عِبر من كتاب “تزممارت الزنزانة رقم 10”
هوية بريس – هدى محمد
اسم الكتاب وحده كفيل ليكون الاختصار والدلالة الجلية للقضية التي سيتناولها في طي صفحاته! “تزممارت” الكلمة التي تبعث الرعب في نفوس المغاربة بمجرد ذكرها فكيف بمن عاش بين جدرانها؟ إنه المعتقل الغني عن التعريف ولمن يجهله من غير المغاربة فهو نسخة عن سجن أبو غريب بالعراق. لا أدري إذا ما صُنف الكتاب كسيرة ذاتية أو شهادة تاريخية أو عمل أدبي.. وأظنه قد جمع بين كل تلك التصانيف فهو عمل أورد فيه السيد أحمد المرزوقي تفاصيل حياته من طفولته إلى اللحظة التي أختتم بها الكتاب وقد تزامن هذا مع سرده لتواريخ الأحداث والواقع السياسية التي عاينها بصفة شخصية والمغرب بصفة عامة في تلك الحقبة وجعل كل ما أورده يزخر بأساليب لغوية وأدبية جميلة لن توقع القارئ في فخ الملل سيما أنه ليس كل القراء مهتمون بالسياسية وما جاورها.
وبصراحة لم أهتم لشهادته التاريخية بقدر ما شدتني المعاناة التي لقيها في المعتقل.. المعاناة الرهيبة التي أتصور أنه لا يوجد أي كائن مهما بلغت قسوة قلبه أن يتقبلها! شيء فوق الوصف وتعجز عنه كل الكلمات وقد حاول الكاتب أن يوصلها مع اعتذاره عن التقصير في نقل ما عاشه في المعتقل ورغم ادعائه هذا التقصير! فسوف يدخل القارئ أيضا السجن ويُعيشه مشاعر الأسى والجور ويدخله عوالم من الوحشية التي لقياها والتي لم يكن يتصور وجودها ويٌعرفه أصناف من البشر لا يصف قسوة قلوبهم إلا قوله تعالى: “فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً” وحتى الحيوانات ستكون أشد رحمة من الجلادين بل لا مجال للمقارنة! كما أخبر في مواقف لهم مع هذه المخلوقات أبانت على كرامات ومعجزات غريبة خففت من وطأة معاناتهم، لتعرف في النهاية أن جهنم لم تخلق عبثا!
ثم يخبرنا هذا المعتقل السابق كيف صبر على هذه الأهوال وأعني بالصبر البقاء على قيد الحياة فتجاوز حدود المعتقل بأنفاس باقية إنجاز عظيم أيما عظمة! وكيف صبر على موت رفاقه الواحد تلو الآخر في ظروف مُرة ونهايات مؤلمة حتى أنهم عانوا حتى بعد موتهم فلم يُغسلوا ويكفنوا كباقي المسلمين فضلا على الصلاة عليهم. كيف صبر طوال 20 سنة بملابسه الصيفية التي جاء بها والتي التصقت بجلدهم يوم أرادو تبديلها أو بالأحرى انتزاعها فاستُعين بالمقص! ناهيك عن عدم الاغتسال والأكل الذي تعيفه الكلاب قبل البشر. والمعاملة المهينة، كيف صبروا هم المظلومون! كيف صبروا وقد أفنوا الشباب ظلما وعدوانا.. كان السر: القرآن الكريم الذي أدخل لهم خلسة وكأنه سلاح محظور وجريمة لا تغتفر. يقول الكاتب في البدايات كنا نعبد الله خوفا ثم انتهينا نعبده حبا! الإيمان الصادق حول ذلك الجُحر اللعين والقبر المنسي إلى شحنة من الصبر ليس هيِّنا أن تمر بظروف عصية على الوصف ثم تقول في النهاية نعبد الله حبا، والصدق أصبحنا نرى من يمر بأهون الابتلاءات ثم يكفر أو يلحد جاحدا بنعم لا تحصى مستنكرا مصيبة هينة تصيبه نسأل الله السلامة والثبات.
الجميل في الكتاب أيضا أنه يشعرك بالنعم التي أصبحت من المُسلمات وقد نتغافل ولا نعدها نعمة! الطعام الذي تتضجر منه لأن والدتك أو زوجتك أعدته يومين متتالين كان منتهى أحلام هؤلاء المعتقلين، ولا شك أنه هناك الملايين حتى هذه اللحظة يشتركون في نفس الحلم، والماء الذي تهدره في التوضؤ كان حصيلة المساجين أنذاك فيه شرابهم وغسلهم واستعماله للمرحاض أيضا وقد عانوا كثيرا مع هذا الأخير حتى أن زنازينهم أصبحت بركًا من الماء الحار. ونعمة النـور والنظر للسماء الزرقاء البهية والعصافير الشادية (أذكر أنني كنت دائما أسدل ستائر غرفتي في الصباح وأرفعها في المساء لأنني لا أحبذ الإنارة القوية لكنني تبت عن هذا الاعتقاد بعد قراءتي للكتاب فرفعتها وأنا أستشعر جمال هذه النعمة ولطائف الرحمن علينا بها) تخيل أنهم حرموك من رؤية السماء حتى صارت حلما بعيدا أبعد من ارتفاعها عنا اللهم إلا ثقوبا ضيقة في الجدار تزيد في القلب حسرة والعين ضيقا!
ويذكر أن أحد السجناء المحظوظين حظا عظيما “لزواجه من أمريكية ستكون السبب في الإفراج عنهم” كان يسمح له في فترة من الفترات بالخروج للتنزه في ساحة المعتقل، وبالرغم من أن تزممارت في صحراء قاحلة مقفرة كان يعود المسكين وهو مبهور منتشيا بجمال السماء وبهاء الصحراء ونسيم هواء الصحراء اللفوح.. ثم سيأتي الفرج وتبدأ رحلة النضال التي لم تكن هينة فقد أحس الكاتب أن عشرين سنة برتابتها عنده قد غيرت الكثير الكثير.. من ملامح الأشخاص انتهاء بالقيم وعلى سبيل المثال لا الحصر كيف للأسرة أن تشاهد مجتمعة التلفاز وهو يبث امرأة بصدر نصف مكشوف؟ غرق في الخجل وتظاهر بعدم الاكتراث حتى وضح عليه الارتباك وأصدر انفعالات لينبه الجلوس بتغير المحطة لكن لم يفطن له إلا أخوه الذي أخبره ضاحكا إن الوقت تغير!
ومن تبعات رحلة النضال أنه جاهد للعودة للدراسة! وتخلفه عن الركب عشرين سنة تطلب منه مجهودات مضاعفة متحديا بذلك عامل السن الذي سبب له في غير مناسبة الإحراج، وسمعته كعائد من جحيم تزممارت ومضايقات المخزن.. وبهذا يلقننا درسا آخر في المثابرة والجد والحرص على التعلم في أحلك الظروف، فكم من مجد ترك الجمل بما حمل لرسوبه سنة واحدة! وكم من قارئ ترك القراءة أبداً ربما لضيق الوقت أو استعسارها عليه.
المرزوقي علمنا أن كل الحجج تظل واهية وتبدد أمام الإصرار، كيف لا وهو الذي اجتاز البكالوريا بعد كل تلك العوائق وتعداها إلى الإجازة في القانون الخاص بالرغم أن الظروف لم تَلن له قط وزاد الأمر عسرا قلة ذات اليد وكونه عالة على عائلته المعوزة.
درس أخير أشير إليه والذي أثار استغرابي حقا وإعجابي بشخصيته هو استمراره في السعي لإنصاف المعتقلين بالرغم من أن كل التعويضات ستظل صاغرة أمام سنوات الألم التي عانوها حتى بعد الحرية، المرزوقي لم يتكتم على تلك التجاوزات بل عرض نفسه ثانية للاعتقال والعودة للمعتقل وظل يناضل لأجل أرواح الرفاق الذين قضوا ولأجل إعلاء حقوق الإنسان في هذا البلد ولأجل أن لا تتعرض الأجيال المقبلة لنفس المصير غير عابئ بالتهديدات، فالحق حق ولو على حساب الروح عنده!
نهاية: أنصح بقراءة هذا الكتاب الذي لا يُندم على اقتنائه، وللاستزادة هناك سلسلة على اليوتيوب من برنامج “شاهد على العصر” يحكي فيها أحمد المرزوقي تلك الوقائع بتفصيل أكثر.
دام الإيمان حِل بهذا الوطن، ودام الاستقرار ما دامت جباله قائمة، ودامت الحُرية ما دام بساط بحاره ممتدا يعانق رحاب سمائه الزرقاء، دمت يا وطني كما تشاء رحمة الله وتشاء أفئدة المغاربة الوطنيين.