على هامش التداعي على شخص الأستاذ والشيخ الفاضل ياسين العمري… “وفجأة صارت العصا أحَدَّ من السيف”
هوية بريس – محمد بوقنطار
في غمرة هذا الضجيج المتعالي الصادر من هنا وهناك وهنالك، والذي نعته بعضهم اعتسافا بأنه قَسّم المغاربة إلى شطرين: شطر مع الشيخ وشطر مع الشيخة، وتلك قسمة ضيزى، ذلك أن المؤشرات الرقمية تحكي بالصوت والصورة والرائحة أن ثمة شعب مع الحق وكِفْلُ ثلة مع الباطل، ويكفي المرء أن يتماهي في تسفل تراتبي يستوعب كل التعليقات ليعرف حقيقة وموقف هذا الشعب الأبي، أهو مع الشيخ أم ضده، ولكنه نفخ النافخين واكتيال المطففين، وقد عُلم السبب فلا جدوى إذاً من العجب.
في غمرة ذلك الضجيج أتساءل في عفوية: أكان شعب الأجداد والآباء شعبا إرهابيا متطرفا عندما كان يتلفظ الواحد منه بكلمة “الشيخة” عبر تعتعة لا تكاد تسمع منها إلا همسا، يمررها المرء على استحياء مرور النجوى التي هي من الشيطان، ثم يطفق النابس يمردوف يوطئ به لفحوى الاعتذار صادعا بكلمة “حاشاك”؟ !!
يا الله ماذا تغيّر وما الذي تبدّل حتى انتكست الفطر، فصارت الطهارة نجاسة، وصار الإفساد إصلاحا، وآض المنكر معروفا، وغدا المحسن مذنبا، وراح المسيء دمثا، والْتُمست القدوات في ماخور الخنا والقِوادة…
لقد تناول القرآن الكريم هذا التنكيس الفطري مرات قليلات معدودات، حيثاستحالت الطهارة عند قوم لوط تهمة جزاؤها التعزير والإجلاء، كما حذّر فرعون قومه من موسى عليه الصلاة والسلام خائفا أن يُغَيِّرَ دينهم أو أن يُظهر في الأرض الفساد…
لا شك أن هذا الانتكاس هو حصاد حطام في مجتمعات يكثر فيها النظر إلى الباطل حدّ الاستمراء، فتضيع من قلوب مدمني النظر منقبة معرفة الحق ومن ثم تحصل مجافاة أهله وموالاة خصومه وأعدائه لاحقا.
إن سلامة المجتمعات تُقاس بمحرار دقيق، ورؤية بمنظار صادق صحيح يخلص الناظر من خلاله لقضايا الأمة والوطن حد الهوس، رؤية تُبنى فيها الأمور على تصنيفات تحكمها الضوابط الأخلاقية، وتزيد من وضوحها القيم المُضافة التي يكون أبطالها مُمَجدون على الحق والصدق، بحيث ينبع المجد منهم ويوزن ملمح البطولة فيهم بالنظر إلى إسهاماتهم وإنتاجاتهم وأدوارهم التي تغذي الحاجات الأساسية والضرورية التي تستجيب لمعطى السلامة والحياة الطيبة لمجتمعاتهم، وليس زمن الجائحة ببعيد منا، حيث تمايزت الصفوف، ووقفنا على النافع الذي مكث في الأرض، وعلى الزبد الذي ذهب جفاء، وتسنى لنا إعمال قاعدة الاستغناء، وعرفنا من خلالها الغث من السمين، والطيب من الخبيث وهلم جرا…
ليس بغريب أن تأتي النتائج معكوسة، في مجتمع طفق أهله على غير المعهود يمجدون التفاهة، ويملؤون دنيانا بالمكاء الحداثي والتصدية التنويرية في ثوبها الفوضوي الهالك.
إنني أرى بدل الخوض في سوأة الفيلم محل الضجة، وفي مكانة جنس الشيخة ورمزيتها في مجتمع يفزع أهله بالقسر الأدبي، ويسوق إعلامه البئيس الناس بسحره إلى ساحة التفاهة سوقا ثقيلا، من باب الأولوية الخوض على السبق في الوقوف على ملحظ مهم له وزنه وأعني به المكانة العلمية لكاتبة سيناريو الفيلم السيدة (فاتن اليوسفي)، وهذا مربط الفرس، فالشابة فاتن هي مهندسة دولة في مجال حيوي طلقته ببينونة كبرى لتقتحم عالم الفن حيث النجومية والمال والشهرة، وهي ثلاثية لم يعد يحققها التفوّق المعرفي في بلادنا، والذي بات مجالا تقليديا إثمه أكبر من نفعه، والحقيقة أن هذا الطلاق قد تكرر صنيعه حتى كاد يكون ظاهرة في ما يسمى بــِ”الوسط الفني”، فهذه طبيبة جراحة غادرت العيادة نحو منصات الطرب والغناء ثم التمثيل، وتلك دكتورة صيدلانية أوصدت باب المختبرات لتلبي نداء السينما ومهنة تشخيص الأدوار، وذلك مهندس في الرياضيات التطبيقية هرب من المعادلات الجبرية ليتأبط دفه “بنديره” ضاربا مغنيا راقصا في الأعراس والحفلات، وآخر خريج المدرسة العليا للتسيير والتجارة فضل الغناء والطرب على محمدة إدارة الأعمال، وخامس رجع بشهادة الدكتوراة في ميدان الطاقة النووية ليقتحم تراث الغناء الشعبي أو ما يسمى بفن العيطة، بل الأدهى والأمر أن تجد في رفوف مكتبة البحوث الجامعية ذات التصنيف العالي أطروحات أَصَّلَ من خلالها الطلبة الباحثون لفن العيطة، إنها ظواهر دخيلة وجب الانكباب عليها، وتحرير موضوعها تحريرا منصفا يعيد للأمور توازنها المعنوي ومكانتها اللائقة والمناسبة، فالكبير كبير بدوره وأهميته، والصغير ساقط بمهمول سراب دوره وزبد ضرره…
إن دعوى معالجة المسلسل لظاهرة التنمر أو ازدراء جيل الأبناء في معرّة من مهن أو تخصصات الوالدين، هي دعوى يشوبها الدَخَنُ والدَّخَلُ، إذ هي إشكالية مطروحة بحدّة وبكثرة ملازمة لها وقعها الظالم في حياة أبناء يمتهن آباؤهم بل أمهاتهم مِهنا شريفة عفيفة مهن لا يمكن للإنسانية جمعاء الاستغناء عنها، كمهن النظافة “الزبالة” ومهنة الإسكافي “خاصف النعال” ومهنة تلميع الأحذية ومهنة “غسالة الحمام” و”كسال الحمام” و…
فلماذا التركيز على مهنة “الشيخة” يا ترى دون غيرها من المهن المحقورة لا الحقيرة؟ !!إ
إنه سؤال نرمي بحمولته الاستفزازية في حضن المتباكين على عرض الشيخة، الوالغين في عرض الشيخ حد القذف والتثريب والملاسنة…
إن مبلغي من العلم سمعا ومشاهدة في أبناء وبنات الراقصات والمغنيات والشيخات أنهم وأنهن لا يتعرضون ولا يتعرضن لتنمر ولا لإزراء أو احتقار، إنني كما غيري نعرف كم تتقاضى الشيخة على وصلاتها وهزاتها وتباريحها في العرس والتلفزة والمهرجان والسهرة، ومن ثم بِتنا نعلم أين يدرس الأبناء تحت طائلة ومقتضى هذا السعر والأجر السخي الحفي بالسيدة الأم “الشيخة هانم”، ومنه أين يمارس هؤلاء أنشطتهم الترفيهية، وأين يقضون عطلهم الصيفية، وماذا يلبسون وماذا يأكلون…
كما نعلم تمام العلم كم يتقاضى الفقيه، والإمام الراتب، والمؤذن، والخطيب، وكم يأخذون من صندوق الوزارة الوصية، اللاحفية بهؤلاء الدراويش، وبالتالي وعلى ضوء هذا الأجر الزهيد البخس نعرف أين يدرس ويترفه ويقضي العطل أبناء هذه الفئة المطحونة اجتماعيا، إذ عليهم بمعية آبائهم الاحتساب دون الاكتساب الذي يُغني ويُبقي ويذر…
إن النظرة هاهنا يجب أن تتخطى هذا الضجيج المفتعل حول استدراك الشيخ وموقفه من سيرة الفيلم وبطلته الشيخة، لتنقل همّ التأمل وغمّ التفرس إلى وصف المعركة الحقيقية التي يدور في فلكها هذا التشغيب، ومن ثم تحديد معالمها وأركانها وأذرعها وأنّها:
معركة بين الحق والباطل، وأن لكل منهما أهلا ومريدين وأتباعا.
وأنها محاولات للتطبيع مع المنكر، وتكسير عمدي لقيدي الحلال والحرام، ومواجهة صريحة بين الدين ومن يمثله ضد من لا يطيقون دندنته ويضيقون بها وبأهلها ذرعا.
وأنها عمليات متسارعة تبغي القفز على الوصاية الأخلاقية لميراث النبوة، في محاولات متكررة بئيسة لسلخ الناس عن هويتهم.
وأنها تمرد من ثلة باغية تتلبس في صفاقة وصلادة وجه بمثلبة الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف، خرجت من عباءة الإسرار والعتمة، إلى دائرة الضوء والجهار.
وأنها منظومة لها نفوذها وسطوتها كما لها أجندتها ومخططاتها، فليس في الأمر صدفة أو عفية وإنما عمد على سبق إصرار وترصد.
وأنها معركة فكرية يقود حملاتها المسترسلة سخائم حاقدة تمارس إفسادها وتمرّره ملفوفا في قوالب الإصلاح، حتى إذا قيل لها: اتق الله، أخذتها العزة بالإثم.
وأنّها سلوكيات ارتجالية تُدير أزمتها فئة دخيلة مهمتها أن تهدر وتلغي اعتبارات جذرية تُعدّ بالعقل والنقل والحس والطبع والعُرف من صميم الفطرة السوية.
وأنّها محدثة تشخص ضلالتها جوقة من المستغربين هدفهم غرس النظرة المادية والاتجاه الإلحادي اللاديني في نفوس الجماهير المسلمة.
إنها جوقة وظيفة أعضائها شحن المواطنين ضد الدعاة والوعاظ والعلماء والمصلحين، ورميهم بالسذاجة والتهوّر وقلة الوعي بأحكام الواقع، وأنّهم مجرد متسلِّطين ظلاميين قد غرقوا في كأس ماء، فكيف لهم أن يقاوموا أمواج التغيير الحداثي الهوجاء، ويسايروا تجليات هذا التنوير التحرري.
إنها جوقة يتصدرها كل مُجدِّف يحلم يوما أن يجعل علاقة العباد مع ربهم علاقة تلامس الصفر.
إنها جوقة يدور في حلقتها مدلّسون يكرِّسون للباطل مكانته، ويمهدون للبطّالين اقتحام كل عقبة، حتى إذا تكرس الباطل وأجال فيه الناس النظر واستمرؤوا كثرته ذهب الحق وخرج فارا من قلوبهم مدبرا ولم يعقب.
ومهم جدا بعد هذا العرض أن نقرر حقيقة مفادها أنه إن كان للفتن وجه أسود وأتون مربادة، فإن لها وجوها مشرقة بيضاء، تعطي لكل واحد من الفريقين متى ما تمايزت الصفوف، الإشارات تلو الإشارات، والعبارات تلو العبارات، واللحظات تلو اللحظات، والنتائج تلو النتائج، في سياق بيان من المنتصر ومن المستفيد ومن الرابح، ولا شك أن قضية ما بات يعرف عنوانها “بين الشيخ والشيخة” قد أعطى فيها الشعب المغربي المسلم الأبي دروسا ومواقف واضحة لا تقبل التذبذب الحائف ولا الاحتمال الزائف بأنه كان في صف الشيخ ضد مسلسل الشيخة ومن آزر نوعها وجنسها في اعتساف وصفاقة، ولنا في اعتذار الصحفي السيد “المهداوي” بله حذفه قبل خرجة الاعتذار لسيل عرم من التعاليق التي تُدين خرجته وتزري بشخصه وتحطّ من موقفه أعظم دليل على موقع الشعب من هذه المعركة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ومن تمامها حكمه الحاسم المقرر في أي معركة بين الحق والباطل وقد قال جل جلاله: “فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض” وقال تعالى: “بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون” وقوله سبحانه: “قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا”.