غزو المغرب.. العمليات العسكرية في جريدة السعادة الصادرة منذ سنة 1904 بتمويل فرنسي (ج1)
هوية بريس – ذ.إدريس كرم
العمليات العسكرية مقدمات ونتائج (جريدة السعادة 24 ماي 1922)
كل من يمعن النظر فيما توالى نشره بهذه الجريدة ويتتبع بالتدقيق ما نكتبه فيها من الفصول تحت عنوان (أنباء سياسية) يتضح له أن إنجاز برنامج العمليات العسكرية سائر في جزئياته وكلياته سيرا مطردا بغاية الضبط والتدقيق.
وغير خفي على القراء الألباء أن ذلك البرنامج الذي وضعه سعادة المشير ليوطي طبق رغائب الجلالة الشريفة وأوضح الغاية المراد منه في خطبه الرسمية وفي مذاكراته مع رجال الحل والعقد أثناء إقامته بالبلاد الفرانسوية مؤسس على قاعدتين اثنتين: أولهما سلمية والأخرى حربية، وإن شئت فقل إن إنجاز ذلك البرنامج سائر بطريقتين يمكن حصرهما في كلمتين وهما: (طوعا) وإلا فـ(كرها)، فالقائم بتنفيذ الأولى مكاتب الاستعلامات بمساعدة ذوي المكانة والوجاهة من المخلصين في خدمة المخزن السعيد، والقائم بأعباء الثانية الجنود الفرانسوية المغربية معززة بأبطال القبائل وأنصار المخزن.
وتفصيل ذاك أنه كلما أريد توسيع نطاق النفوذ المخزني ونشر راية الأمن في ربع من الربوع النائية، تبدأ مكاتب الاستعلامات ويبدأ معها ذوو الكلمة المسموعة من أبناء البلاد بالمخابرة مع القبائل المتساكنة في تلك الجهة، وذلك بمراسلة كبرائها وزعمائها وذوي النفوذ فيها.
فيدعونهم أولا للالتفاف حول الراية اليوسفية، ويبينون لهم ما في الرجوع إلى جادة الصواب والإخلاد للسكون من الفوائد الجمة، ويضربون لهم الأمثال في ذلك بالقبائل الكثيرة التي سبقتهم للدخول تحت الطاعة فعمها ما عم الجماعة من التمتع بعطف جلالة السلطان، الكفيل بسلامة الأموال والأبدان، وقطف ثمار الأمن والأمان، العائدين على البلاد والعباد برغد العيش والرفاية والعمران، ويحذرونهم ثانيا مغبة تماديهم في الشغب المفضي بهم إلى اغتراب غارب النصب وإتلاف بقيتهم الباقية في النفوس والنشب، وما ينجر مع ذلك كله من غضب الرب، الذي أمرنا بالانقياد لولاة أمورنا كما جاء في صريح قوله جل من قائل: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم)، ولا يخفى ما تقتضيه القاعدة الأصولية من أن الأمر إذا أطلق ينصرف إلى الوجوب.
فإن ارعووا بعد هذا الإنذار فذاك، وإلا فإن القوات العسكرية المظفرة وصناديد الأبطال من أنصار المخزن السعيد يتمثلون إذ ذاك بقول المتنبي: (السيف أصدق أنباء من الكتب)، ثم يزحفون عليهم بخيلهم ورجلهم ويعاقبونهم العقاب الصارم الزاجر لهم ولأمثالهم عن الاسترسال في الغواية والتمادي والضلال.
على أن الطريقة الأولى قد كان لها التأثير الفعال في كثير من القبائل، فأتت طائعة من تلقاء نفسها بعدما علمت وتحققت عجزها عن مقاومة الجنود الأبطال الذين لا يصطلى لهم بنار، ولا يشق لهم في ميدان البسالة والإقدام غبار.
ولا غرو فهم حماة الدين وسلاح مولانا أمير المومنين المجرد لقمع الفتنة وقطع دابر المفسدين، فكيف لا يكون النصر معقودا بألويتهم والحال أنهم قائمون بهذا الفرض المقدس الذي لا ينكر وجوبه إلا من ختم الله على قلبه وجعل على بصره غشاوة.
وها نحن نرى في كل يوم لهذه القوات المظفرة من المآثر الجليلة ما نسجله على صفحات (السعادة) بقلم التنويه والفخر، ويرن صداه في سائر أنحاء القطر ويحفظه التاريخ المغربي مدبجا بعبارات الثناء والشكر.
وكفانا الآن شاهدا وبرهانا ما هم قائمون به اليوم في ناحية تازا وناحية تادلا وجهات أخرى من الأعمال التي لا تقل أهمية عما نريد ذكره فيما يلي:
ففي ناحية تازا ثلاث حملات جوالة كل واحدة منها جيش جرار قائم بذاته وله من العدة والعدد ما لا يحصى ولا يعد، الأولى عاملة من جهة الجنوب وقاعدتها مركز (ميسور)، والثانية عاملة من جهة الجنوب وقاعدتها مركز (تازوطة)، والثالثة عاملة في أعالي نهر الملوية.
وإذا ألقيت بصرك على الرسم الجغرافي لتلك الجهة تتراءى لك بين النقط الثلاثة السالفة الذكر جبال الأطلس الأوسط التي انزوت بقممها الشاهقة زمرة من العصاة الباقية من بني وراين ومرموشة وآيت يوسي وسغروشن.
وقد قررت القيادة العسكرية أن تزحف الحملات الثلاثة المتحدث عنها على صياصي تلك الجبال وتقتفي أثر المتمردين وتضيق عليهم الخناق من جميع الجهات وتسد في وجوههم سائر المنافذ حتى يروا رأي العين أن لا نجاة لهم إلا بالاستسلام والدخول تحت الطاعة.
فالحملة الجنوبية انقضت على المحل المسمى الميس بناحية مرموشة لتوطيد أمن السبل المارة على ضفاف الوادي المسمى شوف الشرق، وما هي إلا ساعة أو أختها حتى سقط ذلك المحل المسمى الميس في قبضة الجنود بعد ما مات من المتمردين نيف وثلاثون نفرا وأسر منهم ثمانية وبقي من بنادقهم ما يناهز الأربعين عدا غنيمة باردة في أيدي الجنود الأبطال.
ومن جهة أخرى فإن الحملة الشمالية المرابطة بمركز تازوطة قد توغلت في تراب قبيلة بني علاهم بدون أن يتظاهر هؤلاء الأخيرون بأدنى مقاومة.
وقد زحفت حملة أعالي ملوية أيضا على المحل المسمى أنجيل فاستولت عليه وتم بذلك فتح ثغرة عظيمة في سلسلة تلك الجبال أي أن الجنود قد اجتازوها من جهة إلى أخرى.
ولا تسأل عما كان لخبر توغل الجنود في تلك الجهات من الرنة العظيمة بين زعماء المتمردين الذين كانوا يعتقدون أن الجبال التي انزووا بها لا يجرأ أحد على الوصول إليها، وقد جهلوا أو تجاهلوا أن السلطة المخزنية ستنالهم ولو تمسكوا بأذيال السحاب.
هذا فيما يتعلق بناحية تازة، أما ناحية تادلة فالحملة الجوالة المرابطة بها قد زحفت في المدة الفارطة مع أشياع المخزن السعيد واستولت على لقصيبة مقر زعيم آيت ويرة الفتان البربري موحا واسعيد فكان الاستيلاء عليها سببا في تشتت جموع المتمردين الذين كانوا ملتفين حول الزعيم المذكور، بحيث أن أنباء الحملة العامة هناك صارت تأتينا كل يوم بخبر انتصار جديد وزيادة توغل في الأصقاع البربرية، وبناء نقط استحكام متعددة النواحي المشرفة غاية الإشراف على البقية الباقية من الجبال لتكون دائما هدفا للمدافع مثل مركز تيغسالين وتيتغالين وغيرهما.
ومما هو جدير بالذكر في هذا المقام أن نجل الزعيم المشار إليه وهو البطل المغوار القائد علي قد شارك بنفسه في الهجوم على لقصيبة وكان من أول الداخلين للمعقل الذي فر منه أبوه.
ولقد أشهر القائد علي المذكور وكذلك جميع أنصار المخزن السعيد من زيان وأبي الجعد وغيرهما شجاعة ناذرة المثال وعلى الأخص الزعماء الصناديد أنجال القائد الزياني المشهور موحا وحمو وهم السيد الحسن والسيد بوعزا والسيد أمهروق.
وبناء على الانتصارات المتوالية المنوه بها أعلاه فلا يستبعد القارئ أن نبشره في مدة قريبة جدا بخبر تمام الاتصال والارتباط بين الحملات العاملة في ناحية تازة والحملة العاملة في ناحية تادلا ويكون التقاء الطرفين بمضيق تيزي آن معاشو الواقع على مسافة قريبة بين المحل المسمى أغبالو آن سردان حيث توجد الحملة العاملة على نهر الملوية وبين المحل المسمى تنتغالين حيث توجد الحملة العاملة بناحية تادلة.
ولا يخفى ما في اتصال الجنود بتلك الجهة من الفوائد الجمة التي ستعود على الإيالة الشريفة من الحيثية الاقتصادية لأن هاتيك الجهات شهيرة بغاباتها وما فيها من ينابع الأودية وشلالاتها التي لا تلبث الحكومة أن تسخرها لتوليد القوة الكهربائية بعد استتباب الأمن في تلك الربوع.
ونقل مراسلنا من بني ملال أنه عندما زحفت الحملة وأشياع المخزن على لقصيبة مات عدد كبير من المقاومين، بقيت جثثهم متراكمة أمام معسكر الحملة، فكتب سعادة باشا بني ملال بوجمعة بن مبارك المسفيوي إلى الزعيم موحا واسعيد قائلا له أن يرسل من قبله من يجمع أشلاء ذويه، وقد تأثر هذا الزعيم تأثرا عظيما من صنيع سيادة الباشا وأرسل في الحين من جمعوا جثث الموتى.
بقي علينا القول بأن العمليات العسكرية ساهرة على استتباب الأمن الذي تمهده مكاتب الاستعلامات.
نتائج العمليات العسكرية
بعدما كتبنا الفصل الرئيسي المنشور في صدر هذا العدد وقفنا على تفاصيل مهمة تتضمن بيان نتائج العمليات العسكرية التي ستفضي إلى التقاء الجنود العاملة في ناحية تادلة والجنود العاملة في ناحية تازة حسبما أشرنا له، وفيما يلي تفصيلها:
إن الجنود المؤتمرين بأمر سعادة الجنرال بويميرو قد اقتحموا يوم ثاني عشر مايو سلسلة العمليات المراد منها تحقيق الاستيلاء على جملة النقط والمضايق التي لا بد من المرور بها لكل من يريد عبور جبال الأطلس الوسطى وهي الكائنة فيما بين أعالي نهر ملوية ونهر أم الربيع.
وقد تشكلت لهذه الغاية ثلاث حملات؛ اثنتان من الخيالة وهما العاملتان تحت قيادة سعادة الجنرال تفني وجناب الكولونيل شامبران على ضفاف نهر الملوية بالجهة الغربية من الجبال الممتدة عرضا فيما بين مكناس وأبي ذنيب، والحملة الثالثة عاملة تحت قيادة جناب الكولونيل فريدامبيرك في جهة آيت اسحاق قريبا من المحل الذي يلتقي فيه وادي سرغو مع نهر أم الربيع.
أما النقطة المقررة وصول هذه الحملات الثلاث إليها فهي مضيق تيزي آن معاشو الذي يجب الاستيلاء عليه في آن واحد من جهتي الشمال والجنوب.
ففي اليوم الرابع عشر من الجاري قامت حملة سعادة الجنرال تيفني وحملة جناب الكولونيل شامبران بزحف مزدوج للاستيلاء على الموقع المسمى أغبالو آن سردان الواقع بأسفل مضيق تيزيان معاشو، وقد كان زحف إحدى الحملتين من المحل المسمى اباذراع الواقع على ضفاف وادي انسكمير أحد الأودية التي تصب في نهر الملوية من الجهة اليمنى.
أما الحملة الثانية فإنها باشرت الزحف في ذلك اليوم نفسه من آيت مولي، فاستمرت كل واحدة من الحملتين سائرة في طريقها مطاردة لشرذمة من عصاة بني امكيلد الذين لم يبدوا إلا مقاومة ضعيفة.
وبعد مضي يومين من ذلك التاريخ شرعت حملة جناب الكولونيل فريدامبيرك في الزحف على طول وادي سرغو فتقدمت من آيت اسحاق إلى موقع تينتغالين واستولت عليه بعد ملحمة شديدة مع عصاة أشقرن كانت خسائرهم فيه مقدرة بأكثر من مائة وخمسين قتيلا.
وقبل مواصلة الزحف نحو مضيق تيزان معاشو السالف الذكر أخذت الحملتان الأوليتان في تنظيم موقع أغبالوانسردان وربطه مع المراكز الخلفية بطرقات معبدة ليكون قاعدة لتموين الجنود، كما أخذت الحملة الأخيرة أيضا في تنظيم موقع تينتغالين وتأمين السبل في الجهة الغربية منه.
ولقد اضطرت زمر العصاة بسبب هذا العمل المزدوج الذي يقوم به العدد العديد من الجنود الفرانساوية المغربية إلى التقهقر والانزواء بالناحية التي توجد فيها منابع نهر الملوية، وما دروا أنهم بانزوائهم هنالك وتجمعهم في نقطة واحدة يسهلون العمل للطيارات الواقفة لهم بالمرصاد، إذ يسهل عليها أن تأخذ جمعهم هدفا لرمي قنابلها موقنة أنها لا تخطئ المرمى.
على أن الفتور قد أخذ يبدو على كثير من المتمردين وعلى الأخص في عصاة بني امكيلد الذين صار جميع ترابهم تحت تصرف الجنود، حتى أن من العصاة مناصرون يميلون الآن للدخول تحت الطاعة بل أن منهم من اغتنم فرصة الاضطراب الذي حصل من ذويهم عند تقهقرهم، فبعدما أفلتوا من نير الفتان محمد والحاج المدعي الصلاح والمحرض على المقاومة التجأوا إلى الخطوط العسكرية بجوار أغبالوانسردان ليكونوا تحت حماية الجنود.
(علي الطرابسلي؛ مدير جريدة السعادة).