عبد الفتاح السيسي ودرس الفرص الضائعة.. “حين يخسر الإنسان ما هو أعظم..”؟!

هوية بريس – رشيد بلزرق
تمهيد: مما أحبه وأحاول الاجتهاد فيه قدْر الوسع مقاربة الأشياء وما يحيط بالإنسان من مواقف وظواهر: النظر إليها من زاويةٍ تبحث في الأسباب والعلل التي قد تخفى في البداية، لكنها تتكشف شيئًا فشيئًا مع التأمل والتتبع. وما أكتبه في هذا السياق ليس تقريرًا قاطعًا ولا تحليلًا محكمًا، وإنما هو خطرات وتأملات تنشأ أحيانًا من قراءات مضت، وأحيانًا من تجربة حاضرة، ثم تصاغ في كلمات أرجو أن تقرّب المعنى وتفتح باب الفهم.
وإن كانت هذه المقاربة تلتفت إلى الواقع الإنساني والاجتماعي، فإنها بطبيعتها لا تنفصل عمّا تشرّبتُه من ثقافة شرعية ومنهج في التفكير، غير أنني لا أزعم لها القطع والجزم، بل أعدّها محاولة للفهم، قد تصيب في موضع وتخطئ في مواضع أخرى خر.
ومن هذا المنطلق جاء اختياري لشخصية عبد الفتاح السيسي، لا بصفته شخصًا منفردًا، بل باعتباره نموذجًا بارزًا في الساحة العربية والإسلامية، تجسّد قصته جانبًا من أزمات القيادة وضياع الفرص، وما تتركه هذه الأزمات من آثار ومآلات في المجتمع والتاريخ.
✔️ الفرصة الضائعة:
منذ أن برز اسم عبد الفتاح السيسي إلى واجهة المشهد السياسي في مصر، ارتسمت حول شخصيته علامات استفهام كبرى، بين من اعتبره “المنقذ!” وبين من رآه “الخائن”. لكن الوجه الآخر لهذه الشخصية -الذي يصرّ التاريخ على كشفه- هو وجه الطمع والجشع والأنانية، وهي السمات التي شكّلت الملامح العميقة لقراراته وخياراته، فانتهت بمصر إلى ما تعيشه اليوم من انسداد سياسي وبؤس اقتصادي واجتماعي.
لقد كان للسيسي فرصة تاريخية قلّما توفرت لغيره: أن يكون السند الأمين للرئيس الشرعي المنتخب محمد مرسي رحمه الله، والذراع القوي لبناء مصر جديدة على أساس من الشرعية الدستورية والمشروعية الشعبية. كانت أمامه فرصة أن يحصد ذات المركزية والأهمية التي نالها لاحقًا، لكن في إطار مختلف؛ إطارٍ شريفٍ ومشروعٍ تُباركه الأمة وتدعمه الجماهير.
✔️ الجحود والعجلة:
لكن الرجل اختار أن يجحد النعمة، وأن ينكر الخير، وأن يسلك طريق العجلة والطمع. وهنا يتجلى معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ [العاديات:6] أي شديد الجحود لفضل الله، قليل الشكر لنعمائه.
لقد آثر السيسي أن يختصر الطريق إلى السلطة عبر الخيانة والانقلاب، فإذا به يخسر ما هو أعظم مما كسب:
خسر رضا الله عز وجل، إذ جره طمعه إلى سفك الدماء وخيانة الأمانة، ولا جريمة أبشع من دماء الأبرياء التي ستبقى لعنة على عنقه.
وخسر أن يخلّده التاريخ، فقد أضاع الفرصة أن يكون له ذكر طيب وأثر باقٍ في سجل العظماء، وأن يُكتب اسمه في ذاكرة الأمة كأحد بناة نهضتها.
بل اختار أن يُسطر اسمه في خانة الخيانة، وأن يُذكر في صفحات التاريخ بمداد الدم والخذلان.
✔️ المقارنة الفاصلة: بين الخائن والثابت
إن أبرز ما يكشف الوجه الآخر للسيسي هو المقارنة بالرئيس الذي انقلب عليه، محمد مرسي رحمه الله.
*-: محمد مرسي لم يمكث في الحكم إلا عامًا واحدًا، لكنه حمل الشرعية بأمانة، وظل وفيًّا لقسمه أمام الأمة، لم يخضع للابتزاز، ولم يتنازل عن الحق، ولم يغدر بالأمانة. وقف صلبًا في وجه الضغوط الداخلية والخارجية، وكان مستعدًا أن يدفع حياته ثمنًا لبقاء مصر على طريق الحرية.
انتهت حياة مرسي في قفص السجن مظلومًا شهيدًا، لكن ذكره لم يمت؛ بقي حيًّا في وجدان الملايين، حاضرًا في ضمير الأمة، يُذكر كلما ذُكرت قيم الصمود والثبات، بل أصبح رمزًا من رموز النضال الإسلامي والعربي في العصر الحديث.
مرسي وإن خسر السلطة ماديًا، فقد ربح الخلود المعنوي، وترك أثرًا خالدًا سيبقى في التاريخ.
*-: أما عبد الفتاح السيسي، فقد ظفر بالسلطة، لكنه اختار أن يصل إليها بالخيانة والغدر. امتلك القصور، وتحكّم في مقاليد الدولة، وجمع من الجاه والمال ما لم يحلم به، لكنه في المقابل فقد ما هو أسمى: فقد ثقة الأمة، وخسر مكانته في التاريخ، وسيبقى اسمه مرتبطًا بصفحات القمع وسفك الدماء.
مرسي مات مسجونًا، لكنه خرج من الدنيا مرفوع الرأس.
السيسي يعيش في القصر، لكنه محاط بعزلة عميقة، تُطارده لعنات الدماء وتلاحقه ألسنة الدعاء عليه في ليل الأمة ونهارها.
مرسي نال محبة الناس بعد موته، والسيسي يلقى مقت الناس وهو على قيد الحياة.
وهكذا، يظهر الفرق الفاصل: بين رجلٍ عاش قليلًا لكنه خُلّد في ضمير الأمة، ورجلٍ ملك كثيرًا لكنه سيُدفن في مزبلة التاريخ.
✔️ الخسارة الأعظم:
لقد استعجل السيسي مجده وسلطانه، فطلبهما بما حرّم الله: خيانةً للشرعية، وسفكًا للدماء، وإجهاضًا لمشروع أمة. وقد نبه النبي ﷺ إلى خطورة هذا المسلك حين قال: «إن روح القدس نفث في رُوعي أنّه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا يحملنكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعصية الله، فإن ما عند الله لا يُنال إلا بطاعته».
فكان نصيبه أن خسر الدنيا والآخرة معًا، وأضاع ما كان يمكن أن يحصل عليه بالحلال والمشروعية والوفاء.
✔️ العبرة الباقية:
إن قراءة الوجه الآخر لعبد الفتاح السيسي لا تُراد لذاتها، ولا لمجرد تسجيل موقف سياسي، وإنما لتكون عبرة في طبائع البشر. فالإنسان حين يُعرض عن الخير، ويجحد النعم، ويستبد به الطمع والعجلة، قد يخسر ما كان يمكن أن يناله بطرق مشروعة، بل بأعظم مما طمع فيه أصلًا.
لقد كان أمام السيسي طريقان: طريق الشرعية والوفاء والأمانة، وكان كفيلاً بأن يوصله إلى المجد والشرف والمكانة في الدنيا والآخرة؛ وطريق الطمع والجحود والخيانة، وقد اختاره بملء إرادته. فكان نصيبه أن يخسر رضا الله، ويخسر الذكر الحسن، ويخسر أن يكتب اسمه في سجل المصلحين.
وهكذا يصبح السيسي نموذجًا حيًا نعيشه، يذكّرنا بأن الإنسان قد يُضيّع أعظم الفرص وأشرفها بسبب أمراض النفس من طمعٍ وجحودٍ وعجلة، فيخسر الدنيا والآخرة معًا. وهذه العبرة ليست لشخصه وحده، بل لكل من يتصدى لحمل أمانة الأمة في أي زمان ومكان.



