“عودة فرنسا” أو الحاجة إلى الجمهورية السادسة!
هوية بريس – عادل بنحمزة
“عودة فرنسا”. بهذا الشعار خاضت زعيمة أقصى اليمين الفرنسي مارين لوبن الانتخابات الأوروبية التي شهدتها فرنسا الأحد الماضي، وأفرزت حصول أقصى اليمين على الصدارة بما يفوق 32 في المئة من الأصوات، أي ضعف ما حصل عليه حزب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. قرّر هذا الأخير دفع الجميع إلى حافة الهاوية بحلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة في نهاية حزيران (يونيو) الجاري، والجولة الثانية في السابع من تموز (يوليو) المقبل، في ما يشبه العلاج بالصدمة، وهو ما سيتحوّل بحكم الواقع إلى استفتاء على الرئيس الفرنسي.
قبل عامين، وصفت صحيفة “واشنطن بوست” ماكرون بأنه مجرد خيال سياسي، مثل سراب تمّ الرهان عليه لوقف زحف اليمين المتطرّف وحماية المهاجرين واللاجئين الذين شكّلوا في السنوات الأخيرة حطباً للمعارك الانتخابية في أوروبا بين سياسيين وتيارات سياسية تفتقد إلى الخيال والإبداع في تقديم حلول حقيقية لأزمات المجتمعات الأوروبية، ما يعكس ترهل المشهد الحزبي خصوصاً بعد وصول ماكرون إلى قصر الإليزيه.
تسود قناعة بأن الانتكاسات الانتخابية للتيارات السياسية التقليدية والنجاحات التي يحققها اليمين المتطرّف إنما هي حاصل التحوّلات المفصلية للمجتمعات المعاصرة التي اكتملت عندما تحوّل العمل إلى مجرد وسيلة للعيش وليس الحياة، وتحوّل الحكم من رؤية سياسية فكرية وتنظيمية، تعكس مجموعة من القيم، مثل العدالة والإنصاف، وتتحقق بفضل سياسيين يمارسون السياسة بمفهومها النبيل، إلى مجرد تقنيات للتدبير والحكامة في حاجة إلى خبراء، وعندما تحوّل الاقتصاد من كونه بحثاً عن الثروة وتوزيعها بشكل عادل وتحقيق الشغل لكل من يطلبه، إلى مجرد فقاعة مالية بحاجة إلى مضاربين ومحاسبين وتكنوقراط يقدّمون أرقاماً للنمو والدخل لا علاقة لها بالواقع المعيش، وعندما تحوّلت المطارحات الفكرية والبرامج الانتخابية من تعبير عن منظومة مؤطرة بسرديات عميقة تقدّم أجوبة عن قضايا الدولة والمجتمع، إلى مجرد “ماركيتينغ” لا فرق عند القائمين عليه بين مسحوق للتصبين ومرشح لرئاسة الجمهورية.
فالجمهور يُخاطَب من خلال الصورة و”القصة” الخبرية، وأساساً من خلال غرائزه وفي صلبها الخوف من المهاجرين واللاجئين، والخوف من أقصى اليمين، والخوف من الإرهاب والتطرّف، وذلك مثل ما حدث في أغلب الانتخابات التي عرفتها أوروبا في السنوات الأخيرة، وتكرّست في الانتخابات الأخيرة. وهذا الخوف تصنعه وتصنع أسبابه الآلة نفسها التي تمثل “الدولة العميقة”، بعيداً من شكليات الديموقراطية.
ما يمثل مشكلة حقيقية اليوم في فرنسا، ليس التنافس في ضفة اليمين واليمين المتطرّف فحسب، وقد أوضحت الانتخابات الرئاسية الأخيرة في فرنسا كيف يمكن وسائل الإعلام أن تساهم في تجديد زعامات اليمين، وخصوصاً المتطرّف، من خلال ما مثله إريك زمور من نموذج، بل تسعى هذه النزعة الشمولية إلى تحويل الإسلام عبر إجماع قسري إلى حالة رهاب جماعية.
برز ذلك بشكل صريح وواضح في عام 2015، عقب الهجوم الإرهابي على مجلة “شارلي إبدو”.
وإن كان كثير من المثقفين قد خضعوا لتلك الأجواء التي عمّت فرنسا، فإن المفكّر إيمانويل تود (Emmanuel Todd) مثّل حالة خاصة، إذ لم يكتف بدور الاستثناء، بل ساهم في تعرية هذا الإجماع الخادع. يقول تود: “يُخطئ المثقف هدفه الأساسي إذا استكان إلى خطاب العامة، ووافق الجمهور في كل ما يذهب إليه صوناً للإجماع الوطني”. قالها في لحظة فاصلة من حياة فرنسا عندما تحوّل الإرهاب في حادثة “شارلي” إلى حافز لإجماع وطني قسري مسيّج بشمولية قاتلة تناقض المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية من حرّية التعبير والرأي، فكان إيمانويل بذلك حالة فريدة، غرّدت خارج السرب وطرحت على فرنسا الشعبية والعالمة أسئلة عميقة تتعلق بالهوية وبالوعي السيوسيوثقافي والديني للمجتمع الفرنسي، وقد جاء ذلك مضمناً في كتابه المثير “من يكون شارلي؟ سوسيولوجيا الأزمة الدينية”.
يقول تود في كتابه الذي تعرّض لهجوم نقدي واسع، إن السوسيولوجيا الدينية تُظهر لنا السمة غير التاريخية للخطاب المناصر للعلمانية الراهن في فرنسا، والمعارض بحدّة للنزعة الطائفية، فهو بشكل ما يحيل إلى ماض، يجزم تود، بقراءة تاريخية علمية، أنه لم يوجد يوماً.
فخلال قرنين، “كانت فرنسا مزدوجة، فقد كانت في آن أماً للثورة وبنتاً للكنيسة، طائفية في الواقع العملي على المستوى المحلي. وتتمثل العبقرية الحقيقية للجمهورية الثالثة في تمسّكها بخطاب عن الوحدة وعدم الانقسام، وفي الوقت نفسه تمارس طائفية براغماتية، أو على وجه أدق طائفية صارت براغماتية بسبب قرن ونصف من الصراعات بين الجمهورية والكنيسة”، إذ في النهاية تعودت ماريان، رمز الثورة الفرنسية، على العيش المشترك مع مريم كرمز للمسيحية.
في إحدى الخلاصات، يؤكّد تود أن المجتمع الفرنسي يواجه مشاكل كثيرة لا يمكن اختزالها في ما يسوّق له اليمين المتطرّف واليمين التقليدي أو الأفكار اليمينية المستجدة، من انتشار الإرهاب الإسلاموي في الضواحي، بل الأمر أوسع من ذلك. فالتركيز على الإسلام يعبّر في الواقع عن “حاجة مرضية” لدى الطبقتين الوسطى والعليا “لكراهية شيء ما أو شخص ما وليس الخوف من تهديد قادم من قاع المجتمع فحسب”. ذلك أن فرنسا، بحسب تود، تعاني أزمة وجودية حادّة وفراغاً روحياً قاتلاً جراء تراجع المسيحية واختفاء الإيمان وسيادة الإلحاد. لذلك فما يحدث اليوم هو أن جزءاً واسعاً من المجتمع الفرنسي يملأ هذا الفراغ الميتافيزيقي بأيديولوجيا جديدة، عنوانها الأساسي الإسلاموفوبيا والتهجّم على الإسلام والمسلمين.
ماكرون، الذي مثّل انتخابه في ولايته الأولى عنواناً لأزمة سياسية تمثلت في نهاية ثنائية اليسار واليمين، وفي المرّة الثانية بوصفه الرئيس الضرورة لقطع الطريق على مرشحة اليمين المتطرّف، يمثل اليوم عنواناً لحاجة ملحّة إلى جمهورية سادسة، ولدفن ما تبقّى من إرث شارل ديغول.