فرنسا تحتفل داخل المغرب بأسبوع إحياء الاستعمار
هوية بريس – نبيل أنطوان بكاني
نكتب هذه المقالة بمناسبة إحتفاء “الإمبراطورية” الفرنسية بأسبوع الفرنكفونية عبر سفاراتها ومراكزها الثقافية في عدد من الدول. وكما هو معروف، الفرنكفونية مصطلح فرنسي صرف، فُرض كرها على تلك المستعمرات السابقة إلى درجة بات البعض يسميها بلدانا فرنكفونية، جزافاً، دون النظر إلى خصوصية كل بلد على حِدة، فدول أفريقيا الغربية ليست هي دول المغرب العربي، وانتشار اللغة الفرنسية في تلك الشعوب بعيد كل البعد عن وضع هذه اللغة داخل الشعوب المغاربية حيث حضورها شكلي للغاية ولا يتعدى الشكل والمظهر الذي فرضه خدام فرنسا في إداراتنا ومؤسساتنا من خارج الدستور، وأُكره المواطن على التعامل بها. ومصطلح الفرنكفونية هو نتاج حركة ما بعد الاستعمار، وهي الحركة التي يمكننا اتهامها بأنها جزء من “النيوإمبريالية”، والتي يشكل مجموعة من المنظِّرين والمفكرين المؤمنين بفكرة الاستعمار محركها، وهي امتداد للفكر الاستعماري الذي رسخت فرنسا نفوذها به، وذلك عن طريق المخططات التي كانت تستهدف البنية الاجتماعية والثقافية والدينية لهذه المجتمعات إبّان احتلالها.
الفرنكفونية كفكرة، لم تنتشر بفعل قوة إلهامية أو إقناعية، وإنما انتشرت بواسطة الاتفاقيات غير العادلة وما هيّأته فرنسا من مؤسسات، وقد جرى ربط هذه المؤسسات الفرعية مجتمعة عبر مؤسسة أُم جامعة هي ما سمته فرنسا “المنظمة الدولية للفرنكفونية” وهي في واقع الأمر ليست كذلك، أي أنها ليست مؤسسة دولية مفتوحة على العالم، ولا هي مؤسسة قارية تعالج مشاكل قارة بعينها ولا توحد كيانها منطقة جغرافية واحدة تتقاسم شعوبها نفس التحديات، وإنما هي نطاق وهمي لا خريطة توحده بقدر ما توحده إرادة فرنسا. فالفرنكفونية هي أيديولوجية دولة، دولة استطاعت توحيد أراض كانت ذات سيادة تحت سلطة امبراطوريتها الاستعمارية، ثم بعد الاستقلال تمكنت من الحفاظ على هذه الوحدة المخترقة التي لا تخدم شعوب تلك الدول ولا مصالحها، بقدر يسمح لفرنسا بالحفاظ على مصالحها غير القانونية، وبالتالي، فإن فرنسا هي من صنع هذا التكتل وهو ليس منظمة دولية بقدر ما هو تنظيم إقليمي يهدف إلى جمع زعماء وقادة المستعمرات السابقة، تحت راية واحدة، هي راية الفرنكفونية. وينقسم هذا التنظيم الإقليمي إلى شكلين، شكل علني برّاق يجري عبر الاجتماعات والمؤتمرات المفتوحة، وشكل سري تصاغ قراراته في الكواليس الفرنسية، وفي واقع الأمر، تبقى هذه المؤسسة أقرب إلى تنظيم إقليمي، لم تستفد منه شعوب الدول الأعضاء أي المستعمرات السابقة، بقدر ما فرضه من خضوع لهذه المستعمرات لارادة فرنسا حتى لا تهنأ باستقلالها المنقوص وحتى يُقضى على كل أسباب الانعتاق، فهكذا نحن عبيد فقط لدى التنظيم الإقليمي للفرنكفونية أي التنظيم الإقليمي الذي يكرس أيديولوجية فرنسا الاستعمارية التي ترى في أراضينا ممتلكات لها لا أكثر ولا أقل، وهي بذلك بعيدة جدا عن مفهوم منظمة دولية مفتوحة، وتدور جميع أهداف هذا التنظيم حول مشترك واحد، وهو خدمة مصالح فرنسا، الاقتصادية والسياسية، وإعلاء لغتها الفرنسية التي هي بمتابة راية الإمبراطورية الاستعمارية المعاصرة، وربط المستعمرات السابقة بمحور فرنسا والتحكم في سياساتها الداخلية والخارجية بواسطة اللغة الفرنسية، التي، وكي تؤدي مهمتها، وجب إعلاء شأنها على حساب اللغات الوطنية لهذه الدول التي يتحتم على زعمائها وقادتها عدم التفكير خارج لغة فرنسا. فنحن أمام تنظيم مافيوي يقوم على فكرة أن مصلحة القيادة (فرنسا) فوق أي مصلحة أخرى ولو كانت مصالح تلك الشعوب والدول الأعضاء.
هذا التنظيم الذي يشتغل بأساليب مافيوية، تأسس مباشرة بعد انتهاء الحركة الاستعمارية الفرنسية مهزومة أمام حركات الاستقلال التي هي جزء من حركة التحرر العالمية التي سعت إلى تحرير البلدان المتخلفة من كافة أشكال الاستعمار والاستعباد، ومن التبعية الاقتصادية والثقافية، وكان الهدف من إنشائها – أي فرنسا – هذا التنظيم الإقليمي، هو ضم بشكل أساسي المستعمرات الفرنسية في أفريقيا وآسيا، وجرى فيما بعد تطعيمه بعضويات شرفية لبلدان من خارج هذه المستعمرات الفرنسية، في محاولة باهتة لإخفاء حقيقة ارتباط هذا النادي بالمستعمرات. ولكي تخفي فرنسا حقيقة أنها كانت وراء قيام هذا النادي، فقد أوعزت إلى بعض الزعماء الأفارقة البارزين بطرح فكرة إقامة المنظمة الفرنكفونية وبتبنيها والاعلان عنها بلسانهم، كي توهم العالم بأنها فكرة نبعت من أفريقيا وبأن دور فرنسا يقتصر على المساعدة فقط. ففكرة الفرنكفونية في الأصل هي نتاج كتابات وفكر منظرين ومثقفين فرنسيين استعماريين، على مدى قرن.
وكان هدف فرنسا من إنشاء هذا التنظيم الذي نسبت فكرته إلى زعماء أفارقة هم في الواقع مجرد دمى لا تفكر ولا تبتكر، بقدر قدرتهم العجيبة على تنفيذ الأوامر، والهدف الأسمى كان ومازال هو ثورة ناعمة مضادة لحركات الاستقلال وتدمير مبادرات الوطنيين في هذه الدول لاستكمال جميع شروط النهضة والاستقلال التام، والتحرر من تبعية هي سبب تخلفنا، والانعتاق من قيودها، ومن جميع مخلفات الحقبة الاستعمارية. ففي المغرب، قامت أهداف الاستقلال على فكرة بناء دولة وطنية تخضع لقرارات أبنائها ولسيادة مواطنيها، تكون مندمجة في الحضارة العالمية دون أن تفرط في أصالة قيمها، كعنصر فاعل في المنظمات العالمية والاقليمية، على نحو يجعل لبلدنا كلمة مسموعة وفعل محترم، وهو ما أبانت عنه، ومازالت، السياسات المغربية الناجعة على مستوى الأمم المتحدة والجامعة العربية والاتحاد الأفريقي، غير أن هذه السياسات لا يبقى لها من فعل أو تأثير عندما يتعلق الأمر ب”التنظيم الإقليمي للفرنكفونية” فحتى اللغات التي تعبر عن الانتماء الحضاري لا يبقى لها حضور أمام لغة واحدة وحيدة تجسد دولة واحدة وحيدة صاحبة الأمر والنهي هي فرنسا صاحبة ثقافة الاستعلاء والاستكبار على الضعفاء، وهو التنظيم الذي تعتبر باريس مرشده الأعلى، لتظهر بذلك السياسات المغربية في تناقض غريب، عندما تصطدم بواقع التبعية الفرنكفونية أي تبعية المهزوم للمنتصر، وهنا يتبادر السؤال، هل يتم خلال مؤتمرات واجتماعات هذا التنظيم الإقليمي، طرح المشاكل والهموم التي تشغل بال مواطني هذه الدول الأعضاء؟ هل يتم طرح التحديات المرتبطة بالأمن القومي لهذه الشعوب؟ هل طُرح يوما ما موضوع قضية الصحراء المغربية في هذه الاجتماعات للمساعدة على إيجاد حل مثلما يتم طرحه مثلا على مستوى الجامعة العربية حيث استطاع المغرب حشد دعم الدول العربية؟ أو كما يتم طرحه في الأمم المتحدة أو في الاتحاد الإفريقي؟ هل يتم مناقشة مشكل المجاعة ونقص الأدوية في أفريقيا لكي تقوم فرنسا على حشد التمويل من شركائها الكبار؟ هل ناقشت الاجتماعات الأخيرة بمناسبة أسبوع الفرنكفونية قضية عدالة التطعيم واستفادة الدول الأفريقية الفقيرة من اللقاحات؟ طبعا لا شيء من هذا حدث، لأن الغاية العليا التي لأجلها يفرض على هذه الدول المتخلفة دفع مستحقات الانخراط في أكثر من عشرين مؤسسة فرعية تابعة لهذا التنظيم، هي البقاء تحت الوصاية الفرنسية، كما لو كنا نحن المغاربيين شعوباً قاصرة معدومة الكرامة والنخوة.
إن انفتاح المغرب السياسي والاقتصادي واللغوي ظل محدودا بسبب العوائق والقيود التي تسبب فيها ارتباطه بعضويات في المؤسسات التابعة لهذا التنظيم الفرنسي الذي هو نادٍ للمستعمرات السابقة، حيث أنه إذا كانت الأهداف التي يجري مناقشتها على مستوى المنظمات الإقليمية والدولية والأممية الأخرى، كجامعة الدول العربية أو اتحاد الدول الأفريقية أو الأمم المتحدة، كما سبق الذكر، تهم شؤون وقضايا الدول والبلدان الأعضاء والأقاليم والمناطق أو العالم ككل، فإن الأهداف التي يتم التوحد حولها داخل اجتماعات التنظيم الإقليمي للفرنكفونية، هي نفسها تلك المحاور والأهداف التي كانت تناقش قبل عقود داخل الحكومة الفرنسية وبرلمانها بحضور وزير المستعمرات إبان الحقبة الاستعمارية، وهي تدور في فلك المصالح الاقتصادية والسياسية المرتبطة بفرنسا، وبحث هموم اللغة الفرنسية وسبل دعم هيمنتها على هذه الدول في جميع المناحي حتى ما يتعلق منها بأبسط الأمور التي تهم المواطن في حياته اليومية، والتي لا تتطلب استعمال اللغة الأجنبية، ولهذا فُرض علينا نحن المغاربيين استعمال لغة فرنسا في جميع أمورنا الإدارية الروتينية حتى التافهة منها، ابتداءً من فاتورة الكهرباء ومرورا ببطاقة الهوية الوطنية والتي رأت الحكومة تسميتها “بطاقة التعريف” عوض “بطاقة الهوية” درءً لفضيحة الازدواجية اللغوية على هذه الوثيقة التي من المفترض أن استعمالها وطني، داخل الوطن، تعكس هويته وانتماءه.
لتحريف حقيقة الغايات الاستعمارية من وراء فكرة الفرنكفونية كمجتمع إقليمي، في الأصل متنوع الثقافات لكنه في الواقع خاضع حد الخنوع لإجبارية فرض لغة فرنسا بالشكل الكريه، وإخراجها من داخل إطار الصورة الاستعمارية التي ارتبطت بها، غير أن وضع اللغة الفرنسية، في هذه المستعمرات السابقة، خصوصا بلدان المغرب العربي، تؤكد حقيقة الغاية الاستعمارية من وراء دعم هيمنة فرنسا على نحو يتناقض مع الفكرة المروج لها عن الفرنكفونية كفكرة وكتوجه سياسي/ لغوي وما يسمى المنظمة الدولية للفرنكفونية وحتى للغة الفرنسية التي ما لبتت تتحول إلى أداة للاقصاء الممنهج للغة العربية في المغرب وتونس والجزائر، وكذا اتخدت طابعا طبقيا حيث كل ما هو راقٍ وكل ما هو موجه للطبقات الثرية والميسورة حكر على لغة فرنسا مقابل ربط اللغة الوطنية بالفقر والفاقة ومجتمع الفقراء والبسطاء، وهذا الوضع نجده حاضرا واضحا حد الفضيحة في التلفزيون الحكومي خصوصا القناة الثانية، حيث البرامج الثقافية والاقتصادية والاستقصائية والمعرفية حكر على لغة فرنسا، مقابل ذلك، كل ما هو شعبي موجه للبسطاء، ركيك وتافه، موجه العامة، نجده بالعامية وقليل منه بالفصحى، وكل ذلك لغاية مدروسة تهدف إلى قسم المجتمع المغربي، طبقيا وفئويا، ليس طائفيا ولا دينيا، وإنما لغويا، طبقة غنية ميسورة متمكنة من لغة فرنسا ذات حظوة، وشعب من البسطاء، لغته العربية.
وفي الخاتم لا يسعنا إلا أن نقول لفرنسا هنيئا لها بالأسبوع “الفرنكو-امبريالي” وهنيئا لها بخدامها الأوفياء الذين علمتهم وربتهم في مدارسها المنتشرة في أفريقيا، وفي المغرب على وجه الخصوص، كتلك المؤسسة التربوية التعليمية المتواجدة في أرقى حي في الدار البيضاء، والتي لم تجد فرنسا مفكرا أو أديبا أو فنانا فرنسيا، حتى تتخذ من جنرال حرب وسفاح أطفال ونساء، ورمزا للاستعمار، إسما لها، لنرى اليوم أبناء “الأسر الكريمة” يتباهون على أقرانهم كونهم درسوا في مؤسسة “ليوطي” الفرنسية نسبة لهوبير ليوطي المندوب المقيم العام الفرنسي خلال الاستعمار الذي سجل التاريخ إسمه كواحد من اعتى سفاحي الاستعمار. فهنيئا لكم بقتل ثقافتنا وقتل لغتنا العربية في موطنها، وهنيئا لفرنسا بقيم الجمهورية الإنسانية العلمانية. فرغم المحاولات البائسة لفرنسا ووكلائها، لم تستطع فرض لغتها المتخلفة التي لم تعد تفيدنا بشيء، ولم تستطع فرنسة هذا المجتمع وبالتالي فشلت في تحقيق التصورات التي جاءت في كتب ودوريات جنارالاتها قبل أزيد من ستين أو سبعين عاما، والتي أجمعت جميعها على ضرورة تحقيق تبعية لغوية على مستويين، فرض هيمنة لغة فرنسا وقتل اللغة العربية أو في أفضل الأحوال تهميشها، فاللغة الفرنسية لم تستطع خلق حضور فعلي لنفسها في الأواسط المغربية، فبتنا نلمس هذا التناقض الصارخ، في مغرب يدعي حقوق الإنسان، ويدعي العدالة الاجتماعية بين مواطنيه، بين مسؤولين رسميين لا يخجلون من مخاطبة المغاربة بلغة غير رسمية، لم يخترها المغاربة في دستورهم، وبين شعب ممتد، هذه اللغة الأجنبية الغريبة، بعيدة عنه بعد النجوم عن الأرض.
فهنيئا لوزارة الخارجية المغربية بلغة الاقتصاء الممنهج، ومسؤولتها الثقافية تتحدث في الاجتماع الأخير لأسبوع الفرنكفونية عن انسانية الفرنكفونية وعن قدرتها العجيبة على التعايش مع لغات الدول التي تتشاطر اللغة الفرنسية دون أن تضايقها أو تقصيها، فلو كانت هذه المسؤولة بالفعل مهتمة بهموم ثقافة بلدها لأحست بالخزي والعار، ونحن نعيش في هذا العصر، ومازلنا نتصارع من أجل ضمان موقع وحيز للغتنا الوطنية داخل وطنها، لأن الفرنسية في هذا البلد هي أداة للاقصاء الممنهج وشكل من أشكال الاستعمار التي لم يتم حسمها بعد نهاية الاحتلال، وآلية متحكم فيها من الخارج لمنع المغاربة وحرمانهم من أبسط الحقوق، وهي الحقوق اللغوية، التي بدونها لا يستطيع المواطن الاندماج في بلده، ويظل مقصيا من حق الاطلاع والمعرفة والوصول إلى الخدمات التي تمول من أمواله العامة، ويبقى غريبا في وطنه، فهنيئا للفرنكفونية بوجهها “الحضاري” البائس، وهنيئا لها بخدامها، وبنصرها المكين على لغتنا وفي عقر دارنا وفي وطننا، وبيننا تفتخر جميع حكومات الدول الديمقراطية بمكانة لغاتها الوطنية، تمكن اللوبي الفرنكفوني/ حزب فرنسا في المغرب، من إجبار حكومتنا المنتخبة على تجميد قانون إلزامية استعمال اللغة العربية مقابل إقرار قانون القنب الهندي، فهنيئا لفرنسا بهذه الحكومة الطيِّعة التي تحمل هم اقتصاد فرنسا المرتبط بالفرنكفونية والسائر في الانهيار على حساب قضية اللغة الوطنية.