عندما يصبح “التعايش” في خدمة الموت
إن أخطر شيء على وجود الإنسان هو أن يتعامل مع الأفكار المعلبة باستهتار، أن يسمح لها بدخول عقله، قبل أن يفتح علبتها ويفتش في محتواها، كما يُدخل كبسولة الدواء إلى معدته دون فتح غشائها المصنوع من “الجيلاتين”.
فما يجعلنا نتناول هذا الصنف من الدواء دون فتحه لمعرفة مكنونه، هو أمران: جهلنا بعلم صناعة الدواء، وثقتنا في الطبيب الذي وصفه.
لكن ما الذي يدفعنا إلى أن نبلع الأفكار المعلبة دون أن نفتح علبتها المزركشة والمنمقة، كعلب الهدايا التي تشي بغلاء الهدية حتى قبل أن تراها العينان؟؟
إنه تواطؤ الفاسدين من رجال الإعلام والفكر والدين مع المفسدين في مجال السياسة والمال، حيث يشهد الأولون بنزاهة المنتِج وجودة المنتَج، فيطمئن عموم الناس وتبدأ عملية الاستهلاك في استسلام تام للسياسيين وأرباب المال.
فالسياسة لا نفوذ لها دون توظيف المفكر الفاسد، والإعلامي الفاجر، ورجل الدين المنافق، فالمفكر هو من ينتج للسياسي الفكرة القاتلة ثم يعلبها بلفافاتٍ ألين من الحرير وأبهى من الاستبرق، ثم يحيلها على الإعلامي ليصنع لها المجد والقبول بالدعاية الباطلة المغشوشة، يخفي عيوبها ويضيف إليها من المحاسن ما ليس فيها، وينهال على المنافسين لتلك البضاعة بالقصف الإعلامي مُتهما لهم بالكذب والزور. تماما كما في سوق السلع المادية التي تجعل من الحجر تبرا، وترفع لكل حقير قدرا، ثم يأتي رجل الدين المنافق، ليشهد شهادة الزور أن استهلاك هذه الفكرة/السلعة جائز لا ينافي الدين، بل قد يكون واجبا لتشجيع الإنتاج الوطني.
ولنأخذ بالتحليل مثالا للفكرة المعلبة فكرة “التعايش” التي راجت في سوقنا المغربية عند زيارة بابا الفاتيكان الأخيرة.
ولعل مصطلح التعايش كان أكثر المصطلحات استعمالا ورواجا جنبا إلى جنب مع مصطلح الإرهاب، منذ انطلاق الحرب العالمية على الإرهاب بعد أحداث 11 من شتنبر 2001.
لذا رسخ في ذهن عموم البشر أن الإرهابي هو المسلم، والمطالب بالتعايش هو المسلم أيضا.
ولا يصعب على المتابع الحصيف أن يلاحظ أن مصطلح التعايش يستعمل منذ التاريخ المذكور من طرف القاتل والمقتول، والجاني والضحية، ويَخطب به في المحافل رؤساء الدول التي تقود حملات القتل والموت والدمار في ربوع بلدان المسلمين، ويخطب به كذلك رؤساء تلك البلدان المقهورة المدمرة.
ومن كثرة استعمالاته صار الناس يستهلكونه وفق المضمون الذي يصاغ في حروفه من لدن الأقوياء، وذلك بشكل آلي دون بحث في معنى التعايش، وهوية من سنتعايش معه، وهل من حقه أن نتعايش معه؟ أم يجب إقصاؤه ومحاربته؟؟
وهل التعايش معه مؤقت أم مفتوح؟؟
وهل هو تعايش مشروط أم دون شرط؟؟
ومن هو المؤهل كي يفصل في هذه الأسئلة؟؟
وما هي المعايير التي تحدد مفهوم التعايش؟؟
وما هي تكلفة هذا التعايش التي سيتحملها المجتمع المسلم؟؟
المهم يطلب منك أن تتعايش دون قيد أو شرط أو تفكير.
الأفكار المعلبة غالبا ما يكون صانعها حريصا على قولبة المجتمع، لذلك فهو يحرص على عدم فتح النقاش حول تلك الأسئلة وإعطاء الفرصة للمخالفين حتى يبحثوها في نقاش عمومي.
فمثلا نسمع غربان العلمانية في بلاد المسلمين وأولياء نعمتهم في الغرب، يتهمون الإسلاميين والإسلام بأنهما ضد التعايش، ويميلان إلى إقصاء الآخر وحربه، في حين يمنعون وصول منتقبات أو ملتحين إلى البرلمان والوظائف السامية ومناصب المسؤولية فقط لأنهم يخالفونهم في النظر والمنظر.
يتعايشون مع الشذوذ الجنسي لكنهم لا يقبلون بمن يدافع عن تعدد الزوجات.
لا ينتقدون إصحاحات العهد الجديد التي تدعو إلى القتل، ونصوص التلمود والعهد القديم التي تحتقر المرأة وتدعو إلى إبادة الشعوب الأخرى، لكنهم يرفضون أن تفسر كلمة الضالين بالنصارى والمغضوب عليهم باليهود، ولو شهدت لها أصح النصوص والآثار.
ترى في كتاباتهم طول السنة دعوة إلى إقصاء الإسلاميين لأنهم يدعون إلى أسلمة المجتمع، ويتحدثون عن الشريعة والإسلام وعن العقيدة ولا يتركون شيئا من شعائر الإسلام إلا انتقدوه، ثم يخطبون فيك حول التعايش مع الآخر النصراني واليهودي والبوذي واحترام معتقداته، كما تخطب العاهر حول الطهر والعفاف.
فإذا قتل اليهود المسلمين كما في فلسطين، وذبح النصارى المصلين كما في نيوزيلاندا، وأباد البوذيون الموحدين الروهينجا في ميانمار، تراهم خانعين وكأنها أحداث بين حيوانات في غابات الأمازون، لا يتحدثون عن التوراة والإنجيل وتعاليم بوذا، ولا يطالبون بتعديل المقررات الدراسية، ولا إعادة قراءة الإنجيل والتوراة والدامابادا، بل على العكس نراهم يصنعون تعبيرا على التعايش صنما كبيرا لبوذا وينصبونه في شوارع الإمارات العربية. (حدث البارحة 03 أبريل 2019).
أما إذا دهس مسلم يائس بائس جاهل عشرة من الأوربيين، ليس لأنهم نصارى ولكن لأنه يحملهم وزر دولهم التي تحتل وتغزو بلدان المسلمين، رأيتهم يتضامنون مع المقتولين المدهوسين، وينظمون المسيرات، ويدبجون المقالات في التنديد بآيات القرآن والأحاديث وكتب التراث، ولا أحد منهم يحلل سلوك من يتبنى العنف باسم الإسلام على أنه سلوك خاطئ لكنه يعبر عن القهر والقتل والظلم والاستغلال الذي يعاني منه المسلمون في كل مكان من الأرض، بل يحملون المسؤولية لانتماء القاتل أو المتطرف.
إن التعايش مصطلحا ومفهوما، أصبح يوظف توظيفا سياسيا لا علاقة له بالفكر والدين، يوظف لتجميد الأحاسيس وإفراغ العقائد من قوتها ومعناها.
فهم لا يطالبون المسلم بقبول الآخر البوذي والنصراني واليهودي، بصفته إنسانا، يمارس عقيدته في بلده ومعبده، بل يطالبون المسلم بالقبول بأن يمارس البوذي عقيدته في بلدك المسلم ويبني معبدا لإلهه يدعو أبناءك المسلمين ليتركوا دعوة التوحيد ويُقبِلوا على عبادة وثنية أصلا ما جاء الإسلام إلا ليبين حكم الله فيها، ويدعو إلى الاستسلام له بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة.
أذكر قبل سنين عددا كيف انتفض العالم الغربي وأتباعه من علمانيي العربان عندما قامت دولة طالبان بتدمير صنمي بوذا في أفغانستان، وهي حجارة يمكن تجديدها، ولم نسمع لهم اليوم حسا ولا ركزا وعشرات الآلاف تباد من شعب الروهينجا.
إنه مفهوم التعايش عندما يسيس ويشتغل في خدمة البندقية والمدفعية.
وكذلك النصراني، لا يطالبونك بألا تعتدي على كنيسته فقط، أو أن تقبل بالتعامل معه بيعا وشراء، وألا تتعرض له بسوء، وهذا كله من دين الإسلام، بل يطالبونك وأنت مسلم بأن ترضى به زوجا لابنتك، ورئيسا لدولتك، وأن تشاركه أعياده، وتبني له الكنائس لينشر في أبنائك عقيدته الوثنية التي نزل القرآن صريحا في رفضها والحكم عليها بالكفر، إذ جعلتْ لله ولدا وجعلته ثالث ثلاثة، في مخالفة صريحة لنصوص الإنجيل نفسه.
أما اليهودي، فهذا شأن آخر، فهم يطلبون منك أن تقبل به سالبا للأرض ومنتهكا للعرض، وأن تنسى بأن القدس مسرى رسولك مغتصبة، وأن تقبل إذا أمطر اليهود إخوتك الفلسطينيين بالقنابل العنقودية والفوسفورية وهدموا البيوت والمدارس، وتندد إذا فجر فلسطيني نفسه، بعد أن جمع للتو أشلاء ابنته وأمه وأبيه، في مجموعة من الجنود اليهود.
ولفظاعة الإجرام الصهيوني عبر التاريخ لم يُكتفَ بالدعوة إلى التعايش مع اليهود فقط بل استطاعت اللوبيات الصهيونية في دول العالم المتحضر أن تستصدر قوانين تجرم معاداة السامية، لتمنع الأقلام من التحبير، والألسن من التعبير، والعقول من التفكير، وما أعظم تفاهة الإنسان المفكر والسياسي الغربي عندما يدخل ذيله بين إليتيه ويمشي منصرفا كلما سئل عن إجرام اليهود في فلسطين، بل ترى المفكر والإعلامي والسياسي الغربي (والحكم للعموم)، يقفز على الجثث الفلسطينية يوميا في وسائل الإعلام ولا يستطيع الحديث عنها في ما ينتجه من فكر وتقارير ومواد حتى لا يتعرض لواقع أرض الميعاد، وكذلك الفنانون والمخرجون في هوليود وبوليود وأروبيود، ثم يطيب للكل أن يخطب وينتج في السلم والسلام والتعايش وقبول الآخر.
التعايش بمفهومه “الحربي” وليس الغربي فقط، يطالب المسلمين بأن يتخلوا عن واجباتهم الدينية ومعتقداتهم وشريعتهم لصالح “الآخر” النصراني واليهودي، ولن ينتقد أحد من غربان العلمانية ممثل الطائفة اليهودية جاكي كوديتش، عندما أجاب عن سؤال وجهه إليه أحد الصحفيين: لماذا تغيّب هو وكثير من اليهود عن حفل استقبال بابا الفاتيكان يومي السبت والأحد، فقال: إنه يتأسف لذلك لأن يوم الاستقبال زامن يوم السبت، وهو يوم مقدس عند اليهود يصلون فيه، وغالب اليهود أعربوا له أنه يتعذر عليهم الحضور بسبب الصلاة.
ومن قلب بيعة اليهود بمراكش أضاف كوديتش بأن اليهود “كميشة” في المغرب، ويوم السبت لابد أن يخصص للعبادة؛ مضيفا بالدارجة المغربية: “..لكن على قِبَل زيارة البابا هذه ملزم عليَّ نقولها، نحن الطائفة اليهودية ميمكنش نسافروا يوم السبت لاستقباله”.
وشرح ممثل الطائفة اليهودية الأمر بأن “هذا هو احترام الديانة، احترم ديني وأحترم دينك”.. و”هل أستقل سيارتي لأستقبل البابا وأترك عبادتي؟!”.
لقد صدق اليهودي فهذا هو ضابط التعايش، لا يمكن أن أتنازل عن ديني وواجباتي العقدية حتى أحظى بوصف المتعايش، وأزيل عني تهمة المتطرف والأصولي.
فقس ذلك على قضية خلط الآذان وقبول بناء الكنائس، ونصب أصنام بوذا وغيرها.
إنه التعايش عندما يفقد المعيار والمفهوم والحق، ويوظف في خدمة الأقوى المغتصب والسياسي المتاجر بدماء الأبرياء.
لذا لو تأملنا اليوم لرأينا أن فكرة “التعايش” المعلبة في العصر الحديث توظَّف في قاعات الفكر والسياسة ليكون التعايش عَوْنا للبندقية والمدفع في بؤر الاقتتال، كما يوظف كي يزيل الحواجز العقدية والقومية أمام المخططات الإمبريالية لتهيمن بعولمتها الفاجرة القاتلة على مقدرات الأمة الإسلامية بالخصوص والأمم المقهورة عموما.
ويوظف حتى يقتل النخوة في البشر، ويضعف الانتماء، ويصبح الناس كقطيع الخراف، تساق ضاحكة إلى المذبحة.
إن الأفكار والمفاهيم المعلّبة لا ينبغي أن يقف من ينشد الحق، سواء كان مسلما أو نصرانيا أو غير ذلك، عند زخرفة علبها وألوانها الزاهية، بل عليه أن يفتحها قبل الاستهلاك، ويتأكد من سلامة المحتوى وأثر المضمون، على عقله ودينه وبني قومه.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
بارك الله فيك اثلجت صدري
بارك الله فيكم أثلجتم صدورنا. ونريد المزيد. حياكم الله.
لا فض الله فاك و بارك الله فيك و بك. يا ليت قومي يعلمون.
بارك الله فيك