على هامش إساءة الغرب لنبينا عليه الصلاة والسلام: لا تزال بطنه حبلى ببعض الخدج منا
هوية بريس – محمد بوقنطار
من باب قول القائل: تعلمت الشر لا للشر ولكن لتوقيه…
كنت بين الفينة والأخرى أزور -زيارة غير مرحب بها ولا بصاحبها “أنا”- صفحة أحدالعلمانيين المترفين معرفيا، والسذج فكريا، فوجدته مرة كما ذكر معلقا على مائدة جمعته بذويه على طعام قد أعد بمناسبة احتفال الأسرة بذكرى المولد النبوي، وليس المراد تحرير مسألة المولد وبسط الكلام فيها ترجيحا لجواز الاحتفال من عدمه، وإنما المراد الوقوف هنيهة من الوقت على تعمده إظهار البهجة والسرور بحدث مولد سيد الخلق، بل وتمننه في نفاق فكري يحيل على فرط اهتمامه بالظهور في ثوب المؤمن المحب المتبع، سيما وأن الصورة هي رسالة بصرية ذات أبعاد وراءها ما وراء الأكمة، كمثالأن المسألة معه ومع فصيله ليست في صورة الإسلام كطقس بارد لا روح فيه ولا في نبيّه كرسول صالح غير مصلح، وإنما كانت المشكلة وماتزال وستبقى مع سخونة الطقس وحرارة مشاعر الإسلاميين من ذوي السلوكات الطائشة والفهم الشاذ لأحكام الإسلام السمح الوسطي المعتدل تحت طائلة المقاييس والموازين اللبرالية العلمانية المقرفة.
نعم لقد كنت أتسلل لواذا لأدخل إلى الصفحات الفيسبوكية لبعض من القلة المستغربة، حيث محاضن الاستشهار لأفكارهم، فأسمع من سطور منشوراتهم الصراخ، وأتذوق طعم الأنين ولحن الآهات المتواصلة الأنفاس، أنين وآهات يحكيان قصة ألم داخلي عضال، وحزن ونياحةقد فاق فيها هؤلاء أولئك الفرنسيين أنفسهم بل دفاع رئيسهم دفاعا عن بغيهم، بلهتجاوز أصحاب المحلات التجارية الكبرى ذات الهوية والرأسمال الغربي الكبيرالمستوطن لأسواق بلداننا، كل هذه الكلوم والاحتجاجات جراء إقدام الجيب المسلم في حرية عن الكف والإحجام عن بسط اليد في اقتناء معروضات فرنسا، نصرة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أضعف الإيمان، على أن يقوم العلماء والدعاة بواجبهم من النهي عن المنكر وتكريس وضع المقاطعة بجارحة اللسان وحشد الأدلة النقلية والعقلية في غير تورية ولا مأنوف سكوت فإن في ذلك ترشيدا لإنكار المنكر وضبطا لآليته المتحركة حتى لا تحيد عن مسوغاتها العادلة، بينما يبقى من واجب أو حتى جائز الحكومات والحكام الاستئثار بفرضية رد المنكر باليد وفق ما يترجح عندها وعندهم من ترجيحات تحفظ ماء الوجه، وتحمي حياض الدين من عبث العابثين، وذلك طبعا حسب كل من موقعه، وبالنظر إلى ما ارتبط بالجميع من واجب عيني أو كفائي، عسى الله أن يكف بأس الذين ظلموا ويجعل كيد الكائدين في نحورهم.
تأملت هذه الظاهرة، أعني ظاهرة عويل وبكاء هؤلاء معنا، وذهابهم في مقدمة حشود تأبين مقدساتنا وإصرارهم على مشاركتنا اقتسام التركة تحت طائلة الحق الشرعي، قبل الحق المدني الذي يوثرون تحكيمه في الأعناق والأرزاق، وفي الآن نفسه حقيقة ركوبهم قاطرة الآخر، بل انغماسهم حد التعبد والتقرب والتزلف في مشاريع الاستغراب الصقيعي الوافد من هنالك، وواقع استعباد نواصيهم الكاذبة الخاطئة، وتمعيرها في رغام قبلة ومهوى ومحج أفئدتهم قبل أجسادهمونعني به مدنية الرجل الأبيض، فوجدتها لا تخرج ولا تعدو أن تكون سلوكيات منافقة اعتاد العزف على وترها الكثير من المعتاشينوالمناكفين الذين تحرك المصالح الشخصية، وترج ملعقة الجهل المركب الشديد البأس أحجامهم المعرفية المتصاغرة في قِدر وحوجلة الإعلام العلماني المتطرف، يضاف له هذه المساحات الشاسعة من الإعلام الموازي ذي الفضاء الأزرق، فكم من لقيط فكريا صار له التصدر والتبختر في حُلة وزينة هذه الأدوات التواصلية البئيسة المتاحة بأدنى الأسعار والطرائدالتي تنالها الأيد بأقرب الأسفار، ذلك أن أغلب هذا الصنف وإن ادّعى المعرفة وزعم النبوغ هم فئة تابعة عن غير وعي ولا تجرد تفكير، إذ لابد مجانبة للتطفيف الاعتراف والإقرار على أن معطوفاتهم وفواصل أصنافهم ليست على نسيج واحد، ولا هي ذات فوهة باعث وانبعاث واحدة، فمنهم المتبصر بما يفعل، كما منهم المجبور على ما يفعل، ومنهم عابر السبيل فوق ما يفعل، وإنما الإنصاف الكلام والوقوف مع معشر المتبصرين وهم يمارسون هذا الدور الازدواجي، دور لطم الوجه وشق الجيب في جلواتهم معنا، والاستبشار والفرح والافتخار وهم في خلواتهم مع غير المسلم “الكافر” الذي دأبوا أن يسمونه “الآخر” تحت طائلة خطة قلب الأمور وإضاعة وإتلاف المصطلح الشرعي وإبداله بآخر يحظى بمكانته اللغوية من حيث الإيجاب والقبول وصادق المجاملة، ولعلها آلية سبق للقرآن أن سلط عليها أشعة الوحي الكاشفة،وعرّى عن خبيئة أصحابها في تجرد فاضح حيث لا مجال في ذلك الكتاب للريب، ولا في هذا القرآن للمجاملة، إذ قال الله تعالى: “لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ”.
نعم لا تخرج صورة صاحبنا وهو ينتشي بطعام المولد وصلة الرحم عن دائرة الاعتبار الذي لطالما أراده هو وغيره من الذين مافتئوا يحاربون دين الله إسرارا وإعلانا، فتجدهم متى ما وقع حدث أو تلبس ملتزم بعرى الإسلام بخطيئة إلا سارعوا إلى تسفيهه وتنقصه واستصغار فضله واستكبار صغائره، ثم ما لبثوا في هذا الجو الموبوء والضجيج الآخذ في التعالي والتغوّل أن وجهوا سهام الاتهام إلى نحرالنص نفسه، ثم تمسلخوا بمسلاخ النياحة المستأجرة، وشرعوا في بكاء متصل وبوح يسمع له أزيز من الشفقة انتصارا لهذا الدين العظيم وهم يبثون شكواهم لربهم في السماء ولغرانيقهم في الأرض من هؤلاء الإسلاميين بل المسلمين الذين أساؤوا لعظمة هذا الدين وأصابوا سماحته في مقتل، فهل كانوا يا ترى صادقين في تباكيهم ومسموع نياحتهم ومبثوث شكواهم؟
وإن المرء ليعجب أشد العجب من صنيع هؤلاء، وكيف اسطاعوا أن يخلقوا، أو استطاعوا في محاولات على بدء متكرر في غير انقطاع أن يخلقوا خُلة وأُلفة بين الأمر ونقيضه والشيء وضده، فلقد كنتَ تراهم وردة فعل الجماهير المسلمة ضد الإساءة الغربية الطافحةبالغيض حد فيضه آخذة في تنظيم وحشد أدواتها السلمية المرشدة دفاعا عن سيد الخلق، كنت تراهم يدافعون عن معشر المسيئين، ويخاتلون ويناورون جاهدين صادقين مخلصين لهم المودة، مشغولين أيّما شغل في مسح تهمة الإساءة من على ظهور الآخرين، ونسف قصد وعمد جُرمها من قلوبهم، بل واتهام المسلمين في مدافعتهم ومقاطعتهم بأقدح الأوصاف ولمزهم بأفظع الألقاب، ولازالت تلك خصومتهم تتجارى بهم كما يتجارى داء الكَلَب بصاحبه إلى يوم الناس هذا، فكيف والحال هكذا لعاقل وتحت سقف أي مسوِّغ أن يعتقد في صورة صاحبنا وهو يحتفي بذكرى مولد سيد الخلق على مائدة وصل الرحم، أو للمرء أن يطمئن ويرتاح لأي خطاب من هؤلاء يجيء ظاهره مغمورا في أساليب المهادنة والملاطفة، بله كيف له أن يعتقد أنها بقايا فيض إيماني وعرى التزام أخلاقي، بينما الوقائع تحكي في مناكب أرضنا ومنابر إعلامنا المسموع والمرئي والمكتوب المحسوب لهم لا عليهم، تحكي ضد هذا ونقيضه في جفوة وصفاقة وجفاء، فحتى وإن صدق ظاهر الصورة فبطلها كذوب…
ولا شك أن الحقيقة هي على غير هذا النحو، بل شواهد واقع القوم وسيرتهم تتعاضد لتذهب في اتجاه الكشف عن خوفهم الدفين من مستشرفات ردة أفعال الجماهير المسلمة على مروقهم الكلامي، وتجرئهم بين الفينة والأخرى على الله ورسوله، فَلَكَم وقفوا مشدوهين من ردات فعل المسلمين العصاة والمسيئين منهم قبل المحسنين، فلقد تعلموا من سوالف التجاربوعرفوا أن هذه الجماهير من المسلمين ومهما دلّسوا واتهموا ولمزوا وشوّهوا واستغلوا واستبشعوا … تبقى علاقتها بأصول هذا الدين وفروعه علاقة وطيدة وثيقة، إذ سرعان ما تثور ثائرتها متى ما خرج سادر بوجه سافر ليستقبح ويتطاول على قلعة الإسلام أو نبي الإسلام.
نعم إنهم يعرفون ويستشعرون ويُحسونإحساسا عميقاصادق الاستخبار بما يتمتع به المسلمون في بلدانهم من نفوذ اجتماعي، وبما يتمتع به الإسلام من سطوة وجدانية على الشعور الجماعي لضمير الرهط الواقي والحافظ والمانع بفضل الله من رجم أولئك وهؤلاء، وليس ما نؤكده ببدع من القول، ولا بالحالة المحدثة الجديدة، بل لقد سبق ونبّه القرآن الكريم على هذا النمط من الخوف والإقرار به، وبذلك الاحتياطمن قوم خطيب الأنبياء شعيب عليه السلامببديع العبارة وجميل السياق إذ قال جلّ جلاله : “ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز”…
فهل كانت صورة صاحبي العلماني المتطرف، وحرصه على نشرها على حائطه الفيسبوكي حال أخذها، وعنونتها واستنطاق صامتها بأنها لمّة عائلية ليست عادية، بل هي صلة رحم واجتماع على طعام ضابطه الاحتفال بذكرى مولد سيد الخلق، ومشاركة العائلة الكريمة هنا هذا الطقس في صيغته التعبدية ترجمة لمحبة الجناب النبوي، في الآن الذي شارك فيه هو عينه هناك وهنالك غمار الدفاع عن حرية الغرب فيما ترسمه يده الآثمة من عدوان على نبي الإسلام، بكل صفاقة وصلف كانت تلين جلوده وتتأذى دواخله وتعتصر قلوبه-المحلية الجنسية- حسرة وأسى، وجيوب المنفقين من المحبِّين تمسك وتحجم وتكف عن اقتناء سلعة فرنسا في دائرة عين الحرية التي يبيح وينافح عناختياراتها هناك، ويحرمها ويعمل هو وشواكله على قمعها وتسفيهها ونقض عراها ووأد سعيها هنا بين معشر المسلمين المغاربة الأحرار،الذين اختاروا سلاح المقاطعة الاقتصادية، تأديبا وزجرا بالتي هي أحسن على التي هي أسوأ، والبادئ أظلم.