فرض الخطبة الموحدة.. دور المسجد إلى أين؟

05 فبراير 2025 17:54

هوية بريس – إبراهيم الطالب

المسجد وما أدراك ما المسجد، المسجد في الإسلام هو أهم مؤسسة عرفتها الدولة الإسلامية في سياق تشكلها في التاريخ، بل نرجو ألا نكون مجازفين، إذا قلنا إن المسجد هو الذي صنع الدولة في الإسلام، فهو أول مؤسسة بنيت في دولة المدينة وفيه كانت تتم الشورى، وفيه المدرسة والمعهد والجامعة التي تكفلت بصناعة النخب وتربية الأجيال على القيم الإسلامية، هو المؤسسة التي كانت توجه الرأي العام وتصنع الرأي الخاص، هي الموجه الأساس لبناء قناعات الأفراد، وبالإضافة إلى هذا كله كان المسجد هو قصر الحكم والقضاء، ومن المسجد كان رسول الله يجيش الجيوش ويعقد لها الرايات للدفاع عن الدين وعن أمة الإسلام ومنه تولدت كل مساجد الكوكب الأرضي وعلى غراره تم العمل فيها.

المسجد هو كل شيء وأساس كل شيء، لذا كانت عمارة المسجد من طرف المسلمين دليلا على صحة المعتقد والانضباط في أداء كبريات الشرائع الإسلامية ومن أجل ذلك قال الله تعالى: “إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله؛ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين” التوبة.

وبالمقابل جعل الله أكبر الظلم، هو السعي في خراب المساجد، فقال: “ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم” البقرة. وخرابها له معنيان: أن يتم تخريب مبناها وهذا واضح المعنى، أو تحريف وظيفتها ورسالتها، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدم مسجد الضرار الذي بناه المنافقون، فلم تشفع له تسميته “مسجدا”، ولا الصلاة التي كانت تؤدى فيها، ما دامت سُطرت له رسالةٌ مخالفة لرسالة الإسلام ومقصده من بناء مؤسسة المسجد.

وفي الحديث الشريف الذي عدَّدَ النبي صلى الله عليه وسلم الأصناف السبعة الذين يُظِلّهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ذكر منهم: “ورجل قلبه معلق في المساجد” (رواه البخاري ومسلم).

فيا له من أجر لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، ويوقن بالمحشر والمعاد!

وليس الأمر كما يظنه كثير من الناس، أن السبب في هذا الأجر الكبير على التعلق بالمسجد، هو انعزال الفرد المسلم فيه متألها متعبدا منقطعا عن الناس وعن المجتمع، فهذا وإن كان في بعضه فضل كبير وأجور عظيمة، إلا أنه ليس مقصودا على وجه الحصر، فلا رهبانية في الإسلام، كما أن المقصود ليس هو التعلق بالمسجد باعتباره المبنى الذي يعبد فيه الله فقط، بل شرَّف الله المساجد لما تلعبه من أدوار أساسية في بناء الدولة والمجتمع، وما تسديه من توجيه للنفوس وتوحيد للخالق، وسكينة يثمرها الذكر، ولقاء بالمؤمنين ومعرفة بما يجري من أحوال لهم، وسماع للفتاوى والخطب والمواعظ، وتَخَلُّق بخلق الإسلام بعد الخروج من المساجد.

وعَظُمَ الأجر كذلك لما للتعلق بالمسجد من ثمرات تسهم في تنشئة المسلم وتكوينه تكوينا عقديا ونفسيا وسلوكيا، يجعل منه عضوا قويا صالحا يعتمد عليه الإسلام في كل شؤونه أو جلِّها، بعد أن يكتسب المسلم فيه العلم ويترقى في مدارج السلوك، ويعرف مراد الله منه فيشارك في بناء الأمة وحضارتها.

المهم هو بيان أن المسجد في جسم المجتمع المغربي ليس فضاءً لتأدية واجب ديني متمثل في إقامة الصلاة وذكر الله فقط، بل المسجد هو المصنع الذي تصاغ فيه نفوس أفراد الشعب، هو المؤسسة التي تبني التصور الجمعي للمغاربة، هو المُنشأة التي تُمَرَّر فيها القيم بين الأجيال، هو المكان الذي يوحد المغاربةَ صفا كأنهم بنيان متماسك، لهم -على مستوى الهوية والعقيدة والدين-، نفس الوظيفة ونفس الهدف ونفس التوجه، وباختصار المسجد هو صانع الهوية الجمعية للمغاربة.

ونظرا لهذه الأهمية البالغة للمسجد كان الخوف منه وعليه، فالخوف منه، أي من أن تخرج منه “معارضة” باسم الدين تكتسب الشرعية من حرمة المسجد وقدره، فإذا قامت ضدها الدولة تصبح وكأنها تحارب الدين.

أما الخوف عليه فمبناه على منع استغلال الطوائف الفاسدة المفسدة لأهم مؤسسة في الإسلام، فتنحرف بها عما جاء به الإسلام وحدده الشرع، وهذا وجيه معقول بل واجب بشرط قيام الدولة بإعطاء الحرية للعلماء وأهل الوعظ أن يدبروا كل ما تعلق بوظيفة المسجد التعليمية التربوية والتوجيهية، دون تدخل من الإدارة أو الوزارات في تحديد المنهجية وفحوى الخطاب.

وقد سمعنا ونحن شباب أن شاه إيران لما أسقط من عرشه بعد الثورة الإيرانية، نصح العاهل الحسن الثاني ملك المغرب بالحذر من المساجد، لأن منها وفيها تنشأ المعارضة الدينية التي لا تلبث أن تصبح ثورة عارمة، وكذلك كان، فقد اتُّخِذ قرار إقفال المساجد المغربية بين الصلوات الخمس، بعد الثورة الخمينية وكانت قبلُ لا تقفل أبوابها إلا ليلا.

زاد القلق من المسجد ومن خطاب المسجد حِدَّة بعد أحداث 16 ماي 2003، فوضعت وزارة الأوقاف خطة لإعادة هيكلة الحقل الديني، فصارت تضبط كل شيء يتعلق بالمسجد وفق مستلزمات محاربة الإرهاب والتطرف، وأصدرت مئات القوانين والتدابير والقرارات لذات الغرض، حتى صار المسجد في المغرب تحت رحمة وتفكير ومزاج المناديب والمراقبين، وأصبح الخطباء والوعاظ ينتجون خطبهم ومواعظهم تحت الترهيب والضغط، فضعفت الخُطب وقلَّ تأثير المسجد في النفوس خاصة الشباب، ليفسح المجال واسعا للتأثير فيهم لوسائل التواصل الاجتماعي وقنوات العهر والخنا، وكذا تلك التي تبث الانحراف الفكري والعقدي.

ومن ضمن التدابير التي اتخذتها وزارة التوفيق، فرض الخطبة الموحدة، وهذا إجراء لم يعرفه المغرب منذ دخل الإسلام إلى بلاد الغرب الإسلامي، والظاهر هو أن هذا القرار الإداري لا علاقة له بالعلم الشرعي ولا بالعلماء، وإنما هو قرار سياسي بامتياز، حتى ولو حاول الوزير وإدارته أن يُبَرِّروا هذا القرار بأنه من مقتضيات ما سمي بـ”خطة تسديد التبليغ” ومن أجل إنجاحها، فأي تبليغ للدين يكون باختزال مئات الخطباء بعقولهم وألسنتهم في عقل كاتب واحد يُملي عليهم فكره ونظره مع إلزامهم بالتقيد بما سطره؟

أليس هذا من باب مصادرة حرية الخطيب والواعظ، وجعله رهينة لدى كاتب واحد وكأنهم مجرد أبواق له موصَلة بالصوامع والمنابر؟

إن الخطبة الموحدة بالشكل الذي تم فرضه أصبحت تنميطا للخطاب، وتوحيدا لمصدر إنتاجه، وهذا فيه إهدار لوظيفة الخطيب وعقله وشخصيته لدى مخاطَبيه، فالخطيب ليس موظفا عند وزارة الأوقاف بل هو بمثابة الطبيب الأستاذ الذي يدرس الطب ويعالج الأدواء فلا يليق بحال أن تملي عليه وزارة الصحة الوصفات التي ينبغي صرفها لمرضاه، ولا خلاصات الأبحاث التي يجب أن يدرسها لطلبته، فمثله الخطيب يعيش هموم الساكنة، ويتابع أمراضها الاجتماعية، واحتياجات أبنائها ثم يَنظر ما يصلح لها من العلم الشرعي والهدي النبوي، والهدى الرباني، فيدمج الجميع في خطبة يروم المساهمة من خلالها في إصلاح أدواء المجتمع، فإذا أصبحت آلاف المساجد في مئات المدن والقرى، بقرار إداري تُكرَّرُ فيها خطبة واحدة موحدة، نكون قد عطلنا مئات العقول عن العمل، وجعلنا ألسنتها مجرد أقماع (مْداوز) تمرر فقرات خطبة لا علاقة لها بالدور الحقيقي الذي شرعه الإسلام للمسجد والخطيب.

إن ما نراه اليوم من تدابير تمس المسجد أغلبها -حسب رأيي- يراد بها تحييد المسجد من الصراع العلماني/الإسلامي، وكبْتُ خطاب المسجد حتى لا يزعج الخطاب العلماني، وذلك بإدخاله إلى المختبر الصوفي الذي يفصل بين الروحي والزمني، ويفصل الشريعة عن السلوك، والسلوك عن العقيدة والشريعة، ليصبح الإسلام مثله مثل النصرانية في فرنسا، بعد أن كانت حاكمة أصبحت محكومة، وبعد أن كان النصراني والنصرانية يوجهون بخطاب متكامل ينظم الدين والسياسة والاجتماع، أصبحوا لا يدينون بعقيدة المسيح عليه السلام ولا بالنصرانية المحرفة ولا يمتثلون شريعة موسى عليه السلام التي كانوا يتبعونها، بل أصبحوا شعبا علمانيا لا يعرف خطب القساوسة والإنجيل إلا في المآتم فقط، وقليل منهم من يؤم الكنائس يوم الأحد، حتى خربت جلها وبيعت للمسلمين فصارت مساجد أو لغيرهم فأضحت مقاهي وحانات.

أما دنياهم فبعد سقوط وظيفة الكنائس وشريعتها وسلطتها، أصبح تسوسها العلمانية بشرائعها وتصوراتها للإنسان والكون والحياة، وبقراءة الاتجاه العام للسيد التوفيق نرى أن المغرب في المدى المتوسط يتجه إلى نفس الحال.

إن الخطبة الموحدة وعسكرة المسجد، وضبطه بالشكل الذي يجعل خطابه مثل خطاب الإداريين في النظام البيروقراطي، هو محاولة لترويض خطاب المساجد حتى لا تمارِس قوتها ودورها في المعارضة الناعمة لمجابهة التحكم الرأسمالي في الأسرة والمجتمع والسوق والمصنع.

فخطاب المسجد له قوة ناعمة تعطي نفوس المؤمنين مناعة وقوة لمجابهة القوى الجبارة التي تمارسها وسائل الرأسمالية في تفتيت الأسر وتحويلها من مؤسسات اجتماعية تمرر القيم بين الأجيال حتى يكونوا عبادا لله ممتثلين لدينه، إلى مجرد تجمعات بشرية لا ناظم بينها ولا هدف موحدا لها، ولا عقيدة تجمع بين أفرادها، بل يعيش عناصرها تحت سقف واحد يلهثون وراء كسب المال بالنهار لتسديد كمبيالات القروض الربوية في آخر الشهر؛ فإذا استغنى بعضهم عن بعض تفرقوا كما يتفرق الأغراب، فلا صلة للرحم بينهم لأن صلة الرحم لا معنى لها في الثقافة العلمانية الفردانية.

إن على من وضع خطة التبليغ أن ينطلق من قول الله تعالى: “يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة، ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين”. ومما قيل في تفسيرها: “ادخلوا في الإسلام إلى منتهى شرائعه كافِّين عن المجاوزة إلى غيره”، وهذا يُلزمنا بضرورة العمل بكل الشريعة الإسلامية والتمكين لها في واقع الناس، لا أن نَفصل ما هو اقتصادي وسياسي عما هو سلوكي، بدعوى اعتبار التحديات التي تواجه الإسلام في الوقت الراهن، فنلتمس طريقة لتبليغ الدين ترضي المد العلماني الذي يضغط على العقل الجمعي للمغاربة.

إن كثيرا من المراقبين يخشون أن تؤدي منهجية التوفيق هذه في التعامل مع تدبير الشأن الديني إلى خلق طبقة من “رجال الدين” الإكليروس، فيحدث ثورة لعموم الشعب على المسجد والدين، ومن بعدها على الدولة وحكمها.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.

آخر اﻷخبار

التعليق


حالة الطقس
12°
19°
السبت
19°
أحد
19°
الإثنين
20°
الثلاثاء

كاريكاتير

حديث الصورة