عـن المقاصـديــة..
هبة نجاعي – هوية بريس
جاءني تلميذي النّجيب مستفسرا حائرا، متأدّبا كما عهدتُه في السؤال: أستاذة، قرأتُ مصادفةً بعض ما كتب أحد المعلّمين في حائطه “الفيسبوكي” عن الشريعة ومقاصدها، فاستحسنتُ كلامه أول الأمر إذ تحدث عن اليسر والرحمة التي جاء بها الدين الإسلامي، غير أني شعرتُ في بعض ما قال بالخلل، حين بدأ يحذف أحكاما شرعية معللا فعلَه بأنه مقصد شرعي؛ فكان مما قال: (الشريعة جاءت بالسماحة مع جميع الأديان والمعتقدات، والفكر الأصولي الجامد لا يرى هذا المقصد العظيم فيأخذ بظاهر النصوص دون تأويل، ويظن أنه على صواب بينما لا يراعي صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان.. نحن نراعي هذه الصلاحية لأن الفكر التنويري يعرف أن الله قال في القرآن: لا إكراه في الدين..).
فسأله أحدهم: لكن هناك حديثا يقول “من بدل دينه فاقتلوه”، فكيف نتعامل معه؟
أجابه ذلك المعلم: إن كان يعارض القرآن فسوف نقدم القرآن طبعا! ثم على افتراض صحته فإنه كان مقصدا أيام نزول الوحي وليس في زمننا، لأنهم كانوا يعتبرون المرتد قد خرج من دار الإيمان إلى دار الكفر وصار محاربا.
وأنا يا أستاذة -لا أخفيكِ- شعرت بحرَج مما قيل لعدم معرفتي بما أجيب به نفسي أولا! ناهيك عن إجابته هو رغم كلامه المستفز.. ألتمس جوابا يشفي ما أوبأه بشبهته.
قلت: حسنٌ فعلت إذ لم تجب قبل أن تعرف، وإليك شيئا مما تدرأ به ما أصابك وللتفصيل موضعه أدلّك عليه:
إعلم -حفظك الله ورعاك- أن التنويريين في اعتمادهم على المقاصد يسلكون طريقا مجردا عما أُنشئت لأجله، فالمقاصد منذ ظهورها عمليًا في جيل الصحابة إلى زمان نضجها على يد الشاطبيّ لم تكن منفكة عن النظر الفقهي، أي أن هناك فروعا فقهية توظف فيها المقاصد الشرعية حسب درجاتها وتقسيمها، أما أولئك فمنشأ الخلل عندهم يبدأ من إقصائهم الأصل الذي بُنيت معه المقاصد.
المقاصد الشرعية هي آلية نظر فقهي وليست منفصلة عنه، بل هي النظر الفقهي، فحين يقول لك أحد إن علينا النظر إلى النصوص بمعزل عن النظر الفقهي الذي يسمونه “الجامد المتحجر” فإنما يبنون نظرهم على سراب لا نظر علميّ؛ وهذا إن سألتَه ما المستند الذي بنيت عليه حكمك فأسقطتَ العمل بنص صحيح ثابت مجمع عليه مثل (من بدل دينه فاقتلوه) لما كان له جواب غير إحالتك إلى مقصد كلي عام هو سماحة الشريعة ونحوها..
والحال أن العمل بالمقاصد الكلية بناء على الهوى يؤدي إلى استشكالات قد تسقط كل ما نريد ونشتهي إقصاءه من النصوص الشرعية، إذ المستند عندهم هو العقل والذوق المهيمن..
بينما لو نظرت إلى العلاقة بين الأحكام الشرعية والمقاصد وتأثير الحِكَم على أحكام الشريعة ستجد تفصيلات تجاوزت ذلك النظر السطحي إلى أبعاد أكثر عمقا، فتجدهم يقسمون تلك العلاقة إلى: المعلّق بالحكمة، والمعلّق بتحقيق المناط، والمعلق بعلة مع خفاء الحكمة… الخ. وفي كل منها طريقة تعامل خاصة؛ فيصبح الإسقاط على النوازل واقعيا وموضوعيا.
أما إنكارُ ذلك الشخصِ حكمًا شرعيا بناء على دعواه تلك فمنشأ الخلل عنده أنه لم يعتبر المقاصد التي ادعى اعمالها أصلا. فكما أخبرتك بداية؛ تنقسم المقاصد إلى أقسام، أعلاها المقاصد الخمسة الضرورية: الدين، النفس، العقل، العرض، المال.. ثم تتلوها مقاصد حاجيّة وتحسينيّة…
فهذا الحديث مقصده القطعي الثابت بعد استقراء نصوص الشريعة هو حفظ الدين، فهل يقارنه هو مع مقصد السماحة الذي مهما بلغ ثبوته لا يرقى أن يكون من الضروريات! فما الذي نقدّم؟
ثم إن ربطه سريان الحكم بزمن النبي صلى الله عليه وسلم حصرا دون باقي الأزمنة يحتاج استدلالا على هذا التلازم، فصلاحية الشريعة لكل زمان لا تشترط تغيير الحُكم إلا بعلّة واستدلال صحيحين.
إذن نخلص أنه أولا لم يُراع مقصد الشريعة من الحد والذي هو حفظ الدين، ثم لم يراع منزلة المقاصد وميزانها، ثم لم يستدل على حصره الزمانيّ.
وغاية ما يريده هو التمييع للوصول إلى نتيجة تجعل النصوص الشرعية قابلة لقراءات متعددة، فيحصل بذلك إلغاء لأحكامها ومقاصدها الحقيقية، تحت غطاء يبدو نصوصيا لكنه في باطنه تحريفيّ.
وهذا جانب من الغلو في التعاطي مع النظر المقاصدي، وحسبُك أن تعرف اقتصاره على إطلاق العمل بمقاصد كلّية مستندين على تبعيض الوحي والكسل عن خوض كل ما له علاقة بالنظر الفقهي.. فلا تجد لكلامهم تحريرًا ولا تدقيقا علميا، وتنظر فإذا أحدهم يكون مقاصديا في قضية يوجهه فيها هواه إلى ما أراد، فإن جئناه بحكم شرعي تم بناؤه على مقصد سد الذرائع ينقلب بقدرة قادر إلى أصولي نصوصيّ ويقول: لماذا لا تعملون بالنص!
إنك لو تأملت الطرح الحداثي للمقاصد فستجد خليطا هجينا لا هو الإسلام ولا هوَ الحَداثة، وذلك عائد إلى طبيعة البيئة الجماهيرية التي يوجّهون لها الخطاب، فمرجعيتها إسلامية لكنها ليست بالوعي الكافي لتميّز عوار تلك الدعوات إلا بمزيد من التعلم والقراءة في المدوّنة الفقهية. وحتى لا نذهب بعيدًا بتقريرنا فأمامنا قول مهم أريدك أن تركز فيه ليشهد شاهد من أهلها، هو ناصر حامد أبو زيد حين تحدث عن التيارات العلمانية التي تواجه الحاضر “بآلاتٍ ذات طابع عصري، لكنها أحسّت بضرورة طرح هذه الآليات طرحًا يسوغ قبولها من الجماهير، فوجدت في بعض اتجاهات التراث سبيلا لهذه التوجهات”.
إذن؛ بالعودة إلى شبهته فقد بيّنا قصورها من جهة النظرة الكلّية التي لا يتم استحضارها في عمليّة التبعيض (أخذ بعض الوحي وترك بعضه) إذ تُتجاهل الأفعال ويُقتصَر النظر على ردود الأفعال.. فيُنظر إلى حد الزنا مثلا وتجدهم يستشنعون فرض الشريعة له -بغضّ النظر طبعا عن ضوابط تنفيذه التي يتم تجاهلها عمدا- ولا يلتفتون إلى مساوئ الفعل نفسه سواء أثره على الفرد أو على المجتمع ككل، وهذه هي الأولوية التي تراعيها الشريعة ويهملها هؤلاء، فكذلك الحال مع الردة والسرقة وسائر الأحكام.
فها أنت ترى حالهم، وهذا جزء من جوابك بسطتُه ما أمكن لحداثة سنّك، غير أنني أعرفك الفطِن النّهم، فأرشدُك للاستزادة إلى محاضرة المقاصدية للدكتور فهد العجلان، تجد فيه إحالات لمراجع تستزيد منها فلا يبقى لك بعد هذا ذرّة حرج، بل اعتزاز وثقة في هذا الدين الذي حفظه الله بالعلم لا الأهواء، نفع الله بك وثبتك وزادك علما وفهما.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.