غشاشون بالوراثة
هوية بريس – ذ. عبد العظيم انفلوس
ككل سنة يثار النقاش القديم الجديد حول الغش في الامتحانات، حينما يقترب موعد الاستحقاقات الوطنية الخاصة بالحصول على شهادة البكالوريا بالتحديد، فيتداخل فيه الاجتماعي بالثقافي بالسياسي بالديني…الخ، ولأننا كمغاربة جريا على عادة العرب جميعا ممن يعتبرون ظاهرة صوتية بالأساس، يكثر فينا الشجب والتنديد، ويكثر الاستياء والنحيب، وكل يلقي اللوم على غيره، وكل يدعي وصلا بالقيم والأخلاق والشرف والنزاهة وتكافؤ الفرص …
غير بعيد عن هذا ولفهم الصورة بشكل أكثر وضوحا وتجليا، يلزم أن يكون كل منا على وعي تام بنفسه وحقيقتها، وأن يصدق مع ذاته بدرجة أولى قبل تمثل المبادئ والأخلاق أمام الآخرين.
لقد أتى علينا حين من الدهر ونحن نتغنى بالقيم والأخلاق وضرورة محاربة الغش والنجاح بالاستحقاق، ونجند في سبيل ذلك من العدة النظرية والأخلاقية والدينية الشيء الكثير، ونعقد في سبيله اللقاءات والتكوينات والندوات والمحاضرات والموائد المستديرة، وقبل مغادرتنا لها، يقتنص كل واحد منا ما يستأثر به لنفسه من قنينة ماء منسية، أو أوراق صالحة للاستعمال متروكة، أو حلوى لذيذة يدسها في جيبه، ثم يغادر لتعميق النقاش افتراضيا حول الغش والخيانة، وأهمية ما تم تناوله في اللقاء والأطروحات المقدمة بخصوص التصدي للظاهرة وهلم جرا…
إن الغش مفهوم ينسحب على مجالات وقضايا كثيرة، فالسرقة غش، والكذب غش، والخيانة غش، والتزوير غش…الخ، وليس من اللائق ولا الصواب ولا المعقول حصره وتضييقه في محاربة ظاهرة تتنامى لدى التلاميذ طول اثنا عشر سنة من الدراسة، ونريد القضاء عليها في ظرف يومين أو ثلاثة من امتحانات البكالوريا.
لقد ران على قلوب الناس ونفوسهم وعقولهم احقية الغش، وتحول لدى الكثير من كونه ظاهرة مرضية خطيرة، إلى حق ينبغي أن يحميه المجتمع ويطبع معه الكل، مستندين في ذلك إلى مغالطة منطقية مؤداها (إذا كان الكل غاشا، فلماذا يتحتم علي أن أكون نزيها)، وينتج عن ذلك آفة أخطر، وهي أن تشاهد وترى من ينتظر منهم محاربة الغش والتصدي له، يساندونه ويدعمونه، ويسهلون سبله ويسعون إلى تيسيرها، في الوقت الذي ينعت فيه محارب الغش بأفظع الأوصاف وأقدح النعوت، بشكل يعكس ترديا قيميا وأخلاقيا غريبا.
كل ما سلف ذكره يمهد إلى تسجيل نقط مركزية في مقاربة ظاهرة الغش، وهي أن:
الغش لا ينحصر في الامتحانات المدرسية ولا يتعلق فقط بالاستحقاقات الإشهادية.
الغش أسلوب حياة لدى فئات عريضة من المجتمع تدعمه بمقولات منتشرة وتسوغ له بحجة الانتشار والتوسع.
الغش مدعوم ممن يطلب منهم محاربته والتصدي له.
وكل هذا يحيلنا إلى محاولة تفكيك هذه الظاهرة وما أورثته على مستوى تصورات الناس وسلوكاتهم، وكون المغالطات المتعلقة بها راجعة بالأساس إلى واقع اجتماعي وثقافي مترد منحط، يتخبط فيه المجتمع ككل، وهو واقع الانتكاسة الأخلاقية والقيمية.
غير أن ذلك كله ليس بمبرر على الإطلاق للتساهل أو التماهي مع الغش، تحت مسميات المساعدة والتيسير وغيرها.
إن من المسلم به أن المدافع عن الغش ليس إلا غاشا، ومن المفروغ منه أن من يدافع عن أحقية التلاميذ في الغش في الامتحانات، لم ينجح ويترقى أو حتى يتوظف إلا باستعمال الغش، على اختلاف وسائله وطرقه، وإن من المحال أن تطلب من الغاش أن يحارب شيئا قد تشبع به وسرى في عروقه منذ سنوات، ليأمر في الأخير بمحاربته أو التصدي له، ذلك أن العقل الباطني للفرد ينساق تباعا لما اعتاده ولما ألفه دون وعي منه أو شعور، بل قد يتفاعل أخلاقيا بشكل نظري مع ضرورة الحد من ظاهرة الغش والقضاء عليها، ويرعد ويزبد في سبيل ذلك، ثم ما يلبث أمام أول اختبار عملي قيمي، أن يتراجع القهقرى ويستمرئ ضرورة الغش بدعوى التساهل كما ذكرنا، أو تحت ذريعة الظروف الخاصة بكل مترشح أو غيره.
وحسبك أسفا وأسا أن ترى أن الفئة الموصوفة سابقا تحسب على رجال التربية والتعليم، ومن يطلب منهم أن يكونوا في خط الدفاع الأول ضد الظاهرة والمتصدين لها، حين تجد أن أكبر الداعمين لها، وإن بشكل خفي دون إظهار أو إعلان هم الفئة نفسها، فكيف والحالة هذه يسوغ لنا أن نتحدث عن جيل سينقل القيم بالقدوة ويحمل المشعل هو الآخر، ليتخلق بالنزاهة والصدق والأمانة، وكيف يطيب أن تمنح مناصب المسؤولية والأحقية في القيادة والتغيير، لمن يرى أن التلميذ علينا مساعدته بشرح أو توضيح أو بيان، أو معلومة أو فائدة يستعين بها في إجابته، لينجح، ويمر إلى المستوى الذي يليه، وهكذا دواليك.
إن مما أنجبه هذا الفكر الطفيلي في أوساط مدارسنا وجامعتنا من الضعف العلمي والمنهجي والمعرفي، هو ما يجني المجتمع آثاره على المدى القريب والبعيد والمتوسط، حين يموت المواطن المريض على يد طبيب نحج بالغش، ويظلم البريء على يد قاض نجح بالغش، ويخان الوطن بأيدي محارب نجح بالغش، وتفشل منظومة على أيدي أساتذة نجحوا بالغش وينشرون الغش بين تلامذتهم ومتعلميهم، عن طريق السماح لهم بالغش والتغاضي عنه، والتجاوز عنه.
فلا يستغربن الناظر إلى مؤشرات التقدم والرقي بين الأمم، ونتائج الدراسات والإحصائيات التي تتذيل فيها أوطاننا مؤخرة الركب دائما، فما ذلك إلا بتواطؤ الجميع مع الغش وتمريرهم له بغض الطرف عن الغاش، وترك عقابه، والحيلولة بينه وبين غشه.
ولا يحسبن أحد أن ما يتم التلاعب به من العبارات والألفاظ التي تلامس أحاسيس الفرد أحيانا، وتستهدف فيها مشاعر الخير والرأفة والرحمة في القلوب، هو من قبيل المسلم به والمفروغ من النقاش حوله، فليس ثمة أبوان حقيقيان يرضيان أن ينجح ابنهما بالغش الخيانة في الامتحان، وليس ثمة نجاح يمكن أن يفرح به غاش أو خائن، وهو لا يرى في حقيقة نفسه أنه يستحقه، والمنكر والمحرم دينيا لا يكون مباحا وحلالا فقط لأن الكل يفعله أو لأن الجميع يرتكبه، فلو كان من على الأرض جميعا يكذبون أو يسرقون، فلا أحد ممن له مسكة عقل وتفكير سيقول بأن الكذب والسرقة أمر حلال أو مباح، ليس فقط لأن الجميع يفعله، وقس على ذلك الغش.
إن منطق التعامل مع هذه الآفة التي تنخر المجتمع وقيمه وأخلاقه ودينه، ينبغي أن ينبني على الضرب بيد من حديد، على كل من تسول له نفسه الغش أو التسويق له أو التبرير له، وأن ينطلق ذلك من تدشين مراجعات عميقة متجذرة في أصل ثقافة الغش في المجتمع ومبناها ومعناها، وكذا مختلف تجلياتها وتمظهراتها، ليتسنى بذلك التنزيل الأمثل لمقتضيات محاربتها أخلاقيا وقانونيا وزجريا، أما والحالة أن الجميع يغض الطرف عن الغش ويتساهل معه، فليس إلا دليلا على تجذر الغش وتأصله في النفوس، وأننا غشاشون بالوراثة.