عن خطبة “العقد الاجتماعي”!!

هوية بريس – د.الحسن الباز
لو ألقيت هذه الخطبة في عهد الحماية الفرنسية بالمغرب لخرج العلماء من جامع القرويين وصنوه من الجوامع الكبرى يقرؤون اللطيف كما فعلوا عند صدور الظهير البربري.
يوجد من خلف الستار علي عبد الرازق يكتب نسخته الجديدة المنقحة من كتاب “الإسلام وأصول الحكم”.
الآن بدأنا نجني ثمار التحكم في المكون الديني في التعليم، خاصة في مؤسسات تكوين الأطر الدينية.
فخلال ما يقرب من نصف قرن قضيتها في الجامعة طالبا وأستاذا بهذه المؤسسات عانينا كثيرا مع العقليات التي لا تكاد تستحضر السياق الذي يعد له الفاعل الديني ونوع الخطاب المناسب للمرحلة، فألغيت كثير من الوحدات الدراسية التي من شأنها حسن استيعاب هذا الفاعل المهيأ لثوابت معارف الوحي، ومتغيرات علوم الاجتهاد، والتكامل المعرفي والتنوع المنهجي المتطلبين لفهم الواقع، وحسن استثمار وتفعيل المعطيات الفكرية والقانونية الجديدة، وسياق التاريخ المعاصر.
وللإشارة فعند ترجمة مثل هذه الخطبة وإلقائها في البلدان الأجنبية التي تعيش فيها الجالية المغربية في الخارج، ستنال رضا مراكز البحوث الاستراتيجية والمصالح والهيئات الإدارية المكلفة في وزارات الداخلية بتتبع الشؤون الدينية والثقافية والاجتماعية للمواطنين.
واستعمال مصطلح العقد الاجتماعي المعروف عند فلاسفة الأنوار الذين تعتبر أفكارهم مؤسسة للديمقراطية المعاصرة، خاصة جان جاك روسو، من القرائن على هذه الإشارة.
وبذلك اختلطت الأوراق وتغير اتجاه البوصلة، فأصبح الأصل هناك في المركزية الأوربية. والفرع هنا في زمن التحكم الطبقي الفرنكفوني المتشوف للحنين إلى عودة ليوطي ووأد روح المقاومة والتدافع والممانعة، ولو تغنينا بالثوابت، ووجهنا فهمها حسب أهوائنا.
وهناك مغالطات كثيرة منها نسبة الاقتباس من الأمم الأخرى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين والصحابة رضي الله عنهم.
والحقيقة أن ذلك يكاد يقتصر على استعمال بعض التقنيات الحربية مثل حفر الخندق في عهد النبوة، واقتباس نظام الدواوين في عهد الخليفة عمر رضي الله عنه.
وكل ذلك مما لبس له أثر في العقيدة والشريعة والأخلاق.
وحتى عند اهتمام بعض الخلفاء بأيام العرب وحروب الجاهلية باعتبار ذلك مكونا ثقافيا واجتماعيا من شأنه أن تكون له آثاره السياسية والتشريعية، وقع اهتمام التابعين بسيرة الرسول صلى الله عليه ومغازيه.
بل نسبت الخطبة هذا الاقتباس حتى للأفكار والفلسفة دون سبر وتقسيم وتنقيح للمناط، خاصة وأن الخطبة تتعلق بما له أثر في التدين وتسديده والتشريع وسيادته.
فقد اقتبس المسلمون العلوم الكونية البحتة من غيرهم وترجموا هذه العلوم واستثمروها في ما يحقق مقاصد الشريعة ويكفل حاجات الأمة.
ولكن ضعف اهتمامهم بعلوم وفنون أخرى لأثرها في عقيدتهم ومفاهيمهم للحياة والكون والغيب.
إذ حظيت بعض الآداب الفارسية والهندية واليونانية باهتمامهم، فكان ذلك مما يهم بعض أمهات الأخلاق والحكمة السياسية وتجارب تدبير الملوك في العدل والشورى والجباية وغيرها.
وفي مثل هذه الحالة لا يبعد أن يكون الحق الموجود في هذه المقتبسات من بقايا الشرائع السابقة؛ أو مما اهتدى إليه الانسان بنقاء فطرته وصفاء أعرافه.
وبقيت جوانب أخرى مما يتعارض مع محكمات الدين وشعائره وشريعته محل نقد ورد وجدل، مثل التصوف الإشراقي والفلسفة المشائية والمنطق الأرسطي.
أما جانب التشريع فالشبهة التي أثارها الاستشراق المعاصر عن تأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني قد فندها العلماء والباحثون المعاصرون الذين كتبوا في تاريخ التشريع الإسلامي والمدخل لدراسة الشريعة، مثل محمد يوسف موسى ومحمد أبو زهرة ومحمد فاروق النبهان وغيرهم.
وإذا ربطنا بين خطبة هذا الأسبوع وخطبة الأسبوع قبل الماضي المتعلقة بتفسير سورة العصر، فإنه لم يرد في تلك الخطبة السابقة التحديد العلمي الدقيق للإيمان بأركانه الستة. لا على وفق الدرس الأشعري ولا غيره.
كما لم يرد فيها الجواب حول النصوص التي تنفي الإيمان عن أعمال وتروكات معينة، ومنها قوله تعالى: “فلاوربك لا يؤمنون حتى يحكموك في ما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما“.
إذا وقع هذا الربط فمعنى ذلك أن هناك منظومة معينة وهندسة مسبقة في تصور واضع الخطبة سواء كان فردا أو هيئة.
وإذا لم يكن الأمر كذلك فمعناه أن هناك هشاشة في التكوين الديني لهذا الفاعل الفرد أو المتعدد الذي يتولى أمانة خطيرة ويتحمل مسؤولية عظيمة في التأرجح بين التسديد والتأويل والتجاهل مما يهدد بالانتهاء إلى تحريف الكلم عن مواضعه، وهي صفة استنكرت على أحبار أهل الكتاب، ولا تليق بعلماء هذه الأمة.
ولا يفهم من هذا نبذ الاستفادة من المرجعية الوضعية في تشريعنا الوطني، فالازدواجية بينها وبين المرجعية الشرعية الدينية منصوص عليها بقوة الدستور.
ولكن دور الخطاب الديني لا يقتصر على المواءمة والملاءمة والتكييف.
بل ينبغي أن يشمل أيضا التعارض الموجود بين هاتين المرجعيتين في بعض القواعد القانونية التي تحكم منظومتنا التشريعية مثل القانون الجنائي، ومدى تحقيق بعض النظم والقوانين الأخرى لروح الشريعة ومقاصدها وعدم التعارض مع نصوصها.
وذلك كثير في قانوننا الوضعي، للفصل بين القاعدة القانونية والقاعدة الأخلاقية، والفصام النكد بين الكفاءة والأمانة في معرفة الأصلح واختيار الأمثل فالأمثل في تدبير الولايات العامة، وغير ذلك، مما يتحقق به حفظ حرمات الله، واستيفاء حقوق الإنسان.



