وفجأة تذكرت الوزارة الوصية على شأن التعليم أن ثمة خطر يتهدد بل تتمدد خلاياه السلوكية السرطانية لتنخر في غير صمت ولا إسرار كيان المنظومة التعليمية والتربوية في بلادنا، كما في سائر بلدان الخارطة العربية الإسلامية، ذلك هو خطر تفشي ظاهرة الغش داخل القاعات المخصصة للاستحقاقات التربوية والاختبارات الجهوية لكافة المستويات الإشهادية، فكان أن ارتفع صوتها الوطني وضميرها النضالي عاليا، مجلجلا، محذرا، منبها، نائحا في بوح وندبة حال، مناديا بالتشمير على سواعد الجد والرفع من عقيرة تحيين المحاسبة والمؤاخذة، التي بلغ مبلغها سقف تجريم النواصي الغاشة، والمتواطئة مع هذا الفعل الشنيع.
نعم فجأة وبدون سابق مقدمات، ثارت ثائرة الأجهزة الإدارية المتخصصة والوصية، تبغي القضاء على هذه الظاهرة المخلة بالآداب العامة، تروم اجتثاث جذورها الضاربة في عمق المروءة المعرفية والعلمية، القادحة في الحصيلة النوعية للشواهد العلمية الوطنية، وعلى رأسها طبعا شهادة البكالوريا، وليس يدري المرء أين كانت الدولة ومعها الوزارة الوصية، ولماذا توارت ولم تسجل حضورها كل هذه السنوات بل العقود القليلة السابقة، وقد علمنا أن ظاهرة الغش لم تعد ومنذ زمن بعيد تلك الظاهرة المستضمرة في غربة وإغراب، أي تلك الظاهرة المستقبحة حسا وطبعا وشرعا، والتي يحكم غربتها ضابط الحرام بالتعبير النبوي الشريف الوازن في المقام مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: “الحرام ما حاك في الصدر واستحييت أن يطلع عليه الناس”، ولعل دخول المكتبات والوراقات في المقاربة التجارية لبيع الأوراق المصغرة الشكل والكتابة والمعدة بمهنية واحترافية للغش المدرسي، خير دليل على ما ذهبنا إليه من نفي استضمار وحقيقة ظهور وشهرة لسلوك مسلك الغش في مدارسنا التعليمية.
ولعل تطور الأحداث وبلوغها ذروة من الجراءة لم نكن، أو لم يكن لأحد أن يتصورها، تذهب مذهب أن هذا التدرك الفج والتسفل العميق والمتمحل هو حصيلة نتائج لها سوالف مقدمات وممهدات، تشرح وتقيس الخط الزمني الفاصل بين طول الغياب والتفريط المسجل على الدولة، وبين هذا الحضور أو الاستحضار المفاجئ المباغت للدولة في شخص التوصيات المرتجلة للوزارة الوصية على قطاع التربية والتعليم والمؤشرة على هذا التحرك المشار إلى جنسه ونوعه سلفا.
ولابد من أجل معرفة حجم هذا التفريط، وقياس جرعة التغافل الرسمي وتقييم حقيقة الوضع، لابد من ربط هذه المقدمات بالنتائج التي وصلت درك احتجاج التلاميذ وتمردهم وفورتهم ومواجهتم البعدية لموقف المنع الذي تعرضوا له، أو الأسلوب الإداري الصلف –كما هو الزعم منهم– الذي حجّر على واسع سلوكهم وانتهك حدا من حدود حقوقهم المباحة أو المستمرأة الإباحة داخل الفصل، وهم في تفاعل مع ورقات الاختبارات الإشهادية يكررون فصول الحق المتوارث، إذ نقلت لنا تلفزتنا ضمن وصلاتها الإخبارية بالصوت والصورة ما حصل داخل بعض المؤسسات التربوية والتعليمية، إذ بدا الكل مباح العين ضربا وسبا وملاسنة ورميا وتكسيرا، من الحارس البواب إلى المدير التربوي، ومن النافذة والباب إلى السبورة والطاولة، وهكذا استطاع التلاميذ عبر رد فعلهم الحائف لفت الانتباه إلى دواخل مشاعرهم والوقوف على حدود ملكيتهم القذرة، وحصانة ما أصبح في دائرة مسمى حقوقهم المتحصلة بالتوارث غير المسبوق بالنضال والمدافعة.
ولعل من تابع مقتطفات بثها “اليوتوب” يحكي أصحابها قصصهم مع الغش بالوجه الصلد السافر، والجرأة المتخطية لحدود ومحددات الحياء المعقولة والعادية، وكيف أن نياتهم ومقاصد عزمهم منعقدة على الاعتماد الكلي على الغش مع سبق إصرار وعظيم ترصد، لقد رأينا وسمعنا كيف أن التلاميذ يدافعون بالصوت والصورة دون أدنى خوف أو مزية حياء عن موقفهم المتبني للغش حد الاعتبار الذي يرقى به ليكون حقا من الحقوق الغير القابلة للنقاش أو المساومة، بل وصل الأمر بأحدهم وهو يفرقع ويقعقع أمام أشعة نيون إحدى القنوات المحسوبة على نظام اليوتوب معتبرا الغش في الامتحان وسيلة من وسائل نيل رضا السيدة الوالدة لما له من علاقة مباشرة وضمانات مستوفية للنصاب المزكى على دوران حوله بالنجاح المأمول.
ولا شك أن هذه الخرجات قد جادت وأفادت بحقيقة أولية مفادها أن من كانوا يتسترون على كارثية الوضع، بدعوى أن الأمور داخل المنظومة التعليمية تجري في مجراها العادي، بل المتميز أحايين كثيرة، قد تجاوزهم التاريخ وانقلبت عليهم الوقائع على الأرض، بله لم تعد لهم منابر يمكن أن يفرغوا من خلالها خطاباتهم المتهافتة، واستبان للناس من ذوي النيات الإصلاحية الخالصة والبريئة أن هناك حلفا من المترفين غير بريء تعود له كامل المسؤولية التقصيرية في تردي الوضع ووصوله تدريجيا إلى هذا الدرك السحيق، الذي استنهض الهمم واستفز العزائم فجأة…
ولم تكن طبعا هذه العزائم والهمم إلا عزائم وهمم من شحنوا أفئدتنا ونحن صغار بمصائب الهيكلة والإصلاح وما خلّفوه من آثار سيئة جعلتنا مع مرور الوقت وترادف الأحداث وتوالي الكوارث نرفع الثقة في الذوات والمبادئ على حد سواء، وكيف لا يكون ذلك وقد كنا ولا زلنا بعد مغادرة محراب التعليم والتلقي نرى ونسمع ونلمس كيف كانت كل أمة في إطار مشاريع الإصلاح إذا ما استوطنت جلد الكراسي السيادية، ودخلت أبواب الوزارة الوصية لعنت أختها، ونسفت مشاريعها الإصلاحية السابقة، في مُعابثة تكاد تطرد فصولها بين السابق واللاحق،وكأنها سنة بل واجب شائع من تركه استحق العقاب والمؤاخذة.
ولو أن لهؤلاء في هذا الخصوص رسائل إصلاحية نبيلة، يجاهدون حقا وصدقا ليدفعوا بنا جميعا لنعيش في كنفها، وننعم بما تحويه وتشتمل عليه من ضمانات حق وعدل ومناصفة وخير وكرامة، ضمانات كفيلة بصيانة المستقبل من متاعب الماضي وأمراض الحاضر، لكان من الواجب علينا أن نصدقهم في غير ريب ولا اجترار مناقشة، ولكان من الواجب علينا أن ننحني إجلالا لعظيم مقاصدهم وسوي نواياهم وأنفاسهم الإصلاحية، ولكان من الواجب علينا أن نصدقهم في ما ذهبوا إليه مؤخرا من تحرك وتوصية ترفع عقيرة مواجهة الغش بأشكاله وأضرابه وأنواعه في المؤسسات التعليمية بكافة مستوياتها التأهيلية.
ولكن وما أعسر الاستدراك الذي يليه حرف امتناع لوجود، لقد كان ذلك هو الواجب لولا أننا لم نر من القرائن والمحتفات بالأفعال والنوايا، ما لا يدفعنا إلى التماهي مع الطرح الإصلاحي عند هؤلاء، ذلك أن للغيرة لوازم ومقتضيات، كما أن للإصلاح مقدمات لا تنفك عن أنفاسه، فكيف لنا مع هذا التسليم أن نصدق من وقفوا قبل الاختبارات بأيام معدودات يدافعون عن مهرجان موازين ويبرئون ساحة مقيميه والقيمين عليه من عبث اللعب بمستقبل الممتحنين، من الذين أشهرنا في وجوههم سيف العدل والتجرد ومدافعة أفعال الغش في تجليات ركز وجودهم داخل قاعات الامتحان بعد ذلك بمدة قصيرة، مع أن الآلة الإعلامية ركزت في قوة استقطابها واجتذابها على هذه الفئات الممتحنة بعد حين قريب، لقد اصطف الإصلاحيون أو حاملو مشاريع الإصلاح إلى جانب مشاريع السفلة من المترفين، بل سجلوا حضورهم، ونقلت لنا أشعة النيون الرسمية لكميرات تلفزتنا الموقرة تواجدهم في الأمام يقودون سيل الفساد تحت صخب الموسيقى العابرة للقارات والمخترقة للآذان المنيبة والمخبتة للقدوات المستوردة من عالم ما وراء البحار…
وإننا لنسأل بحسن نية وصدق طوية عن المستوى المعرفي، والمعطى الأخلاقي الذي يجنيه الممتحن، وهو واقف بين يدي مغني أجنبي آثر بعمد وعلى مرمى ومسمع من حضر، أن يصاحب أطوار غنائه تشخيصه لمراحل إعداد سيجارة ملفوفة وممزوجة بمخدر الشيرا المحلي الصنع، ثم تتويج هذا الإعداد بإشعال السيجارة، وأخذ أنفاس عميقة ومسترسلة من دخانها القاتل، تحت وابل من ضجيج وعويل ونحيب ومكاء وتصدية الحفاة والعراة من الجنسين، في اختلاط مذموم مقيت تربأ به وتشمئز من صورته محددات الجاهلية الأولى.
ثم يتوج هذا الفعل الشنيع بتاجين أولهما منحة مالية ضخمة الأرقام يقسم المجرمون بأغلظ الأيمان أنها فيض من غيض الميزانيات الملحقة والإضافية، وثانيهما تاج متمثل في سيل عرم من المحبورات، والمقالات، والأعمدة المدخولة، والمطولات من الحوارات، والمعلقات من الأشعار المستشهرة والمثمنة والشاكرة للمجهود البديع والخيّر لهذا الفنان القدوة، الذي تجشأ عناء سفره الطويل ليؤدي رسالته الفنية النبيلة، ويُرْكز في النفوس المستضيفة عبق الترف وأنفاس الفساد والإفساد، وليخط بيمينه الآثمة وفكره المنحرف وسيرته المترفة، وطرح خيشومه راسما بدخان جوفه السكران الموبوء عبارة: “من غشنا فهو منا وإلينا ولنا لا علينا”، يعيش بيننا هذا الغاش مرفوع القامة متسامي الهامة، يمشي في سواد، ويبطش في سواد، ويرى في سواد، ويفكر في سواد، وهو في لجة سواده القدوة في مفهومها الحداثي والحديث والمتبوع والفائز والناجح والمعتبر البياض، والرافع للواء المدافعة للغش وتحريمه عن ضحايا غش وإتراف جوقة المترفين، أولئك الضحايا من جنس الممتحنين من حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام…