علامات الفكر المتهافت.. العلامة الخامسة: نبذ مراعاة ما لا يتوصل إلى الحكم الصحيح إلَّا به..
هوية بريس – الشيخ مولود السريري
العلامة الخامسة: نبذ مراعاة ما لا يتوصل إلى الحكم الصحيح إلَّا به؛ وهو مراعاة الترتيب الطبيعي في موضوع النَّظرِ.
من المُقرَّرِ المعلوم أنَّه يُقدَّمُ في الوضع ما قُدِّمَ بالطَّبع، وذلك لتحصيل السلامة والسلاسة في مجاري النَّظر؛ وحصول تأسس المتأخِّر على المتقدّم الثَّابتِ في الواقع، وهذا أمرٌ لا خلاف فيه بين عقلاء الأرض؛ إذ مخالفته في موضوع ما موصلة إلى الاضطراب في العمل، فكريًّا كان أو غيره، وفَقْدِ الاهتداء إلى المطلوب فيه.
ففي النَّظرِ -مثلا- يُقدَّمُ الأسسُ والأصولُ على الفروعِ؛ إذ هي التي تُعلم بها حقيقة تلك الفروع وقيمتها المعرفية، وبها يُتخلَّصُ من تغليب الاحتمالاتِ التي تلفظها حقيقة المنظور فيه.
وبذلك فإنَّه من التَّلبيس على النَّاسِ والتَّضليل لهم الحديثُ عن تقويمِ الأشياء والحكم عليها دون النَّظرِ بإمعانٍ كافٍ في أسسها وما به تُعرف حقائقها من القرائن والأدلَّةِ المختلفة. فمعرفة الأسس العقديَّةِ والأحوال النَّفسيَّةِ لشخصٍ ما – مثلاً – على ما هي عليه حقيقة؛ هي التي تُمكِّنُ من تفسير تصرُّفاتِه المتفرِّعةِ عن ذلك، والجهلُ بهذه الأسس والأحوال يذهب بالذِّهْنِ في الاحتمالات المختلفة والظُّنونِ المتباينة كلَّ مذهب، وربَّما ترجَّح في النَّفس من تلك الاحتمالات ما ليس له أساسٌ إلَّا الظَّنُّ الفاسد.
وهذا الأمر يجري كذلك في أصول المعتقدات وأسسها، فالواجب هو البحث في شأنها على ما تقتضيه أحوالُ موضوعاتِها، ويكون البدء في ذلك بما به يُتصوَّرُ على التَّمام، ثمَّ بما يليه من الأحكام المطلوبة، وهي لَا يمكن إدراكها على الوجه الصَّحيحِ إلَّا بالاعتماد على ذلك.
وبذلك فإنَّه من العبثِ والذَّهابِ في العمايةِ الحديثُ عن تقويم أمور دينيَّةٍ والحكمُ عليها من غير استحضارِ ما عليه يُقامُ هذا الحكمُ على الوجه الصَّحيحِ وينبني عليه؛ وهو العلم بحقيقة مُدرك هذه الأمور، وحقيقة من أتى بها، وعلى ماذا بُنيتْ.
لقد وضعت أسفارٌ كثيرة من علماء المسلمين في موضوع “دلائل النُّبوَّة” ومتضمَّنها كما يؤخذُ من العنوان الأدلَّةُ العقليَّةُ الواقعيَّةُ الدَّالَّةُ على ثبوت نبوَّةِ الرَّسولِ -محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم- على وجه مقطوع به.
ومثل ذلك صير إليه في شأن كون القرآن المعجزة الخالدة، فقد أقيمت الحُجَّةُ والبرهان عليه بوجه كافٍ لمن كان له قلبٌ أو ألقى السَّمعَ وهو شهيدٌ.
وهذا هو الذي يجب أن يكون من البدء في الدِّراسةِ والبحث للأمور الدينية الإسلامية، لأنَّه على مفاد ذلك ومقتضاه يجري تقويمها، وإدراك حقائقها صحيحة.
والمتشوف إليه بهذه الدِّراسةِ هو العلمُ بأنَّ هذه الأمور – الحقائق – الدِّينيَّة مأخذها الوحي، أو بأنَّها من وضع بشري.
وإذا أدرك هذا المطلوب مُبتنى الأحكام وأساسها في هذا الموضوع؛ فلا يحقُّ أنْ يبنى حكمٌ فيه إلَّا بمقتضى ذلك، وموجبه. وإذا تقرَّر هذا علمت أنَّ الذين يبنون الأحكام في شأن هذه الأمور، وهم عن العلم بحقيقة هذا الأمر غافلون إنَّما يبنون على الرَّمل، أو على شفا جرف هارٍ.
والخطاب العلماني أو الإلحادي في الأمور الدِّينيَّةِ حقَّت عليه هذه الصِّفةُ وقرَّتْ، فما ترى أصحابَه بدؤوا نظرَهم في الأمور الدِّينيَّة من حيث يجبُ بدؤه منه، فأنت لا تراهم باحثين على الوجه الصحيح في شأن النُّبوَّةِ، والوحيِ؛ أولاً قبل الخوض في الأمور الدِّينيَّة الفرعيَّة التي مدارُ الحكمِ فيها على ما تحقَّق في هذا الشَّأنِ من حقيقة.
فكلامُهم في هذا الموضوع خلوٌ من أيِّ دراسة تفصيليَّةٍ موضوعيَّةٍ يُبسطُ فيها المقالُ عن أمر الأدلَّةِ والبراهينِ التي وردتْ في إثباتِ النُّبوَّةِ والرِّسالةِ لمحمَّدٍ -صلَّى الله عليه وسلَّم- وفي إثبات كون القرآن وحيًا، وإنَّما يعرضون عن هذا الأمر إعراضًا وقحًا.
وربَّما اعتصموا بالمراوغة لهذه الأدلَّة والتَّوسل إلى التخلُّصِ بمقتضياتها بالانتقاء النَّفسي المزاجي المضلّ والصَّارفِ عن إدراك الحقيقة في هذا الشَّأْنِ وفي غيرِه.
وبدَهيٌّ أنَّ جميع ما يورده العلمانيون الملحدون من مقالاتهم الدَّالةِ على إنكارهم لصحَّة الدِّينِ ومتضمَّناته؛ قد ينسفه ثبوتُ دليلٍ واحدٍ يدلُّ على نبوَّةِ محمَّدٍ – صلَّى الله عليه وسلَّم – أو على أنَّ القرآنَ مُتلقًّى من لدن حكيم عليم.
فدليلٌ واحدٌ يدلُّ على ما ذكر يدمغ كلَّ هذه الخواطر التي لا تعدو أن تكون احتمالاتٌ مجوزة بالاستحسان النَّفْسِي.
وأنت أيُّها المسلمُ على علم بأنَّه قد ورد في القرآنِ ما يدلُّ على هذا.
ولا أقصد بهذا ما يراه المؤمنون من دلالة جميع آياته على ذلك بلا محاشاة؛ فإنَّ ذلك إنَّما يحصل في مرتبة الاتصاف بالإيمان الحقِّ. وإنَّما القصد بذلك ما يراه كلُّ ذي عقل مُنصفٍ، والعلمُ به لا يتأتَّى لأحد إدراكُه من النَّاسِ مطلقًا قبل العلم به من القرآن، -كالإخبار بوقوع أمورٍ مغيبة، ومنها غلبة الروم على الفرس- أو في زمان النُّبوَّةِ كأطوار الخلق في الأرحام، وغير ذلك؛ ممَّا يكثر بتتبُّعه في موارده، وهو يساق تحت مسمَّى الإعجاز الطِّبي في القرآن، وما ماثل ذلك من كلِّ أمرٍ مُعجزٍ جاء في هذا الكتاب، وأهمُّه – عندي – التأثيرُ المُصاحبُ لآياته، والمقارنة التي قرَّرها بين الأسباب والمُسبَّباتِ الغيبيَّة.
وإذا ثبتَ هذا -وهو أنَّ المنهج العلماني الإلحادي في دراسة الأمور الدِّينيَّةِ لم يُبْنَ على مراعاةِ المذكورِ- تقرَّرَ بناءً على ذلك أنَّه منهجٌ مختلٌّ مبتورٌ انحرف به عن جادَّة الصَّوابِ. فلا ينبغي إضاعةُ الوقتِ والجهدِ الذِّهنِي في الرَّدِّ على ثمراته لأنَّ الفسادَ الأصليَّ هو الذي يجبُ إصلاحُه، وأمَّا ما تفرَّع عنه فإنَّه ليس إلَّا ظلاله، والظِّلُّ لَا يستقيم إلَّا إذا استقامَ عودُه. فتأمَّل بإنصافٍ.