عجبا لعالم يبحث عن حياة.. ويقتل الحياة

21 أبريل 2025 18:08

هوية بريس – برعلا زكريا

يا للعجب من هذا العالم الذي نعيش فيه، عالم انقلبت فيه الموازين واختلت فيه المعايير! فبينما تُضخ المليارات وتُسخر العقول لاستكشاف أغوار الفضاء السحيق، بحثا عن بصيص حياة مجهرية على كوكب يبعد عنا دهورا ضوئية، تُزهق أرواح الأطفال الأبرياء في غزة جهارا نهارا، دون أن يطرف للعالم جفن أو يهتز له ضمير!

ففي مفارقة تدمي القلب وتصدم الوجدان، يتهلل العالم “العلمي” وتهرع آلة الإعلام الجبارة لتزف إلينا “أقوى دليل” على حياة بدائية محتملة على كوكب K2-18b، القابع على مسافة تُقدر بـ 124 سنة ضوئية. أخبار كهذه تُسلط عليها الأضواء الكاشفة، ليس فقط لبريقها العلمي المزعوم، بل ربما ليُراد بها صرف الأنظار عن فظائع تحدث على مرمى حجر، وتُسوق من خلالها أوهام تُلهي عن واقع أليم.

وهكذا، تُبدد ثروات طائلة على تلسكوبات عملاقة لرصد ما قد يكون مجرد بخار ماء في كون مترام، في حين تُصم الاذان عن صرخات أطفال يتلوعون جوعا وعطشا، ويموتون تحت أنقاض منازلهم بفعل حصار ظالم وقصف وحشي.

أي منطق أعوج هذا الذي يتباهى بالتقدم العلمي ويغض الطرف، بل ويتعامى، عن أبسط حقوق الإنسان في الحياة والأمان؟

والأرقام، رغم فداحتها، لا تكاد تعبر عن حجم المأساة. فقد وثقت المنظمات الدولية الموثوقة استشهاد ما يزيد عن 51,000 فلسطيني، جلهم من النساء والأطفال الذين لا ذنب لهم، وجرح أكثر من 116,000 آخرين. إنها ليست مجرد أرقام صماء، بل خلف كل رقم منها قصة إنسان، حلم قُطع، وحياة أُنهيت بوحشية.

ولعل أبلغ تعبير عن هذا الواقع المرير هو صرخة ذلك الطفل الغزي الذي فقد ذراعيه وتساءل بحسرة تفتت الصخر: “كيف سأعيش هكذا؟”. سؤال موجع، لكن صداه تلاشى في فضاء عالم صاخب، منشغل أيما انشغال برصد “بكتيريا محتملة” في مجاهل الكون السحيق!

أما عن ذلك الصرح الموهوم المسمى “القانون الدولي”، فقد هوت أقنعته الزائفة وتكشفت عورته أمام الملأ. فقد استحالت مؤسسات دولية، أُنشئت لحفظ السلم والأمن، إلى مجرد ديكور باهت في مسرحية عبثية دامية، تجري فصولها المأساوية على أنقاض غزة، فوق منصة بنيت من أشلاء الضحايا ولونت بدمائهم.
ومن مظاهر هذا الانهيار، أن تصدر محكمة دولية مذكرة اعتقال بحق مسؤول ما، ثم نشهد بذهول كيف يجول هذا المطلوب للعدالة بين العواصم، يُستقبل بحفاوة أحيانا، في تحد سافر لقرارات تلك المحكمة التي يُفترض أنها تمثل إرادة المجتمع الدولي! فأي قانون هذا الذي لا يملك آلية لإنفاذ أحكامه على الأقوياء؟ وأي منطق يبيح لدول تدعي احترام القانون أن تفتح أبوابها لمن تلطخت أيديهم بجرائم حرب موثقة بالصوت والصورة؟

إنها الانتقائية الفاضحة هي التي تحكم تطبيق المبادئ التي تتغنى بها المحافل الدولية، حيث تُكيف هذه المبادئ وفقا لمصالح القوى المهيمنة. فأين هو مبدأ “مسؤولية الحماية” الذي استخدم ذريعة للتدخل في مناطق أخرى؟ لماذا يتبخر هذا المبدأ ويتلاشى حينما يتعلق الأمر بأرواح الفلسطينيين وحقوقهم؟

ومما يزيد الطين بلة ويعتصر القلب ألما، هو حالة العجز والتشرذم التي تسود العالمين العربي والإسلامي. دول تمتلك من المقدرات البشرية والمادية ما يؤهلها لإحداث فارق حقيقي، لكنها، في الأغلب الأعم، تكتفي ببيانات شجب واستنكار فاترة، لا تُسمن ولا تُغني من جوع. وشعوب تتعاطف وتتألم، تنزف قلوبها أمام هول المشاهد، لكن صوتها يظلّ لا يراوح الحناجر وإرادتها مقيدة.

وتتجلى هذه المفارقة الصارخة أكثر حين نعلم أن ميزانية وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا” السنوية تبلغ حوالي 25.4 مليار دولار، بينما تناشد وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) العالم وتكاد “تتسوّل” 2.8 مليار دولار لتقديم الحد الأدنى من مقومات الحياة لنحو ثلاثة ملايين فلسطيني يصارعون الموت جوعا ومرضا وقهرا كل يوم!
وها هي منظمة اليونيسف تُعلن، وكأنها تستحي من هول الرقم، عن استشهاد 322 طفلا خلال أيام قليلة فقط بعد انهيار هدنة هشة، لتُقدر أن “مائة طفل يُقتلون أو يُصابون بتشوهاتٍ يوميا” في المتوسط. في الوقت نفسه، تحتفي الأوساط العلمية باكتشاف مركبات الميثان في غلاف كوكب قصي، لا يُرى بالعين المجردة!
إن الأطفال، كما تؤكد تقارير أوكسفام وغيرها، “يتضورون جوعا، ويكافحون للحصول على وجبة هزيلة واحدة في اليوم”، وقد تحولت غزة، بشهادة الأمم المتحدة نفسها، إلى “مقبرة جماعية للأطفال”. المستشفيات دُمرت، والمساعدات تُمنع أو تُقيد بشدة، والمجاعة تنهش أجساد الصغار الغضة، والصواريخ لا تزال تلاحق حتى من نزحوا إلى خيام اتقاء للموت!

فيا لخيبة الأمل في ضمير إنساني يُفترض أنه أرقى ما في الوجود! جريمة إبادة جماعية موصوفة تُبث فصولها على الهواء مباشرة، عبر آلاف العدسات، ومع ذلك، يصمت العالم صمت القبور، وكأن ما يجري يحدث في كوكب آخر، أو كأن الضحايا ليسوا من بني البشر! لقد أصبحت المؤسسات الدولية، ويا للأسف، شاهد زور على فظائع تُرتكب في وضح النهار، بلا خجل أو رادع.

عجبا والله لأمم تتشدق بقيم الإنسانية والرحمة، ثم تغمضُ عينيها وتُصم آذانها عن معاناة شعب يُذبح على مرأى ومسمع منها! وعجبا لعالم يتسابق لاكتشاف أدنى أثر للحياة في المجرات السحيقة، بينما يتجاهل بدم بارد الحياة التي تُباد وتُسحق كلّ لحظة فوق تراب كوكبنا هذا!

لقد أضحت أرض فلسطين، وبالأخص غزة الصامدة، شاهدا تاريخيا على عصر انهارت فيه القيم النبيلة، وتهاوت فيه الأقنعة عن وجوه طالما ادعت التمسك بالمبادئ. وإن كان الصمت المريب هو سيد الموقف اليوم، فإن الأجيال القادمة لن تصمت، وستجعل من مأساة غزة درسا لا يُنسى في سجل النفاق الدولي وسقوط الضمير الإنساني.

فيا غزة، إن خذلتك دول العالم ومنظماته في هذا الزمن الأغبر، فكوني على يقين أن التاريخ لن يخذلك. سيُخلد في أنصع صفحاته كيف انشغل العالم بالتنقيب عن حياة محتملة في أقاصي الكون، بينما كانت الحياة على أرضك الطاهرة تُسحق وتُباد بوحشية لا مثيل لها.

ويا أيها العلماء والباحثون، إن كنتم حقا تبحثون عن قيمة “الحياة”، فلتوجهوا بوصلة اهتمامكم أولا لإنقاذ ما تبقى من حياة في غزة المنكوبة، قبل أن تُنفقوا المليارات تلو المليارات على تلسكوبات ترصد أبخرة وغازات في عوالم لن تطأها قدم إنسان أبدا.

أليست كرامة الإنسان وحقه في الحياة على كوكبنا هذا أولى بالرعاية والاهتمام من البحث عن بكتيريا افتراضية على كوكب يبعد عنا ملايين السنين؟

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
13°
19°
السبت
19°
أحد
19°
الإثنين
20°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة