فائدة لغوية نفيسة من القرآن الكريم
هوية بريس – أحمد بن محمد الحمزاوي
في قوله – تعالى – :{ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } [ النساء:6] بضميمة قوله – تعالى – : { وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ } [ الأنعام: 35] فائدةٌ من نفائس اللغة ودقائقها، وهي: أن التقدم في السن والكِبَر في العمر، يقال فيه: ” كبِر الرجل ” بكسر الباء في الماضي، ” يكبَر ” بفتحها في المضارع، وأن الكِبَر بمعنى العظمة في الأجسام والمعاني يقال فيه: ” كبُر الشيء ” بضم الباء في الماضي، ” يكبُر ” بضمها في المضارع، أيضا.
فيقال مثلا: يكبَر الإنسان – بفتح الباء – ويكبُر معه أمله، بضم الباء. ويكبَر الأولاد، وتكبُر مسؤولياتهم، وكلما كبِر الإنسان – بكسر الباء – كبُر همه، بضم الباء، وضعف عزمه. وهكذا.
ولا يجوز استعمال أحد الفعلين في المعنى الآخر، وهذه التفريق لا تكاد تسمعه في عصرنا على الوجه الصحيح إلا في النادر القليل.
فإن قلت: قد عرفنا أن المضارع من ” الكبر ” بمعنى الطعن في السن هو بفتح عينه “الباء” من قوله – تعالى – : { أَنْ يَكْبَرُوا }، ووقفنا على أن الماضي من “الكبر” بمعنى العظمة في الأجسام والمعاني هو بضم عينه “الباء” من قوله – تعالى – : { وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ }، فيكف عرفنا من الآيتين الكريمتين أن ماضي الأول هو “كبِر” بكسر الباء، وأن مضارع الثاني هو “يكبُر” بضم الباء؟
فالجواب: أن يقال:
أما الأول: فلأن المضارع “يكبَروا” الذي عرفنا فتح عينه من نص الآية الأولى، لا يخلوا ماضيه من أحد ثلاثة أوجه: أن يكون “كبُر” بضم الباء، أو “كبَر” بفتحها، أو “كبِر” بكسرها، فيمتنع قطعا أن يكون “كبُر” بالضم؛ لأن مضارعه لا يكون إلا بالضم قياسا مطردا، لم يشذ منه شيء إلا أن يكون من تداخل اللغات، ويمتنع أن يكون “كبَر” بفتح الباء؛ لأن القياس في مضارع “فعَل” الصحيح بفتح العين أن تكون حركة عين مضارعه مخالفة لحركة عينه، فيكون إما على “يفعِل” بالكسر، كضرَب يضرِب، وإما على “يفعُل” بالضم، كنصَر ينصُر، ولا يكون مفتوح العين كماضيه إلا إذا كان حلقي العين، أو اللام، كسأَل يسأَل، وذهَب يذهَب، ، وكنزَغ ينزَغ، ونزَع ينزَع، ونصَح ينصَح، على تفصيل في كل ما تقدم، ليس المقام مقام إيراده.
وإذا بطل وجها الضم، والفتح، تعين الوجه الثالث، وهو أن يكون ماضيه “كبِر” بالكسر؛ ولأن القياس في “فعِل” بكسر العين، أن يكون مضارعه بالفتح، كعلِم يعلَم، وركِب يركَب، وحمِدَ يحمَد. نعم، شذّ عن ذلك أفعال محفوظة، لكن ليس منها “كبِر”.
وأما الثاني: فلأن الماضي “كبُر” عرفنا ضم عينه بنص الآية، وإذ عرفنا ذلك فضمُّ مضارعه في اليد؛ لأن “فعُل” بالضم لا يكون مضارعه إلا مضموم العين قياسا غير منخرم، ككرُم يكرُم، وحسُن يحسُن، وجمُل يجمُل. هذا ما يقتضيه القياس التصريفي، لو لم يرد منصوصا، فيكف وقد جاء منصوصا في قوله – تعالى -: { أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } [الإسراء: 51].
وهذا من محاسن علم التصريف، وفوائده، التي لا تعد ولا تحصى.
[ استطراد في توكيد منزلة علم التصريف ]
قال السمين الحلبي في إعراب قوله – تعالى – : { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ }[الغاشية:5].
( قوله: { آنِيَةٍ } : صفةٌ لــ «عَيْنٍ» أي: حارَّة، أي: التي حَرُّها مُتناهٍ في الحرِّ، كقولِه: { وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [الرحمن: 44] . وأمالها هشامٌ؛ لأنَّ الألفَ غيرُ منقلبةٍ عن غيرِها، بل هي أصلٌ بنفسِها، وهذا بخلافِ { آنِيَةٍ } في سورة الإِنسان – يعنى قوله: { ويطاف عليهم بآنية } – فإنَّ الألفَ هناك بدلٌ مِنْ همزة؛ إذ هو جمعُ إناء، فوزنُها هنا فاعلِة، وهناك أَفْعِلَة، فاتَّحد اللفظُ، واختلفَ التصريفُ، وهذا مِنْ محاسنِ علمِ التصريف ) ” الدر المصون 10 /766″.
انتهى الاستطراد.
ثم إن هذا الذي قررناه من التفريق بين “كبِر” بكسر الباء، و”كبُر” بضمها، هو الذي عليه معاجم اللغة، ودواوينها.
قال الجوهري: ( الكِبَرُ في السنّ، وقد كَبِرَ الرجل يَكْبَرُ كِبَراً، أي: أسن، ومكبرا – أيضا – بكسر الباء. ويقال: علاه المكْبِرُ. والاسم الكَبْرَةُ بالفتح. يقال: عَلَتْ فلاناً كَبْرَةٌ.
وكَبُرَ بالضم يَكْبُرُ، أي: عَظُمَ، فهو كَبيرٌ وكُبَارٌ. فإذا أفرط قيل: كُبَّارٌ بالتشديد ) ” الصحاح: ك ب ر”.
وقال الفروزأبادي: (وكَبِرَ، كَفَرِحَ، كِبَرًا، كعِنَبٍ، ومَكْبِراً، كمَنْزِلٍ: طَعَنَ في السِّنِّ…
وكَبُرَ، كصَغُرَ: عَظُمَ وجَسُمَ ) “القاموس المحيط: ك ب ر”.
قال الزبيدي شارحا قول الفيروزأبدي: ( فعُرِف من هَذَا أنَّ فِعْلَ الكِبَرِ بمَعْنى العَظَمة ككَرُمَ، وبِمَعنى الطَّعْنِ فِي السِّنِّ كفَرِح. وَلَا يجوزُ استِعمالُ أحدِهما فِي الآخَرِ اتِّفَاقًا، وَهَذَا قد يَغْلَطُ فِيهِ الخاصَّةُ فضلا عَن العامَّة ). ” تاج العروس: ك ب ر “.
تأمل: من هم الخاصة عند مثله في عصره؟
والله المستعان، وعليه التكلان.