عقلانية بلا عقل
هوية بريس – محمد أحميد
أكثر طائفة من أهل الزمان ممن تصدوا للفكر والنظر من التبجح بالعقل وادِّعاء العقلانية، والظهور بأوصاف أصحاب العقول المستنيرة، والأفكار الحرة، وهو مدح يبطن ذما واستهجانا لغيرهم، ووصفهم بالتخلف والرجعية لكن يبقى السؤال ما هو العقل؟ وما حدوده وضابطه؟
هذا كله لا يمكن أن تسمع جوابا عليه لأن عقله استعاره لغيره أو سترته أهوائه وشهواته؛ فلهذا يقفز إلى الدِّعاء الاستحالة العقلية، وأن اجراء النص الشرعي على مقتضاه مجاف للعقل، فرجع الكلام إلى أوله، وخاض في سفسطة من الكلام لا نهاية لها، وأغرقك بمقدمات من الكلام كلها مغالطات، ومصادرة على المطلوب، وشحن للألفاظ بمدلولات تنبو عنها في سياقها ومقامها، والحامل في واقع الأمر هو ما استقر في القلوب من أفكار الأسياد والشعور بالاستضعاف والانهزام أمامها.
هذا هو الموجه لأنظارهم وأفهامهم، فشحرور مثلا وهو سيدهم الذي علمهم العربدة في النصوص و تحريفها يقول: إنه توجه إلى دراسة القرآن كرد فعل عن نكسة فلسطين فالنفسية المنهزمة، و الاغتراف من مبادئ العلمانية ، وتبجيل مخرجات الحضارة الغربية ولَّد عند هؤلاء اضطرابا في النظر، واعوجاجا في الفهم والسلوك،فكل من أراد أن يلوي أعناق النصوص لإرضاء أسياده وأولياء نعمته، جعل العقل والتنوير مطيته التي تبلغه مراده، وزعم أن الحمل على مقتضى الشرع ينبو عنها واقع الناس، ويتعارض معه، كأن الوحي جاء ليساير الأوضاع لا ليغيرها، وأن يوافق الأهواء لا ليحرر الإنسان منها.
إن نصوص الوحي متجذرة في الحقيقةالكونية المطلقة، ولا تتعارض معها أبدا، والأحكام الشرعية منوطة بعلل ومتضمنة لحكم حجبت عقول هؤلاء عنها لانهزامهم أمام مخرجات الحضارة الغربية واللبرالية المتوحشة، وغفلوا أو تغافلوا أن منزل الكتاب ومرسل الرسل صلوات الله عليهم أجمعين هو الخالق والعالم بما يصلح العباد في عاجلهم وآجلهم ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير قال تعالى:[قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيما] (الفرقان6) فالإيمان بهذا الأصل والإقرار به يقتضي التسليم للنص واخضاع الرقاب له، وابقاء وظيفة العقل في الفهم عن الله ورسوله والوقوف عند البيان النبوي والخضوع له؛ إذ لا يتعبد بالمجمل مع طرح البيان وكلاهما من مشكاة واحدة قال تعالى:وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىإِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى(النجم3) وقال تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا(الحشر7)
فهم النص الشرعي يكون في سياقها الكلي ولا تفرد من كلياتها وتقطع عن سياقها حتى تبقى معلقة وحدها؛ فتصبح في مهاب رياح التأويل والتلاعب بها بحشر مسالك لغوية بعيدة يمجها السياق، وينبو عنها المقام، واستدعاء معان غريبة لا تشهد لها الحقائق اللغوية ولا الشرعية كحمل شحرور لفظة النساء في قوله تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ) على أنه جمع نسيء الذي هو التأخير حتى يستقيم له أن يقول بأن القرآن قد أخبر عن هذه الموضة المتأخرة، وأنه حببها للناس فهذا التحريف المسمى تفسيرا ينبئ عن ضحالة علمية ومعرفية ينطلق منها هؤلاء المنهزمون أمام شهواتهم وأسيادهم،فهذا النظر السقيم الذي لا مستند له شرعي ولا لغوي يوقفك على أن هؤلاء جعلوا القرآن تابعا لما تواضعت عليها الأنظمة العلمانية فهي المستند في التحريف والتأويل، وليس ما زعموا من العقل فهم أبعد الناس عن الالتزامبمقتضياته.
أما النقد الذي يوجهه هؤلاء لأحكام الشريعة فالسامع له والناظر يعلم أن الانهزام والأهواء وغلبة الشهوات والاستجابةلفلسفة ما بعد الحدثة التي انتشرت، ودخلت في جميع الميادين، واستصحبت في جميع المعارف الدينية وغيرها حتى لا تبقى حقيقة ولا تطرد معرفة فلنجوا إلى العبثية والعدمية في كل شيء وهذه هي الغاية التي يريدها هؤلاء إحياء البير كامو وعبثيته بين المسلمين ووجودية سارتر ومحاولة ادخالها إلى المناهج التعلمية في الدراسات الإسلامية وغيرها، فالقانون والأخلاق ذاتية وفردانية لا تخضع لأي سلطة ولا مرجعية أخلاقية ، وهي الغاية من رفع قداسة القرآن صريحا أو ضمنا عند هؤلاء فينتقد بعضهم أفكار فيلسوف عاش حياته مجنونا أو سكرا معربدا باحترام وفصل بينها وبين حياته الشخصية فأفكار فلاسفة الغرب ومخرجات أنظارهم في المقام الأسمى، ولا تتأثر بواقع أصحابها ، ولا معتقداتهم ولا ينظر إلى واقعها وأحوال أصحابها.
أما الوحي والتراث الاسلامي فيسلطون عليه حسام التاريخانية كما يرى العرويأو سبينزية حسن حنفي وسلطة ميشال فوكو ولا بد من دراستها في سياق زمانها وأحوال من نزلت عليهم، ولا بد من السيرورة والصيرورة على زعم شحرور .
فلا قواعد علمية يستندون إليها، ولا ضوابط شرعية يعتدون بها، والمعيار ابتداء وانتهاء موافقة أفكار الأسياد ، تقودهم بأزمتها إلى أودية الهلاك تحت مسمى العقل والعقلانية والتنوير، أسماء توحي بمدلولات قوية، ورشيقة تهز الأسماع وتشد إليها الأنظار، وهكذا دأب الباطل يزخرف نفسه، وينتفش وينتفخلكن لا قرار له، ولا أصل يتمسك به، فالزهوق والانهزام وصف ذاتي فيه لا يفارقه مهما عربد واستعلى في الأرض.
إن العقل واستعمال النظر لا يخلو باب من أبواب الفقه والتفسير وغيرهما من العلوم الشرعية إلا وتجده حاضرا فيه يستنبط ويقعد، ويستقرأ ويقيس الأشبه والأمثل، ويدقق في مقتضيات الألفاظ ويرتب المقدمات،وينظر في اللوازم المعتبرة وغير المعتبرة، وهكذا دواليك، فالعقل رقيب عتيد في مساقات النظر والاستنباط، وقد تناوله الأصوليون وأفرغوا النظر في بيانه، لكن هؤلاء لا يريدون عقلا شرعيا منضبطا؛ لأنه يلزمهم بنتائج تتعارض مع رغباتهم وشهواتهم ولا تتوافق مع اراء الأسياد، وإنما يريدون عقل ميشال فوكو الذي صاغته مثليته وشذوذه بإقراره واعترافهفالعقل عند القوم لضرب العقل ونتائجه، وليس للانضباط به، فهي عقلانية بلا عقل، وتنوير بلا نور، ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور.