طوفان الأقصى.. درس في أسباب النصر وجدوى المصالحة
هوية بريس – عبد العزيز غياتي
هل سنمنح ضمائرنا لحظة تأمل نقلّب خلالها أوراق طوفان الأقصى من أجل العبرة، أم سنركب بمحض إرادتنا (أفعوانية) الإعلام التي توجهها لوبيات الفساد العابر للقارات، لنطوي صفحة تلك الشهور ونعود إلى الروتين السياسي المزيف الذي كنا عليه قبل السابع من أكتوبر؟ وننسى كما ديدن الشعوب المدمنة على النسيان ما دوّنه التاريخ نقشا على الحجارة الصماء.
هل سنحنّئ لحانا بخليط الخيانة والذل والمهانة، كما خضب الصهيوني والأمريكي وحلفاؤهما أيديهم بدماء الأطفال والنساء والشيوخ والجرحى والأسرى والنازحين، ورجال الصحافة والإسعاف، والأطباء والممرضين والعاملين في منظمات الأمم المتحدة في غزّة؟
وهل سندفن رؤوسنا في الرمال ونضرب صفحا عما أصبح يُرى رأي العين وأصبح يُجمع عليه الكلّ بغضّ النظر عن الديانات والإيديولوجيات والأعراق والقوميات بعد أن كان موضوع جدال وأخذ وردّ؟
هل ستأثم قلوبنا بكتم الشهادة، أم سنكون شهود زور ونحن نمثل أمام محكمة التاريخ الذي سوف يدعونا لنقل ما شهدناه اليوم إلى الأجيال المقبلة؟
أم سنحصّل أفضل الجهاد ونقول كلمة حقّ عند نظام دولي جائر فنتحدث بشجاعة ونحدّث المستقبل والحاضر عن كيان لقيط زُرع في قلب الأمة وظل وفيا لنظام العصابات الذي تأسس عليه ونما في كنفه وهو يمارس التطهير العرقي والتهجير عبر التاريخ للتوسع والاستمرار، ويبذل اليوم أقصى جهده تحت مظلّة دول تدعمه بدون حدود، بالمال وأشباه الرجال، وبالمدد الاقتصادي والعتاد الحربي، وبالدعم السياسي والإعلامي، يبذل كلّ ما يستطيع من تطهير حضاري تحت شعار القتل المستدام وبكلّ الوسائل؛ القتل للإنسان الغزي بالقنابل الموقعة بخطّ اليد من رئيس الدولة التي تستهدف التجمعات البشرية ضمن ترسانة عسكرية لا تبقي ولا تذر، والقتل بالمرض والإصابات بهدم المستشفيات وقصف سيارات الإسعاف واعتقال الأطقم الطبية وترهيب من تبقى منهم، والحيلولة دون دخول المستلزمات والتجهيزات الطبية والأدوية، وقطع الكهرباء والوقود الضروري لتشغيل المستشفيات، وتخريب الألواح الشمسية التي توفربعض الطاقة لها، أو القتل البطيء بتخريب نقط المياه الصالحة للشرب وتخريب تجهيزات الصرف الصحي وقصف شاحنات نقل النفايات، وتخريب المطاحن ومحلات المواد الغذائية وتشديد الحصار لمنع دخول رغيف خبز وقنينة ماء وعلبة دواء، والقتل للمدنيّة في غزة بوضع نهاية للحياة ومقوماتها، وهدم المباني فارغة أو على رؤوس ساكنيها، وتجريف الأراضي المزروعة والشوارع والطرقات، وهدم المآثر ونبش المقابر بالجرافات المدرعة، ليس بهدف العودة بقطاع غزة إلى ما قبل التاريخ ولكن لتحويله إلى فضاء لتجميع الرّدم والنفايات لتستحيل معه بعد ذلك الحياة.
هل سنشق عصا الطاعة على النظام الدولي الجائر الذي يحمي هذا الكيان المسرطِن بالمطرقة الناعمة والإعلام المضلل والجزرة المسمومة؟ هل سنقول كفى من التطبيع وكفى من التفكير فيه باسم الواقعية، والحال أنّه علينا اليوم أن نخرج موازين الواقعية والبراغماتية ونمسح عنها خيوط العنكبوت وتراب سنوات الظلام لنسائل العقل؛ هل سنبرم اتفاقا ومعاهدات مع من تعوّد خرق المواثيق الدولية التي تحرم قتل المدنيين والنساء والأطفال والأسرى والأطقم الطبية وأطقم الإغاثة وتحرم قصف المستشفيات وسيارات الإسعاف؟ وما الذي جنته فلسطين والسلطة الفلسطينية من اتفاق أوسلو وما تلاه من اتفاقيات، وماذا جنت مصر من كمب ديفيد، والأردن من وادي عربة غير خراب الزراعة والاقتصاد؟ وهل بعد اليوم هناك من ذوي الألباب من يعتقد أنّ الاحتلال النازي سيكون أرحم بنا وأعدل معنا نحن الجويم منه مع إخوانه اليهود الذين قصفهم يوم 7 أكتوبر وهم يختبئون داخل المباني وأحرقهم وهم في طريق الفرار بسياراتهم، ومع أسراه الذين يقتلهم كلّما أتيحت له الفرصة وبطريقة ممنهجة عملا ببروتوكول هانيبال؟
لقد أكّد الشعب الفلسطيني والمقاومة من خلال طوفان الأقصى أنّ ثمن النصر قد يكون غاليا ولكن أسبابه لا تشترط المساحة الشاسعة؛ فغزة ذات 360 كيلومترًا مربعًا لا تمثل غير 0,003%من مساحة العالم العربي و0,001 % من البلاد الإسلامية، ولا عدد السكان الذي يزيد قليلا على 2.2 مليون نسمة ويمثل فقط 0,5% من العرب و0,1% من المسلمين، ولا التجهيز التكنولوجي، فغزة المحاصرة لا تقاس بغيرها من الدول ولا تتوفر على مصانع السلاح ولا تستورده برّا ولا بحرا ولا جوّا، إنّما تكتفي في الأغلب بما تنتجه عن طريق الابتكار بإعادة تدوير ما هو متاح وعن طريق الهندسة العكسية، وليست العبرة بالتحالفات فشعب غزة والمقاومة بإيمانها بالقضية وإصرارها على المقاومة واحترامها لأخلاق الحرب واجهت بشكل مباشر تحالف الجور، وحصدت النصر في الميدان، والنصر باكتساب دعم شعوب العجم والعرب، والنصر بإخراج القضية الفلسطينية من الظلمة والنسيان إلى النور، وحصدت النصر بتركيع الجيش (الذي لا يقهر) في الميدان، وجرّ الكيان المحمي من الدول العظمى لأول مرة في التاريخ إلى محكمة العدل الدولية لتسجّل ضدّه حكم ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية في غزة، وتُسقط عن وجهه الصفيق قناع الضحية، هذا الكيان الذي طالما سوق لأغنية المحرقة وبرّر بها جرائمه بشتى الألحان.
لا غرابة أنّ تقاوم المقاومة وأصبعها على الزناد إغراءات المساومة من أجل بيع القضية والتخلى عنها، ولا غرابة أن يتساوق الشعب الفلسطيني وهو قابض على الجمر مع المقاومة في التشبث بالمقدسات والأرض والقضية وبالمقاومة بلا حدود ولا شروط؛ فتلك المقاومة من رحم ذلك الشعب، وهذا الأخير حاضن لها إلى آخر رمق، و ذلك هو أهمّ أسباب النصر الذي يجب أن ننتبه إليه؛ فصمّام الأمان هو تصالح الأنظمة مع شعوبها بتوفير ديمقراطية حقيقية تفرز نخبة حاكمة ونخبة فاعلة و مؤثرة من رحم الشعب، تقتسم معه سبيكة الذهب في السراء و كسرة الخبز في الضراء، وليس نخبة فاسدة تبحث عن تسمين ثروتها بالتحالف مع شياطين المال والأعمال والسياسة من الداخل والخارج، نخبة مستعدة على الدوام للنزول من السفينة وتركها تغرق بمن عليها وتختفي وراء الضباب، فهلّا شققنا في قلوبنا نفقا نخرج منه حظّ شيطان السياسة منّا.