عبارات الحمد، والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى. آخرها “خطبة العقد الاجتماعي” التي حاول فيها واضعها تفهيمنا أن القوانين الوضعية هي داخلة في شرع الله الذي شرع، والالتزام بها دين نُسأل عنه يوم العرض بين يدي الديان. خطبة، أزعم أن 90% ممن حضرها لم يفهم منها ألفا ولا باء، بل حتى بعض من تلاها من الأئمة والخطباء. والبقية التي استوعبتها، وفهمت ما بين سطورها، استنكرت تحويل منبر الجمعة إلى هذا النوع من الدعاية لدين جديد، أو بالأحرى، لفهم جديد للدين يبغي سلخ الناس عن واقعهم، ونزع شوكة الإنكار على الظلم، والفساد، والاستبداد، من قاموسهم، لأجل خلق نوع من التطبيع مع الواقع يُؤصَّل له من الدين نفسه، حتى لا يبقى لأحد حجة أو اعتراض على شيء. وإلا كان اعتراضه اعتراضا على حكم الله وشرعه الذي يتجلى في هذا العقد “المقدس” الذي يربط الناس بواقعهم السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي !!.
خطبة أثارت دهشتي، وانا أسمع، في خلالها، عبارات غارقة في التخصص القانوني، والفقهي والأصولي. وأنا التفت يمينا وشمالا أتملى في وجوه المصلين، فأجد أغلبها غير مكثرت بما يتلى عليه، خَلَا تفاعل عابر مع الصلاة على الحبيب، صلى الله عليه وسلم، كلما ذكر في خلال الخطبة. عدا ذلك، لامبالاة لافتة من أغلب المصلين الذين لم يجدوا في هذه الخطبة إلا كلاما شبيها بالكلام الذي زهَّدهم في متابعة جلسات البرلمان !.
هذه الخطبة، أقنعتني بما لا يدع مجالا للشك، أن الوزارة، بخطتها هذه، تروم إلى تزهيد الناس في دينهم، حتى يصير طلسما غير مفهوم، فيُكذب الله ورسوله “حَدِّثُوا النَّاسَ، بما يَعْرِفُونَ أتُحِبُّونَ أنْ يُكَذَّبَ، اللَّهُ ورَسولُهُ”(علي كرم الله وجهه). وإلا فما معنى أن نخاطب الناس بما لا يفهمون؟ !!.
بغض النظر عن الرسالة التي رامت الوزارة إيصالها من خلال خطبة “العقد الاجتماعي” الأخيرة، فإن هذه الخطبة، التي لم يجرؤ الأئمة على التصرف فيها؛ شرحا، وتحليلا، وتقريبا لمفاهيمها المعقدة من عموم المصلين الذين يشكلون الأغلبية؛ فإن استمرار مثل هذه الخطب، ليس له تفسير سوى رغبة في إفقاد الجمعة وخطبتها ما شملها عبر قرون من قدسية خاصة، واهتمام لافت من قبل المسلمين المغاربة، الذين لم تعد تهمهم، ولم يعد لحضورها في يومهم الجمعة مكان. فقد أصبحت، وستصبح بلا شك، لغوا كامل الأركان. وهذا، بالضبط، ما يريد تحقيقه أعداء الدين المتربصين بشرعه، من بني علمان، ومن قبيلة الملاحدة واللادينيين..!!
دمتم على وطن.. !!.



