عام مضى والمقاومة صامدة (ج2)

07 أكتوبر 2024 18:48
دروس مستفادة من حرب غزة الأخيرة

هوية بريس – عبد العلي الودغيري

المهم، أن العدو أجبِر لأول مرة في تاريخه منذ قيامه، على خوض حرب طويلة شَرِسة دون أن يصل إلى تحقيق هدفه البعيد، وهو القضاء النهائي على المقاومة الوطنية المسلَّحة بإيمانها السخيّة بدمائها، كما توقَّع في البداية؛ حربٍ خسر فيها العدو آلاف الجنود وآلاف الجرحى والمعطوبين ومن أصيبوا بالاكتئاب والأمراض النفسية الحادة، وتمَّ فيها القضاء على عدد من الآليات والمعدّات الحربية المتطورة، وهذا ما لم يسبق أن وقع مثله أو حتى نصفُه في كل الحروب الثلاث السابقة التي شنَّتها إسرائيل مع جيوش الدول العربية منذ 1948، رغم إحجام العدو عن تقديم إحصاء حقيقي بخسائره في الأرواح والمعدّات.

وفي المقابل، نجح العدو في القضاء على إسقاط ما يقرب من خمسين ألف شهيد فلسطيني، بمعدل 136 شهيد كل يوم، وضِعف هذا العدد من الجرحى والمعطوبين، أي بمعدل 272 جريح كل يوم أغلبيتهم الساحقة من المدنيّين لا من المسلَّحين. كما نجح في تدمير قطاع غزة بكل ما فيه من مساكن ومتاجر ومحلات ومصانع ومدارس وجامعات، وتحطيمها على مَن فيها من التلاميذ والأساتذة واللاجئين، وهدم كل المساجد ودور العبادة وإسقاط حطامها على رؤوس المصلّين والمُحتمِين، وتدمير المستشفيات والصيدليات ومخازن الأدوية ومراكز الإغاثة وسيارات الإسعاف، وتخريب كل البنيات التحتية من طرق وقناطر ومصادر مياه صالحة للشرب، وإحراق كل ما حول ذلك من حقول ومزارع ومصادر القوت اليومي للسكان، وتلويث البيئة والماء والهواء بالغازات وشظايا المتفجرات، وقتل العدد الكبير من الأطباء والممرّضين والمُسعفِين وهم يزاولون مهمتهم في محاولة إنقاذ الجرحى، ومنع كل قوافل المساعدة التي تأتي من الخارج والهجوم عليها وتدميرها هي الأخرى، وإغلاق المعابر البرية التي كان أهل غزة يحصلون من خلالها على الغذاء والدواء. بل لقد قتل العدو في هذا العام عددًا كبيرًا من طواقم منظمات الإغاثة الدولية، وأكثر من 170 صحافيا وإعلاميا يمثلون قنوات فضائية محلّية وعالمية، ولم يكن أحد منهم يحمل سلاحًا من أي نوع سوى الميكروفونات التي ينقلون منهم الأخبار للعالم وعدسات التصوير التي يفضحون بها ما استطاعوا التقاطَه من مشاهد توثّق حجم المحارق والمجازر الوحشية والهمجية التي لم يسبق للتاريخ البشري أن عرف مثلها في قوتها وحجمها وعنفها، وتشهد على مؤامرة الصمت العالمي على ما يجري في تلك البقعة الصغيرة من جرائم يحاول العدو التستّر عليها، وتجمع الأدلة على ما يُدين هذا العدوان الغاشم الذي يتصرّف على أنه فوق كل الأعراف والقوانين والمحاكم وشرائع المجتمع الدولي، ولا يعترف إلا بشريعة الغاب التي تذكِّر بالطريقة الوحشية التي تعامَل بها المختلون الإنجليز وغيرهم مع الهنود الحمر في أمريكا يوم احتلّوها، ومع السكان الأصليّين في استراليا وغيرها من مناطق العالَم التي فرضوا عليها سيطرتهم الكولونيالية بالحديد والنار والإبادة الجماعية.

نعم، لقد نجحت آلة الدمار الإسرائيلية الأمريكية في صبّ آلاف الأطنان من القنابل والمتفجّرات المحرَّمة قانونيا على أجساد الصغار والكبار والعجَزة والمرضى وغيرهم من المدنيّين الذين لا ذنب لهم ولا حول ولا قوة، سوى أنهم كانوا يدبّون فوق الأرض أو يَحتَمون بملاجئ ومدارس ومستشفيات، وسوى أنهم من أبناء فلسطين الذين حُوصروا من كل جانب جوا وبحرا وبرا، ليُقتلوا ويُحرَّقوا ويُبادوا ويُستأصَلوا. ومن لم يمت بالسلاح والتدمير منهم مات بالحصار وبالجوع والعطش وتفشّي الأمراض. نعم. نجح العدو في إبادة البشر وتدمير الحجر وإحراق النبات والشجر، وممارسة حرب التجويع وقطع الماء والدواء عما لا يقلّ عن مليوني إنسان مدنيٍّ أُريد لهم أن يُبادوا انتقامًا من جماعة المقاومة، بل أريد لهم ذلك أيضا بقصد وتعمدّ وسبق ترصُّد، من أجل كسر التفوق العددي للفلسطينيين على يهود الأرض المحتلة، وهو أمر ظل يشكّل دائمًا عقدة في نفسية العدو، فجاءت المناسبة للتنفيس عن هذه العقدة بنصب هذه المجازر اليومية منذ أكتوبر الماضي إلى أكتوبر الحالي. كل ذلك حدث والعالَم يكتفي بالتفرَّج دون أن يحرّك ساكنا، إلا ما كان من بعض المظاهرات التي خرجَت هنا وهناك في الجامعات وبعض العواصم للشَّجب والتنديد بين الحين والآخر، وأكثرها حدَثَ في بلاد الغرب لا في بلاد العرب والمسلمين للأسف الشديد، ومع ذلك فإن هذه المظاهرات السلمية لم تسلم هي الأخرى من المحاصرة والتدخل الأمني لمنعها والاعتداء على المشاركين فيها.

وإذا كانت انتفاضة الشارع في بعض الدول الغربية قد استطاعت في وقت معيّن أن تؤثّر في تحويل بعض المواقف السياسية لساسة هاته الدول، فإن أمريكا وحلفاءها ظلوا باستمرار يبحثون عن الفرص المناسبة لإرجاع التعاطف الغربي مع إسرائيل إلى خطه المعتاد، وإعادةِ رفع الشعار المُضلِّل: ”حق إسرائيل في الدفاع نفسها”، وكأن اللصَّ المعتدي هو الذي يجب أن يُمنح حقَّ الدفاع عن نفسه، وليس من اغتُصِبت أرضُه وهُدِّمت بيوتُه ودُنِّست حُرُماتُه وسُلِبت حريتُه. هذا هو القانون الإنساني الذي يتبجَّح به الغرب. حقُّ الظالم لا حق المظلوم، حق الغاصب لا حق المغصوب. حق القويُّ بسلاحه لا حق الضعيف الذي لا يملك ما يدافع به عن نفسه. وأيُّ حقّ هذا الذي منحوه لكيان مصطنَع اجتمعت فيه عصابةٌ من مجرمي العالَم وشُذَّاذ الآفاق، جاؤوا بلا تربية ولا أخلاق من كل شَتات الأرض، فاغتصبوا وطنًا لا يملكونه فيه مترًا واحدا سوى ما سرقوه من أهله وابتزّوه بشتى الحيَل، وشرَّدوا أهلَه وقتلوا سكانَه، وصاروا يمنعون مَن تبقَّى من الأهالي ونجا من الموت والتشريد، حتى من دخول مسجد من أقدس مساجدهم والصلاة فيه؟

تلك قصة واحدة من عشرات القصص والأمثلة الأخرى الشاهدة على تناقض المعايير واختلال المكاييل التي تستعملها الدول الغربية في تأويل الجرائم وتفسير الأحداث التي تجري في كوكب الأرض حسب هواها، وهي مع ذلك، تزعم لنفسها أنها تقود العالَم بقوتها وجبروتها نحو العدالة والديموقراطية والمساواة والحقوق الإنسانية.

وذلك هو التفوق الوحيد الذي كان للعدو الغاصب؛ التفوّق في قتل المدنيّين، ثلُثاهم من الأطفال والنساء والعجزة والمرضى، التفوق في تدمير البنيان ودكّ المدارس والجامعات والمساجد والمَشافي ومراكز الإسعاف وقطع الغذاء والدواء، وتخريب الطرقات والبِنْيات. فماذا ربحته المقاومة وربحه معها العالم العربي والإسلامي؟ ذلك ما سنتحدث عنه في الحلقة القادمة.
يتبع

آخر اﻷخبار

التعليق

اﻷكثر مشاهدة

حالة الطقس
18°

كاريكاتير

حديث الصورة

128M512M