فرصة القرن للإقلاع التنموي المغربي وتثمين مكتسبات “الصدمة”
هوية بريس – موسى المالكي *
تتجه أغلب التحليلات والكتابات الحالية، لمحاولة تقييم وتكميم الخسائر البشرية والاقتصادية الناتجة عن صدمة اجتياح فيروس كورونا للخريطة العالمية، وينصب جانبها الآخر على نشر وتقريب وتبسيط طرق الوقاية والعلاج والتحسيس، ومواكبة الإجراءات الدولية للحد من انتشاره.
مع ذلك، يمكن تناول المكتسبات البيئية لكوكب الأرض، وتحويل الأزمة إلى فرصة القرن لتحقيق الإقلاع التنموي الاقتصادي والاجتماعي بالمغرب، عبر جعل اقتصاد المعرفة والذكاء الترابي رافعة لمواجهة تحديات الألفية الثالثة، والتنزيل الأمثل للجهوية المتقدمة.
وقد برهن إحداث الصندوق الخاص بتدبير جائحة فيروس كورونا، بدوره عن عبقرية سياسية، يمكن استثمارها في معالجة القضية الاجتماعية ببلادنا لمرحلة ما بعد الأزمة، ورفع القوة الديمغرافية للبلد.
“كورونا” يتفوق على اتفاق باريس للمناخ والكوكب الأزرق يلتقط أنفاسه
يستحيل إنكار موجة الهلع والخوف، ومشاهد الحزن الإنساني العالمي بسبب ارتفاع عدد ضحايا الوباء لقرابة مليون مصاب، وآلاف الوفيات من بينهم عشرات المغاربة. وتظهر كارثية وفداحة الخسائر الاقتصادية نتيجة تقييد حركية التجارة العالمية، وتقليص القدرات الإنتاجية للبلدان المتضررة. غير أن الانعكاسات البيئية الإيجابية ل”كورونا”، جعلته يتفوق على اتفاق باريس للمناخ على مستوى إرغام الدول على الحد من التلويث والاحتباس الحراري ولو بشكل مرحلي.
ويتيح تراجع انبعاث الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري، فرصة ثمينة للاستراحة البيولوجية للكوكب الأزرق من الضغط الاقتصادي والاجتماعي على موارده الطبيعية. ويتطلب إنتاج معطيات دقيقة حول عدد المصانع والسيارات والطائرات والموانئ المتوقفة كليا أو جزئيا عن العمل داخل اقتصاديات ملوثة كبرى (الصين، الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا، أوروبا الغربية)، وضمن بعض دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
الدولة المغربية تقدم حماية صحة الشعب على تحصين الاقتصاد الوطني وتعيد الثقة بين المواطنين والمؤسسات
اتخذت الدولة المغربية قرارا استراتيجيا حاسما واستباقيا شد أنظار العالم، فتقديم حماية صحة وسلامة المواطنين، خالف توجهات البلدان التي عبرت صراحة عن تفضيل اقتصاداتها، لكنها تواجه اليوم عواقب تفشي الوباء وإحصاء عشرات آلاف الإصابات التي تجاوزت في بعضها 100 ألف مصاب.
وقد حرص الملك محمد السادس بشكل سريع على تعبئة وتسخير مختلف طاقات البلاد لمواجهة الوباء، وأشرف على مواكبة جهود كافة القطاعات (رئاسة الحكومة، وزارة الداخلية، وزارة الصحة، وزارة التعليم العالي، وزارة الاقتصاد والمالية، أجهزة الأمن المختلفة والدرك الملكي والقوات المسلحة،…).
إن ثمار هذا القرار الوطني الشجاع والتاريخي حصنت المنظومة الصحية ووجهت دعما معنويا وماديا للعمال والفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة وتضررا، وأعطت دفعة قوية لجهود تعزيز وتوثيق وإعادة الثقة بين المواطنين والمؤسسات، خاصة بعد مرحلة شهدت فيها بلادنا احتجاجات اجتماعية شملت قطاعات حكومية ومجالات جغرافية متعددة، وتسببت في خيبة أمل لدى بعض الفئات الأكثر تضررا من بعض القرارات الحكومية، وأسهمت في عزوف الشباب عن العمل السياسي.
وتسهل ملاحظة ارتفاع منسوب الثقة وتجدد الأمل لدى المواطنين، من خلال تعدد مظاهر الإشادة بالإجراءات المتخذة، والإجماع على ضرورة الالتزام بتنفيذها، وتقديم صور رائعة ومؤثرة للتضحية والتفاني في العمل (الأطباء، الأساتذة، رجال ونساء الأمن والسلطة، المجتمع المدني، وسائل الإعلام، عمال النظافة،…)، وقدمت العديد من المقاولات المواطنة والطبقة الشغيلة دعما ماديا سخيا وجبت الإشادة به.
وتمثل قيم التضامن المجتمعي وتجدد الروح الوطنية للمغاربة، مكسبا استراتيجيا وفرصة ذهبية وشرط أساسي لتحقيق الإقلاع التنموي الاجتماعي والاقتصادي والإقلاع الجهوي، واستثمار بيئة مواتية وداعمة للرأسمال اللامادي للدولة.
اقتصاد المعرفة والذكاء الترابي في خدمة الإقلاع الاقتصادي لجهات المملكة
تتعدد مسببات تعثر الجهوية المتقدمة ببلادنا رغم التقدم الدستوري والتشريعي والمؤسساتي، إلا أن الانعكاسات على المستوى التنموي الاقتصادي والاجتماعي تظل محدودة. ولعل المغرب اليوم، يحظى بفرصة ذهبية تشكلها الشحنة المعنوية والتعبئة الوطنية لكافة مكونات المجتمع، وفي طليعتهم الشباب للنهوض بالجهوية.
وفتح نقاش وطني يشخص اختلالات قطاعات الصحة والتعليم والإعلام وترتيب الأولويات، ويمثل قوة اقتراحية لإطلاق دينامية جديدة تتماشى مع النموذج التنموي الذي حث عليه الملك محمد السادس، ويستجيب لتطلعات الشعب المغربي، قاطعا الطريق أمام معيقات مسار التنمية والإصلاح ومظاهر اقتصاد الريع وضعف المحاسبة.
إن استطلاع بعض تجارب القوى الاقتصادية الصاعدة، يظهر أهمية اعتماد اقتصاد المعرفة، الذي يشمل أضلاع مثلث “المقاولة-التراب-والبحث العلمي“، ويهدف لتثبيت القيمة المضافة “الثروة” محليا ضمن المجال الجغرافي الذي ينتجها، بما من شأنه تثمين الموارد البشرية وتطوير منظومة الحكامة وآليات الإشراك، وتحسين الخدمات الأساسية الصحية والتعليمية والبنيات التحتية والرقمية.
ويمكن للجهات، حاضنة انطلاق النموذج المغربي لاقتصاد المعرفة، بوصفها مستويات يسهل مقارنة وتقييم النتائج الكمية والنوعية التي تحققها، وقياس قدراتها على إنتاج الثروة محليا وجهويا ووطنيا. وتشترط المقاربة، تعبئة الجامعات، بواسطة التوجيه المباشر للبحث العلمي بمتطلبات التنمية الاقتصادية الجهوية، ومعالجة الإشكاليات الاجتماعية والقيمية، عوض مراكمة أبحاث تبقى حبيسة الرفوف، أو الاستعانة بمراكز دراسات وأبحاث دولية تكلف البلاد أموالا طائلة.
إن المغرب بفضل موقعه الجغرافي المتميز كمجال ربط بين القارة الإفريقية والأوروبية، وفتوته بنيته الديمغرافية، وعبر تثمين قدرات طاقاته الشابة في ميادين المعلوميات والبرمجة والرقمنة والابتكار ونظم المعلومات الجغرافية، يتوفر على جميع شروط التحول إلى قوة اقتصادية إقليمية صاعدة، مستندا على استثمار الخصوصيات والموارد الجغرافية التي تميز كل منطقة وتمثل نقطة قوتها وتنافسيتها، وحريصا على ابتكار آليات للديمقراطية التشاركية وحكامة التدبير المقرون بدعم وتحفيز النتائج الناجحة، والصرامة في محاصرة ثغرات التدبير وتطويق الاختلالات.
صندوق “كوفيد 19” عبقرية سياسية وضرورة استراتيجية لمعالجة القضايا الاجتماعية لما بعد الأزمة وتعزيز القوة الديمغرافية للبلد بشمال إفريقيا
إن النجاح الذي عرفه إحداث الصندوق الخاص بتدبير جائحة فيروس كورونا، يمثل عبقرية سياسية مبتكرة نتيجة تفعيله الميداني العملي، بتوجيه مساعدات مستعجلة لتدارك عجز القطاع الصحي، وأخرى للدعم المادي المباشر للأسر والعمال المتضررين بشكل تدريجي.
وتعيش شريحة واسعة من الأسر المغربية وضعية هشاشة اجتماعية، تدعونا للاستلهام من فكرة الصندوق المحدث، وتوجيه توصية تحويله لآلية دائمة لتدبير القضية الاجتماعية بعد الأزمة، وضمان استمراريته وفق تسمية أخرى.
ويتطلب تدبير صندوق الدعم الاجتماعي المباشر، إيجاد آليات تمويل مبتكرة توازي تبرعات الشركات والمؤسسات المواطنة وأثرياء البلاد وتحويلات الجالية المغربية، مع تشجيع الطبقة الشغيلة على الإسهام الطوعي في الدعم المنتظم لموارد الصندوق، عبر الحوار الذي سيجنب فرض الاقتطاع الجبري بدون سابق اتفاق، مع تبني التوصيات التي رفعها المجتمع المدني، بخصوص ترشيد النفقات العمومية، وتوجيه النفقات الكمالية نحو الأولويات الاجتماعية المستعجلة.
ويمكن أن نضيف إلى ذلك، إحداث مقاولات مغربية شبه عمومية، تخصص أرباحها الكاملة حصريا لدعم موارد الصندوق مع تمكينها من تحفيزات ضريبية ومالية استثنائية، بما يسهم في توفير آلاف فرص الشغل، كما يمكن منح قروض للشباب الحاملين للمشاريع، عبر تحويل قيمة نسب الفائدة إلى مساهمة مالية في الصندوق بالتشاور مع المجلس العلمي.
ويتوفر المغاربة على تجربة رائعة تميز معدنهم النفيس وكرمهم اللامحدود، تتمثل في بناء المساجد عبر تاريخ المغرب الممتد وخاصة بعد الاستقلال، ويفتح هذا المكتسب إمكانية تعميم الأعمال الخيرية لتشمل أيضا بناء وتجهيز المدارس والمصحات والمكتبات، وتوزيع المنح الدراسية على الطلبة لمساعدتهم في متابعة دراستهم (مصاريف النقل، توفير الأجهزة الإلكترونية كاللوحات الرقمية والحواسيب الثابتة والمتنقلة، طباعة البحوث، …).
ويمكن الاستعانة بانخراط وتوجيهات المجالس العلمية عبر تراب المملكة، ومصالح وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وتخصيص بعض خطب الجمعة لتنوير المواطنين أن الأجر والثواب يمكن اكتسابه أيضا من خلال المساهمة في ميادين الصحة والتعليم.
وسيعزز التدبير الشفاف والحكيم لموارد الصندوق الوطني للدعم الاجتماعي، ثقة المساهمين داخل أو خارج الوطن (استعادة ثقة الجالية المغربية)، ويوسع انخراطهم ويرفع تدريجيا قيمة مساهماتهم المادية أو العينية، مع نشر تقارير شهرية توزع على كافة وسائل الإعلام الوطني وبلغات مختلفة.
ويمكن إحداث منصة إلكترونية دينامية متجددة توضح قيمة المداخيل وأعداد الأسر المستفيدة وخرائط توزيعها الجغرافي، وقائمة الشركات المواطنة المساهمة ونوعية وتوزيع المصاريف، وتفتح نافذة نقاش عمومي مستمر يستطلع آراء المواطنين ويعمل بمقترحاتهم ويعالج شكاياتهم، مع التأكيد على تحري الدقة والموضوعية والحيادية الكاملة في تحديد لوائح المستفيدين وفقا لمتغير الحاجة والاستحقاق الإنساني حصريا.
إن الحفاظ على استمرارية الصندوق، سيشكل مكسبا استراتيجيا كبيرا للمغرب وعنصر تميزه وإشعاع ضمن محيطه الإقليمي المغاربي والإفريقي، وسيحصن استقرارنا السياسي ويسد الطريق على المتربصين والمستغلين لبوابة الفقر لأغراض مشكوك فيها (التطرف، الإرهاب، التهريب، استهداف الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي،…).
وستمتد فوائده لتعزيز الاستقرار الأسري والاجتماعي (انخفاض نسب الطلاق، محاربة الهدر المدرسي، الهجرة السرية)، وارتفاع القدرة الإنتاجية النظرية والعملية وتوسيع السوق الاستهلاكية الضرورية لنمو اقتصاد البلاد، ومواصلة النمو الديمغرافي لتقوية أمننا القومي، وتشكيل الكتلة الديمغرافية الأهم في شمال إفريقيا (بجانب مصر) في حال النجاح في تخطي عتبة 100 مليون نسمة.
في الختام، تستدعي صياغة استراتيجية وطنية شمولية استباقية ومستدامة وبعيدة المدى لمواجهة الأزمات وتحقيق الإقلاع الاقتصادي المنشود، تنظيم ندوة وطنية يسهم فيها كافة الفاعلين (ممثلي القطاعات الحكومية، السلطات المحلية، الأمن، الأساتذة، الأطباء، المجتمع المدني، المقاولات، وسائل الإعلام،…) لاستثمار قوة التفكير الجماعي وربط الجامعة والبحث العلمي بمعالجة الظواهر الاجتماعية والمجالية وتحديات التنمية التي يعرفها البلد، ورفع توصيات وخلاصات الندوة إلى ملك البلاد والحكومة والبرلمان ورئيس لجنة النموذج التنموي ونشر أشغالها ضمن مؤلف خاص.
وتستدعي منا ثقافة الاعتراف أيضا، فتح وتوثيق سجل ذهبي يعر ف بجهود جميع المتدخلين ويكرم الطبيب والأستاذ ورجال ونساء السلطة والأمن والنظافة والإعلام الوطني الهادف، وإنجاز برامج وأفلام وثائقية تخلد للمبادرات المواطنة للأشخاص والمؤسسات والشركات.
ــــــــــــــــــــــــ
* أستاذ شعبة الجغرافيا بجامعة محمد الخامس الرباط
تعجبني مثل هذه الأفكار رغم أننا مازلنا في بداية الأزمة!
إن خرجنا من هذا البلاء بفضل الله ورحمته بأقل الأضرار والخسائر فالحمد لله أولا وآخرا.. أما بوادر ركود وأزمة عالمية لاحت وتلوح في الأفق.. فنسأل الله السلامة والعافية
أرجو الله سبحانه أن يرفع عنا هذا الوباء والبلاء وأن يجد مقترح الأستاذ الفاضل آذانا صاغية وقلوبا واعية صادقة.