عيون وقحة لا تنام

23 يوليو 2025 17:47

هوية بريس – محمد كرم

في فترات متفرقة و على امتداد القرن الماضي و بداية هذا القرن خبر المجتمع المغربي مجموعة من الموضات، منها ما عمر طويلا نسبيا و منها ما كان صموده محدودا أمام المستجدات المتلاحقة.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، أقبل الكثير من المغاربة المجايلين لأبي و أمي ـ و هم في كامل قواهم العقلية ـ على تزويد أسنانهم أو جزء منها بتيجان من الذهب أو الفضة و اعتبروا ذلك قيمة مضافة لمعايير الجمال الإنساني، و يوم يصل علماء الأركيولوجيا و المنقبون عن الكنوز إلى قبور هؤلاء سيكون بمقدورهم انتشال كميات لا يستهان بها من المعدنين النفيسين المدفونين إما بهدف إحالتها على متاحف بعينها أو لغاية بيعها بسوق المجوهرات أو لصناع الأسنان الراغبين في إعادة تركيبها بأفواه النوستالجيين.

و تزامنا مع هذه الحقبة التاريخية لم يخل أي بيت مغربي تقريبا من صور فريد الأطرش و أخته اسمهان إضافة إلى الرسوم التقريبية للنبي سليمان عليه السلام.

و في عهد لاحق، عقد عدد كبير من المغاربة الذكور ـ و أنا واحد منهم ـ اجتماعا طارئا و موسعا خرجوا منه بتوصية واحدة : ضرورة تثبيت صفيحة بأسفل كعب الحذاء بهدف التميز أولا، و تأكيد الحضور أثناء المشي ثانيا، و منع التآكل السريع للكعب ثالثا. كان الطلب كبيرا على هذه الصفائح التي لم يختلف شكلها كثيرا عن شكل مثيلاتها المثبتة بحوافر الخيول و البغال و الحمير. دامت هذه الموضة مدة لا يستهان بها إلى أن اختفت من تلقاء نفسها في ظروف غامضة.

و قبل حوالي ثلاثين سنة من الآن تم تجهيز معظم الحافلات البرية بجهاز فيديو، الأمر الذي مكن المسافرين من طرد ملل السفر بأن منحهم فرصة متابعة فيلم أو أكثر … بذوق السائق أو مساعده طبعا. للأسف، لم يدم هذا الصنف من التسلية طويلا إذ سرعان ما أحيلت أشرطة VHS على مقبرة التاريخ. و على الرغم من هذا التحول المفاجئ راوحت الشاشات مكانها لكنها ظلت بلا حياة إلى يومنا هذا.

و في نفس الفترة تقريبا طفت إلى السطح ظاهرة “التيليبوتيك”، و هي ظاهرة أسدت خدمات جليلة لعموم المواطنين و مكنت القائمين على “التيليبوتيكات” من الاطلاع عن طريق السمع المتواصل على اهتمامات المغاربة و همومهم، إلا أن بزوغ فجر الهاتف المحمول أرغم المستثمرين في المجال على إغلاق دكاكينهم بشكل تدريجي بعد سنوات قليلة فقط من الكسب السهل و السريع.

أما اليوم، و إلى جانب استمرار موضة جمع “طباسل الطاوس”، فيبدو أننا نعيش أيضا العصر الذهبي لما يصطلح عليه ب “كاميرات المراقبة”. إنها الموضة الجديدة التي اكتسحت البلاد طولا و عرضا في وقت قياسي و تبناها العديدون و اعتبروا وجودها ضرورة لا محيد عنها، بل هناك من لا يستطيع أن يصدق بأن البشرية عاشت لآلاف السنين محرومة من هذا الاختراع المذهل. فأينما يممت وجهك ـ حتى بالأحياء الشعبية و الهامشية و بالقرى الهشة و المتخلفة ـ كن دائما على استعداد للابتسام للكاميرا، و إياك أن تتصرف على نحو يشذ عن السلوكات السليمة من قبيل خدش صباغة السيارات أو رمي الأزبال أو الكتابة على الجدران  أو المتاجرة في الممنوعات أو التحديق في الجمال أو التحرش بالنساء. لقد أصبحت حرية البشر مكبلة بشكل غير مسبوق.

في بداية الأمر ـ و هذا ما يحصل في الغالب ـ يتم التعامل مع هذه التقنية على أساس أنها مجرد لعبة فترى مستعمليها منهمكين في الاستمتاع بتتبع المارة و هم في أوضاع غير سوية أو مخجلة أو بصدد القيام بحركات تفضح حميميتهم. و هناك من عديمي الضمير من لا يكتفي بالتهكم مما يراه  بل و يعمد أيضا من وقت لآخر و في غياب الوازع الديني و الأخلاقي إلى تحويل بعض المشاهد الملتقطة إلى فيديوهات بنية تعميمها لتمكين التافهين من أمثاله بالقارات الخمس من إبداء الإعجاب بها أو السخرية منها أو الاستغراب لها أو التعليق عليها. و كما هو الشأن بالنسبة لباقي اللعب، لابد أن يفتر الحماس المرتبط باستعمال هذه “اللعبة” مع مرور الوقت (دون أن يعني ذلك بالضرورة دخول تسويقها مرحلة الكساد) ليكتشف المرء في مرحلة لاحقة بأن الترويج لهذه الموضة الجديدة لم يكن في الأصل سوى محاولة إضافية لتكريس العادات الاستهلاكية و خلق فرص اقتصادية و تجارية جديدة.

و إذا كانت هذه الكاميرات قد خففت فعلا العبء عن الأجهزة الأمنية بكل تلاوينها و سهلت مهامها في تعقب المجرمين و في جمع المعطيات و توثيق الحوادث على اختلاف درجة خطورتها و خاصة بالمرافق العامة و بالفضاءات المفتوحة التي تستقطب الناس بأعداد كبيرة فما الذي يبرر اللجوء إليها بعمارة تتوفر على بواب مثلا أو بشوارع يتناوب على تأمين أمنها حراس الليل و النهار أو ببلدات و قرى تعج بالمخبرين و الجواسيس الهواة ؟

و على افتراض أنك اكتشفت بأن أحد المارة قد تجرأ أثناء نومك لدوافع بيولوجية قاهرة على التبول على سور بيتك الخارجي و أن الكاميرا لم ترحمه بأن وثقت سلوكه المشين، كيف سيكون رد فعلك يا ترى؟ هل ستربط الاتصال بجهة من الجهات الأمنية حتى تنتقل على وجه السرعة إلى مسرح الجريمة للقيام بالمتعين ؟ هل تتوقع أن تقوم الشرطة أو الدرك الملكي بتعميم مذكرة بحث وطنية في محاولة لإلقاء القبض على الجاني و تسليمه للعدالة لتقول كلمتها في حقه ؟ هل الإنتربول سيدخل على خط التحقيقات هو الآخر إذا اتضح بأن صاحب الفعلة أفلح في مغادرة التراب الوطني ؟ و في حال تم تحديد مكانه بإحدى الجزر بالمحيط الهادي أو الهندي هل ستتولى السلطات المحلية ترحيله حتى يتسنى لسلطات بلده إرغامه على إعادة تمثيل جريمته و تعطير مسقط بوله ؟

و على افتراض أن سيارتك تعرضت للسرقة، هل ستعول على الكاميرا لمساعدتك على استردادها ؟ بعبارة أخرى، هل تعتقد بأنه بمقدور هذه العيون الاصطناعية النزول من برجها العاجي و الركض وراء السارق للإمساك به و تسليمه “حيا” إلى المصالح الأمنية ؟ ما الفائدة إذن من اقتصار دور كاميرات المراقبة على إخبارك بأن جريمة سرقة قد اقترفت على بعد سنتميترات من باب مسكنك من لدن شخص يشبه في شكله العام معظم خلق الله ؟

و على افتراض أن الكاميرا كانت حاضرة بكل حواسها عندما ودع خطيب ابنتك خطيبته على أعتاب بيتك بوضع قبلة على شفتيها، فهل ستضيف إلى عار اللقطة عار الاصطدام بنجلتك المصونة و خطيبها المندفع المتهورمع إمكانية فسخ الخطوبة ؟ أليس الجهل بالشيء أفضل من العلم به أحيانا ؟

و على افتراض أن التسجيلات المخزنة تفيد بأن جارك العازب طرق باب شقتك في غيابك لسبب ما (ربما فعل ذلك فقط  بهدف طلب شيء من الكمون أو طمعا في الحصول على حبة من أحد مسكنات صداع الرأس)، فهل ستعتبر ما جرى حدثا عاديا أم أنك ستعطي الفرصة للأوهام و الوساوس لتفعل بك ما تشاء ؟

هناك سيناريوهات كثيرة أخرى كلها توحي بأن الناس ما يزالون مسكونين ـ حد الهوس أحيانا ـ بهاجس التعرف على كل ما يجري بمحيطهم (تحركات أهل الجوار و زوارهم  و تجمعات الأطفال و مغامرات المراهقين  و حركة شاحنات الرحيل و عربدة السكارى و المنحرفين …) لكن بطرق حديثة تنطوي على وقاحة صارخة.

لقد أضحى التشريع المناسب في المجال حاجة ملحة، إذ لا يعقل أن تتابع انطلاقا من مطبخك أو غرفة نومك أو مرحاضك كل ما يعرفه زقاقك أو إقامتك السكنية من حركات و سكنات لا لشيء إلا لتزجية الوقت أو لإشباع رغبة مرضية لديك في التحسس و التجسس بل و التلصص أيضا و خاصة إذا كانت أخلاقك و تركيبتك النفسية و التربية التي تلقيتها لا تؤهلك للتحلي بما يكفي من الشجاعة و الشهامة للتدخل عند الاقتضاء بهدف الحيلولة دون حدوث جريمة أو كارثة على وشك الوقوع.

لا أملك من الشك أدناه بأن كاميرات المراقبة تعتبر أداة ردع فعالة و قد تفيد فعلا في التحقيقات في حال وقوع جرائم معينة. لكن، كم هو عدد الجرائم التي لولا الاستعانة بتسجيلات الكاميرات ما كان للغزها أن يفك أبدا ؟ و هل عاش المحققون الجنائيون في عجز تام قبل أن يخرج هذا الجهاز العجيب للوجود ؟ و هل تعتقد، عزيزي القارئ، بأن المجرمين المتمرسين تعوزهم الحيل للالتفاف على المستجدات الإلكترونية المصممة خصيصا لمنع الجريمة ؟

ليس هناك ما يثبت بأن وجود عشرات الكاميرات بملاعب كرة القدم قد وضع حدا لظاهرة الشغب الرياضي، و بأن تثبيتها بمحاور طرقية عدة قد عالج معضلة حوادث السير أو ظاهرة الاعتداء على مستعملي الطرق، و بأن تركيبها زاد من منسوب طمأنينة المواطنين و سكينتهم، و بأن الساكنة السجنية قد تراجع حجمها بشكل ملحوظ مذ أصبح الناس في مرمى عيونها و بأن جدل الاكتظاظ و العقوبات البديلة قد انتهى. إن الشخص العازم على ارتكاب جناية أو جنحة أو مخالفة أو فعل لا أخلاقي لن يعير لوجود الكاميرات أدنى اهتمام و لن يسمح لأي عائق بأن يقف في طريقه للوصول إلى غايته، و هذا أمر مثير للسخرية مادام الردع في هذه الحالة يتوقف عند التوثيق فقط و مادام الهدف المنشود ـ أي تحقيق نسبة صفر جريمة ـ يظل بعيد المنال.

نعم لنصب الكاميرات لاعتبارات ترتبط بحماية الأرواح و الممتلكات و التجهيزات الخاصة و العامة و لكن دون مبالغة و بشكل سري إلى حد ما مع توفر إمكانية التدخل السريع قبل فوات الأوان، أما استعمالها من باب الاستئناس لا غير مع إعطاء الانطباع بأننا نعيش ببلد لا تختلف أوضاعه الأمنية في شيء عما هو حاصل بالصومال و هايتي و شمال مالي و شرق جمهورية الكونغو الديموقراطية فهذا يضعنا أمام حالة طوارئ كاذبة.

نعم أيضا لاستغلال هذه الوسيلة لتتبع ما يحدث بمرافقنا و منشآتنا الاستراتيجية و لحماية حدودنا … لكن لا يعقل أن يعمد صاحب محلبة مثلا إلى تثبيت أربع كاميرات داخلية و ثلاث كاميرات خارجية لا لشيء إلا للتأكد من أن عمليتي الأداء و “إرجاع الصرف” قد تمتا بالفعل و على نحو موثق وسليم أو لإثبات عدد حبات البيض المسلوق و قطع “الحرشة” المستهلكة في حال وقوع نزاع بين الحلاب و أحد زبنائه !!!!!!!

… و كان الله في عون من يمارس عملا مؤدى عنه و هو يعلم بأن رئيسه أو رب عمله له دائما بالمرصاد انطلاقا من حاسوبه بمكتبه أو من محموله ببيته أو بأية نقطة جغرافية داخل الوطن أو خارجه.

مقارنة ختامية :  لقد أضحت عدسات كاميرات المراقبة أشبه بعيون القطط. الفرق الوحيد على ما يبدو هو أن عدد زوايا النظر لدى هذه الحيوانات الأليفة يفوق بكثيرعدد مثيلاتها بالكاميرات المعمول بها حاليا (بما فيها تلك المنتمية إلى الصنف الذكي)… و لحسن حظنا أن القطط لا تتكلم، و لو أنعم الله عليها بلسان ناطق لتسببت في مآسي عائلية و اجتماعية لا حصر لها !

 

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
7°
19°
السبت
20°
أحد
20°
الإثنين
19°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة