على مشارف الحياة المغربية (1950) (ج2)
هوية بريس – ذ.إدريس كرم
توضيح:
نقدم فيما يلي الفصل السابع من كتاب “على مشارف الحياة المغربية” للويس برينو:
هم ونحن
“جرح الحسام يندمل وجرح اللسان يبقى” (مثل عربي).
بعض السمات الأكثر تميزا في الحيات المغربية ربما إحداهما التي تجعلها ساحرة هي التعايش بين شعبين بشكل حتمي عنيد على نفس التراب ينتهي بمزج وثيق للمصائر، بعد قرون من العلاقات المتقطعة بمدد طويلة من التجاهل، أو حتى العداء.
المغاربة المسلمون يتحدثون مصطلحات سامية مختلفة ظاهريا عن الفرنسيين ومعظمهم من المسيحيين، معجبون بثقافتهم ويتحدثون لغة آرية.
وعلى الرغم من وضعية هذه السمات فالفرنسيون والمغاربة شركاء من الآن فصاعدا في رؤية تجديد البلاد واستغلال الثروة وتنميتها المادية والمعنوية وتعزيزها في جميع المجالات.
التعاون الفرنسي المغربي
لكن التعاون من هذا النوع أبرم في البداية بين الحكومتين فقط، قبل أن يتم تدريجيا مع الشعب، فرض بالسلاح في بعض الحالات بالقبائل الغبية الجاهلة أو الفوضوية غير المحكومة التي لا يمكن لها أن تعيش وتكون صالحة إلا إذا الأفراد أو الجماعات أحسوا بالأجنبي يسير جنبا لجنب معهم.
وهو دليل في الواقع بالنسبة لذوي النيات الحسنة على أن الفرنسيين لم يأتوا للمغرب فقط من أجل (القيام بأعمال) لكن أيضا لإخراج البلاد من الفوضى القاتلة ومساعدة الأهالي.
المغاربة بالموازاة لم يطلبوا منا نحن فقط تدبير التنمية الاقتصادية لبلادهم، لكن أيضا لبث الأمن وإقامة العدل ونشر التعليم، الخ..
وعلى الإجمال فمن المناسب من الآن فصاعدا وبالتدريج على المغاربة والفرنسيين أن يعرفوا ويشعروا ويقدروا بأن تعاونهم في الأخير سيكون فعالا ومفيدا للبعض كما هو مفيد للآخرين.
بعد أكثر من ثلاثين عاما من الحماية أين نحن الآن؟
ما هو التقدم الذي حققناه في هذا الاتجاه؟
يجب الاعتراف بأنه لا المغاربة ولا الفرنسيون يستحقون الثناء، لقد اعتادوا العيش جنبا لجنب، ولم يستغربوا أبدا للألبسة، للغات، للطوائف المختلفة من عرق لآخر، لكنهم في العمق لم يعرفوا تحاربا، فكل جماعة تجهل بصفة عامة، ما تفكر به الأخرى تجاهها.
تباين العادات
أسباب هذا الموقف -الأكثر أو الأقل وضوحا- هي أوامر متنوعة للغاية، تنظيم المدن الأوربية المنفصلة بشكل ممنهج عن المدن الأهلية، تعطي كل عرق سكنا خاصا يناسبه تماما، ونتيجة لذلك يمكن للأوربيين العيش دون حاجة مباشرة للأهالي، والعكس صحيح.
لا مجاورة بين الفرنسيين والمغاربة مفروضة بواسطة المنازل المحدثة، تبعا لذلك ليس هناك علاقة يومية، ولا فرصة بينهم لتقديم بعض الخدمات البسيطة التي يقتضيها الجوار، أو الوقوع في نوع من الجدال يقتضيه الاحتكاك لسبب أو لآخر.
ما يرغبون فيه أكثر هو الاختلاف وعدم الاكتراث بالأهالي، مما يتوافق مع كون المدن لم تخفض من إنشاءات نمط هجين يترك الأهالي في سلام بعدم إرباك عاداتهم في الحياة المدنية.
تبقى الحقيقة أن الفصل بين المسلمين والمسيحيين يشكل عقبة مادية أمام العلاقات المستديمة بين المغاربة والفرنسيين.
على الرغم من كون السيارة ليست وسيلة للتقارب بل على العكس تماما فهي تسمح بتجنب استخدام الأهالي على طول الطريق وتفرض عليك ألا ترى إلا هبات الريح.
بفضلها نذهب حيث شئنا لكن لا نتوقف في أي كان: هذه الأداة التي كان الهدف منها من حيث المبدإ تقليل طول الطريق بالسماح لنا لفترة أطول الاتصال بالناس في المدن والبلاد أصبحت طاغيتنا وليست خادمتنا تأخذنا بعيدا عندما يكون مناسبا لنا البقاء.
أشكال التقدم التي حملها الفرنسيون للمغرب ليست كلها مواتية لإقامة العلاقات الضرورية واليومية بين العوربيين والأهالي.
من ناحية أخرى غالبا ما تتعارض عادات المغاربة مع عادات الفرنسيين وتتناقض تناقضا عجيبا كما لو أنهما قد تم تأسيسهما بنية خبيثة، لمنع أي اتصال بين فئاتهم الاجتماعية.
المسلم على سبيل المثال يوافق على أكل طعام اليهودي، لكنه يمتنع عن أكل جزء من طعام المسيحي، لأن هذا الأخير لا يأخذ في الحسبان أن الأهلي لا يجرؤ على تناول طعام المسيحي لوجود بعض الممنوعات الغذائية فيه، نتيجة لذلك يحدث لنا مشاركتهم الدعوة لمائدتهم، ولكن يكاد يكون من المستحيل إرضاؤهم من خلال دعوتهم لمائدتنا.
في المغرب ما يزال المورو في الغالب يرفضون الذهاب للمقاهي (على خلاف الجزائريين والتونسيين) حتى لتناول المشروبات التي يسمح بها الدين كالشاي مثلا.
عندما ندرك المكانة التي تحتلها القهوة في الحياة الاجتماعية لشعوب البحر الأبيض المتوسط فإننا نقيس العقبة التي يخلفها موقف الأهالي تجاهها من وجهة نظر العلاقات اليومية بينهم وبيننا.
إذا كان عند المغاربة كالجزائريين مقاه مغربية لائقة سنذهب لخيارنا الذي هنا حيث نلتقي دون هدف غير التحدث لآخرين، لكن المغربي ذي الحيثية الاجتماعية الجيدة يرفض الجلوس في المقهى المغربية.
الأماكن التي من هذا النوع الموجودة في المدن الشريفة لا يرتادها إلا سفلة القوم: الحمالون، هواة تدخين الكيف، لاعبو الورق (الكارطة) يسحيل رؤية قائد أو عدل، أحد الأعيان، بل حتي صانع يدوي، أو عامل يحترم نفسه.
ما تزال الحياة الأسرية لمحميينا تشكل عقبة أمام العلاقات بيننا وبينهم، حجب النساء يجعل من الصعب دخول بيت المسلم حتى لو كان صديقا لنا ويفرض مجموعة من قواعد الجلوس الجيد الغريبة بما يكفي عن مفاهيمنا الأوربية لدرجة قد تشكل في الواقع شبه منع لتحقيق ذلك الدخول.
بغض النظر عن الجانب الذي نحن فيه يمكن أن نرى اختلافات كبيرة في أساليب الحياة التي تفصل بين الفرنسيين والمغاربة إنهم يطالبون من جهتهم الذين هم في الجانب الآخر بذل الجهود للاقتراب من التكيف الجدير بالتقدير.
لحسن الحظ الأديان ليست سببا للنفور والكراهية، المسلم المغربي إذا كان كارها فإنه ليس على العموم متعصبا أكثر منه شرعيا متمسكا بمعتقداته.
الفرنسي من جهة أخرى يحترم المعتقدات الدينية التي لا تخصه، على هذا الأساس إذن أي احتكاك لا يولد استفزازا متعمدا ولا يبارك بحجة اختلاف الديانة يؤثر في علاج التكافل الفرنكو مغربي.
تبقى اللغة أي التعابير المنطوقة من قبل الأوربيين والمغاربة مختلفة بشكل جذري إحداها عن الأخرى خلافا للتقارير المكتوبة المبينة والملائمة التي لا يمكن لها أن تقوم مقام التحدث بين الأفراد في ظروف التعلم والتدريب للهجة أو لغة أجنبية عند أكبر تجمع ممكن لأفراد أو مجموعات.
يمكن القول بأن التعايش بين الفرنسيين والمغاربة غير ممكن ومحتمل إذا ما تمكنوا من التفاهم المباشر وليس فقط بواسطة التراجمة.
الرومانيون حلوا هذه المسألة بشكل بسيط وجذري: تمثل ذلك في تجاهل البربر وإلزامهم بتعلم اللاتينية، الإنجليز تصرفوا بنفس الطريقة في الاحتفاظ بالتكلم بالويلزية، والفرنسيون أيضا فيما يتعلق بالبروتون أو الباسك.
الظروف هنا ليست هي نفسها التي تم فيها ذلك الخيار، فقد تغير الزمن من غير أن ينشغل بالنسق السياسي ولا التاريخي.
الفرنسيون والمغاربة شرعوا بتعلم لغة شركائهم بنية حسنة طبعا، المستعمرون والتجار والضباط والموظفون المدنيون الذين طلب منهم الاتصال بالمغاربة تعلموا ما يكفي من اللغة العربية أو البربرية حتى يتمكنوا من التحدث مباشرة مع جيرانهم وعملائهم ومواطنيهم.
ما يزال تدريس العربية يتم في المدارس الثانوية والكليات وكذلك في معهد الدراسات العليا المغربية، بالمقابل جاء المغاربة بعشرات الآلاف للمدارس، تابع الكبار دروسا وكثير منهم تتبع دروسا عملية في الفرنسية من خلال الشارع، وبالتالي فإن ازدواجية اللغة أداة جيدة للعلاقات الفرنس-مغربية ستنتشر شيئا فشيئا.
ومع ذلك فإن العدد الكبير من الناس الذين لا يعرفون سوى لغة الأم فقط ماعدا الفرنسيين الذين ليسوا بحاجة ملحة لاستعمال العربية يسمحون للمغاربة ببذل مجهودات في ضوء الاستحواذ على الفرنسية، من أجل تجاهل دراسة اللهجات المحلية.
إذا ظهرت الرغبة في التفاهم المتبادل بين المغاربة ووجدت نفس الرغبة عند الفرنسيين، رغبة ولدت علاوة على ضرورة التفاهم من أجل القدرة على العيش المشترك ما تزال هناك عقبات خطيرة تقف في طريق العلاقات وأيضا الثقة وعدد مما نريد.
تباين العقليات
بالإضافة لهذه العوائق التي تفرضها العادات واللغة، هناك حواجز أكثر جدية تنشأ بسبب العقلية الخاصة للمجموعتين، كل منهما يحكم ويقدر الآخر وفقا لمفاهيمه الخاصة، ويتصرف وفقا لمعاييره، ويختبر مشاعر خاصة.
من هنا نشأ ارتباك نفسي خصب في بعض الأحداث الكوميدية، ولكنها مؤسفة في أغلب الأحيان، عندما يتعلق بالانسجام الواجب سيادته بين الأشخاص المدعوين للعيش على أرض مشتركة.
لا يبدو مفيدا تناوب بعض المواقف، بعض الحقائق، بعض الآراء، التي تبين لنا في أية نقطة يكون استنتاج المغاربة والفرنسيون خطئا عندما يتعلق الأمر بشركائهم.
الإفراط في التعميم هو سبب الخطأ الأكثر تكرارا، نحن لا نريد أن نرى في كل أفراد الأهالي سوى نسخا تامة المطابقة للأهالي الذين صاغتهم مخيلتنا.
يجب أن يكونوا جاهلين بالحضارة واللغة الفرنسية، تطبع سلوكهم الشهامة والعزة، مضيافون، يغارون على نسائهم، متمسكون بإسلامهم… أو جاهلون، متعصبون، متآمرون، مخادعون، أو كسالى، قذرين، لصوصا.
كم عدد الأحكام الشمولية الجامعة التي يتم التعبير عنها يوميا من خلال الأشخاص الذين هم في ظروف أخرى يظهرون الاعتدال والتثبت من الأحكام الجديرة بالثناء.
إذا توصنا لتبيان أن المغربي لا يتوافق مع النموذج التخطيطي الذي لنا على عرقه فإننا نخلق لأنفسنا نموذجا تخطيطيا جديدا، ولكنه تماما زائف مثل الأول لأنه عالمي ونستمر في في خطئنا التفكيري، فنرى فيلسوفا سعيدا يصير مسعورا من العرب، لماذا لا يرى في المغاربة رجالا مثلنا نحن؟
شخصيات وأعراف متنوعة تنتمي لطبقات اجتماعية مختلفة ذات أصول عرقية متنوعة؟ ستكون أكثر ذكاء وستمنعنا من تبني مواقف سخيفة مؤلمة من جهة أخرى.
يتبع..