عام هجري جديد والمستقبل للإسلام
هوية بريس – د. يوسف الحزيمري
أهل الله علينا شهر المحرم من العام الهجري الجديد 1445هـ، وأمتنا الإسلامية تعيش تحديات كبرى على جميع المستويات، ومن أهمها تحدي تبليغ رسالة الإسلام الخاتمة إلى العالم، باعتباره البديل الحضاري الذي من شأنه إنقاذ العالم في مستواه المادي والروحي، مما يعانيه اليوم من هيمنة متوحشة تأتي على الأخضر واليابس وتهلك الحرث والنسل، خصوصا وأن الغرب الآن تعتوره على المستوى العلمي أفكار خطر الانقراض للجنس البشري. وفي هذا الصدد يرجى الوقوف على كتاب “التفكير الكارثي (الانقراض وقيمة التنوع من داروين إلى الأنثروبوسين)” لديفيد سيبكوسكي، حيث يرى أننا نعيش في عصر يذكرنا فيه العلماء ووسائل الإعلام والثقافة الشعبية مراراً وتكراراً بخطر الانقراض الجماعي الذي يلوح في الأفق.
في الوقت الذي تطغى فيه هذه الأفكار وغيرها من مثل الحديث عن ما بعد الطبيعة، وما بعد الحداثة، ومستقبل الروحانيات، وسرعة انتشار السلوك، وهيمنة الرقميات والذكاء الاصطناعي وقدرتها على تغيير أنماط الحياة لدى الناس.
قلت: في خضم هذه الأفكار التي تعتبر تحديات مستقبلية لدى الغرب، يطلع علينا بعض العدميين ليناقشوا ويلوكوا شبهات وردت على رسالة الإسلام قديما وأجيب عنها إجابات شافية كافية لكل من كان له عقل يحتكم إليه، أما هؤلاء فهم نوكى يحاولون بترهاتهم زعزعة إيمان العامة، وهم في ذلك كناطح صخرة، أو كما يقول الداعية “عبد الحميد كشك” رحمه الله: ماذا يضير البحر ولوغ الكلب فيه.
إن الرسالة الإسلامية هي رسالة عالمية خاتمة، وهي البديل والحل الذي أظهر نجاعته منذ ظهوره إلى الآن، يقول الدكتور “مراد هوفمان” في كتابه “الإسلام كبديل”: “عندما تنافس العالم الغربي والشيوعية على قيادة العالم، كان يمكن اعتبار الإسلام نظاما ثالثا بينهما، ولكنه اليوم البديل للنظام الغربي. يتوقع بعض المراقبين بعيدي النظر أن يصبح الإسلام الديانة السائدة في القرن القادم، إن شاء الله. السبب في هذا يقترحه عنوان الكتاب، فليس الإسلام بديلا من البدائل لنظام ما بعد التصنيع الغربي، بل هو البديل”.
وفي المحاولة للتأسيس لعنوان هذه المقالة، راجعت كتاب الدكتور “حسين مؤنس” والذي هو بعنوان “الإسلام الخاتم” وفيه البطلان -ببرهان الواقع التاريخي- لقول القائلين إن الإسلام انتشر بحد السيف، فما رفع سيف على رجل ليدخل الإسلام، ولا أسلمت أمة وعلى رقاب أهلها سيف، إنما كان السيف لأهل السيوف المسلولة على الإسلام وأهله ولمن وقف في طريق الدعوة، وإذا كان الله سبحانه قد زوى الأرض للإسلام، فقد كان ذلك عن طريق الإسلام نفسه، هو الذي فتح القلوب وغزا الأفئدة. ولقد أعز الله دينه فلم يجعل لأحد عليه فضلا، وإنما الفضل لله وحده وللإسلام، وصدق الله سبحانه وتعالى حيث قال: {يَمنُونَ عَلَيْكَ أَن أَسْلَمُوا قل لا تَمُنُّوا عَليَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ للإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17].
وقد تحدث فيه عن مسالك الإسلام في انتشاره بين الناس في جميع الأصقاع، وذلك من خلال الداعية الأسوة، ونظام الولاء، وأن الإسلام ينتشر بفضائله وقوته الذاتية، وفي ذلك يقول: “لم يسبق فيما مضى أن كانت للمسلمين سياسة موضوعة لنشر الإسلام يقوم عليها رجال متخصصون يجرون في أعمالهم على مناهج مقررة كما هو الحال في النصرانية”، وهذه نقطة مهمة ينبغي الوقوف عندها مليا لنعرف مدى قوة الإسلام الذاتية، وأنه لا يضيره تقاعس أهله، ولا محاربة أعدائه.
فانتشاره هو إرادة إلهية عليا آخذة في التحقق على مر الليالي والأيام، والله متم نوره ولو كره الكافرون وهو مظهره على الدين كله ولو كره المشركون، والخلاصة كما يقول الدكتور “حسين مؤنس”: أن داعية الإسلام الأكبر هو الإسلام نفسه، فقد تضمنت عقيدته وشريعته من الفضائل ما يجعل الناس يحرصون أشد الحرص على أن يدخلوا فيها، ثم إن الإسلام يعطي الداخل فيه كل شيء ولا يقتضيه شيئاً. فإن الإنسان يكسب الصلة المباشرة بالله سبحانه وتعالى ويجد الطريق إليه ليقف بين يديه خمس مرات في اليوم ويدعوه دون حجاب، ويكسب الأمل في حياة أسعد وأرغد في هذه الحياة الدنيا ثم حياة الخلود في دار البقاء، ولا يكلفه ذلك إلا النطق بالشهادتين واتباع شريعة الإسلام وكلها خير ومساواة وعدل.
وقد كُتب الكثير عن (المستقبل للإسلام) و(مستقبل الإسلام)، ويكاد يجمع جميع من كتب على هذه الحقيقة التي تخجل من هم بالخارج أحرى بمن هم في الداخل، وذلك ليشفي الله قلوب المؤمنين ويغيض بذلك أعداء الدين.
إن سبل الشيطان التي يكيد بها للإنسان قد تكون هي نفسها السبل التي يدخل منها للإسلام، فمن خرج بواسطة شبهة كانت الحقيقة المضادة لها هي السبيل للعودة، ومن خرج بواسطة شهوة كان الانصراف والتوبة عنها سبيلا لنيل المغفرة والتواب، {أَمۡ يُرِيدُونَ كَيۡداۖ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هُمُ ٱلۡمَكِيدُونَ} [الطور: 42] ﴿إِنَّهُمۡ يَكِيدُونَ كَيۡدا وَأَكِيدُ كَيۡدا﴾ [الطارق: 15-16].
البشارات في الكتاب والسنة بمستقبل الإسلام كثيرة جدا، والواجبات على المسلمين لإعلاء كلمة الله أيضا كثيرة، وأهمها واجب النصرة لله ولرسوله، وقد أمرنا ربنا عز وجل في كتابه العزيز بنصرة دينه، وإعلاء كلمته، والإيمان برسله ونصرتهم، وتعزيزهم، وتوقيرهم، والإيمان بالكتب المنزلة معهم، وجعل هذا الأمر من مقتضيات (لا إله إلا الله محمد رسول الله) صلى الله عليه وسلم، فنصرة المؤمن لله كما قال الإمام القشيري هي: “نصرة دينه بإيضاح الدليل وتبيينه، ونصرة الله للعبد بإعلاء كلمته، وقمع أعداء الدين ببركات سعيه وهمّته”، فبهذه النصرة لله ينصرنا الله على أعدائنا، قال ابن فورك: “النصر: المعونة على العدو”.
وقرر الله عز وجل ذلك سنة كونية في كتابه العزيز، قائلا: {وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40]، وقال أيضا: {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ } [محمد: 7]
يعني: “مَنْ نصر دين الله نصره الله على ذلك”، وهذه سنة الله في جميع الأمم الماضية، فمن أقام أوامر الله في أرضه نصره الله وأيّده، ومكّن له، وبدّله بعد الخوف أمنا.
وضرب الله لنا الأمثال في الأمم السابقة التي أرسل إليها الأنبياء والرسل عليهم السلام، فما آمن معهم إلا قليل، وكانت تلك القلة هي من نصرت الله ورسله، فكان وعد الله محققا لهم في نصرتهم على عدوهم، وإظهار دين الله عز وجل {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَيَوۡمَ يَقُومُ ٱلۡأَشۡهَٰدُ} [غافر: 51].
وهذه السنة الكونية هي حقيقة اعتقادية فالمؤمن -كما قال الماتريدي-: “من يعلم -علم اليقين- أن من نصره اللَّه لا يغلبه شيء، ومن يخذله اللَّه لا ينصره شيء”.
وقال الإمام القشري رحمه الله: “والموعود من نصرة الله لأهل الحق إنما هو بإعلاء كلمة الدّين، وإرغام من نابذ الحقّ من الجاحدين، وتحقيق ذلك بالبيان والحجة، وإيضاح وجه الدلالة، وبيان خطأ أهل الشبهة”.
وإننا مأمورون بنصرة الله {يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُونُوٓاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبۡنُ مَرۡيَمَ لِلۡحَوَارِيِّـۧنَ مَنۡ أَنصَارِيٓ إِلَى ٱللَّهِۖ قَالَ ٱلۡحَوَارِيُّونَ نَحۡنُ أَنصَارُ ٱللَّهِۖ} [الصف: 14]، ونصرة رسوله الخاتم محمد صلوات ربي عليه، وقد أخذ الله العهد والميثاق على جميع الأنبياء وأممهم بالإيمان به ونصرته، قال تعالى: {وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلنَّبِيِّـۧنَ لَمَآ ءَاتَيۡتُكُم مِّن كِتَٰب وَحِكۡمَة ثُمَّ جَآءَكُمۡ رَسُول مُّصَدِّق لِّمَا مَعَكُمۡ لَتُؤۡمِنُنَّ بِهِۦ وَلَتَنصُرُنَّهُۥۚ قَالَ ءَأَقۡرَرۡتُمۡ وَأَخَذۡتُمۡ عَلَىٰ ذَٰلِكُمۡ إِصۡرِيۖ قَالُوٓاْ أَقۡرَرۡنَاۚ قَالَ فَٱشۡهَدُواْ وَأَنَا۠ مَعَكُم مِّنَ ٱلشَّٰهِدِينَ} [آل عمران: 81].
إن دين الإسلام أعلى الأديان كلها وأكثرها أهلاً، قد نصره الله بالبر والفاجر والمسلم والكافر، فروى الربيع بن أنس عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهِ يُؤَيِّدُ بِأَقْوَامٍ مَا لَهُم فِي الأَخِرَةِ مِن خَلَاقٍ)، قال الماوردي رحمه الله:”{وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ} يعني من أهل طاعته. وفي التأييد وجهان: أحدهما: أنه المعونة. والثاني: القوة”.
إن نصرة الله ورسوله بالإيمان بهما، وإظهار شعائر الإسلام وتعظيمها، والدعوة إلى الله على بصيرة، وأن يعتقد المؤمن في قوله تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[آل عمران: 160]، قال الراغب الأصفهاني: “أكثر المفسرين جعلوا نصرة الله للعبد في الحقيقة تقويته بأعظم السلطانين، الذي هو الحجّة القاهرة وأعظم التمكينين، الذي هو العاقبة المذكورة في قوله: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) وفي أشرف الدارين حيث لا ينفع مال ولا بنون. فقالوا: معناه: إن حصل لكم النصرة فلا تعتدُّوا ما يعرض من العوارض الدنيوية في بعض الأحوال غَلَبة، وإن خذلكم في ذلك فلا تعتدّوا ما يحصل لكم من القهر في الدنيا نصرة، فالنصرة والخذلان معتبران بالمآل”.