فرنسا .. مصطلح “اليسار الإسلاموي” ذريعة جديدة لمهاجمة المسلمين والتنصل من التاريخ الاستعماري الأسود
هوية بريس – وكالات
أثارت تصريحات وزيرة التعليم العالي الفرنسي التي حذرت فيها من “اليسار الإسلامي” في الجامعات وضرورة مراجعة الدراسات الأكاديمية، لغطاً كبيراً داخل النخب الفرنسية التي عبرت عن استيائها من ذلك، فماذا تقصد الوزيرة باليسار الإسلامي؟ وكيف تحول إلى وصم سياسي؟
لا يكاد يمر يوم في فرنسا، دون أن يكون فيها الإسلام والمسلمين، مادة دسمة للنقاش والجدال، والتي تبدو مغذياً رئيسياً للحملات الانتخابية التي بدأت قبل 15 شهراً من موعدها.
هذه المرة، جاء الهجوم من وزيرة التعليم العالي فريدريك فيدال، والتي أشعلت جدلاً واسعاً في البلاد، على خلفية تحذيرها من مغبة انتشار ما أسمته “اليسار الإسلاموي” في المؤسسات الأكاديمية الفرنسية.
إذ طالبت المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية، بإجراء تحقيق بشأن “الباحثين الأكاديميين الذين ينظرون إلى كل شيء من منظور السعي لإثارة التصدّع والانقسام عبر التركيز على قضايا الاستعمار والعرق”.
الوزيرة الفرنسية، قالت في مقابلة لها مع تلفزيون CNWS الفرنسي، إن “اليسار الإسلامي ينخر مجتمعنا بأكمله، والجامعات ليست محصّنة وهي جزء من المجتمع الفرنسي”، لتوضح بعد ذلك في البرلمان أن التحقيق الذي تريد من المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية أن يجريه سيحدد “الفرق بين البحث الأكاديمي والأنشطة السياسية” في الجامعات.
- ما معنى يسار إسلامي؟
أصبح مصطلح اليسار الإسلامي “IslamoGauchisme” أحد أبرز المصطلحات الشائعة اليوم داخل الحقل السياسي الفرنسي، والموجهة بالتحديد لقوى معيّنة التي في الغالب لا تكون سياسية، بل هو نتيجة لصراع ثقافي ومجتمعي تجاه ما يعبر عنه بالآخر “غير الفرنسي”.
يتخذ اليمين المتطرف “أصلاً تجارياً” لمشروعه القائم على عداء الغريب، إلا أنه في السنوات الأخيرة لم يعد حكراً على هذا اليمين بل انتقل المصطلح في شكل عدوى مرضية، أخذت تتردد بالكيف ذاته على لسان اليمين المعتدل بل وجزء من اليسار اليوم يردد ذلك.
ليس هناك لحظة معينة تؤرخ لظهور هذا المصطلح في فرنسا، إذ ترى بعض الدراسات أنه ظهر خلال أحداث “ماي 1968” عندما وجدت الحركات اليسارية آنذاك في الجامعات والطلبة سنداً لها.
إذ تعتبر صحيفة لوموند الفرنسية أن هذه الأحداث التي تعتبر أهم لحظة احتجاجية في فرنسا بعد ثورتها، لم تحركها الطبقات العاملة وما يصطلح بـ”البروليتاريا”، إنما كان الطلبة المهاجرون هم من شكلوا أكثرها، والتي طرحت قضايا العمال المهاجرين فيما بعد.
— Ulyss (@achabus) February 16, 2021
ومن هنا ظهر المصطلح، والذي يعرف اليساري غير المُعادي للإسلام وتمظهراته في الشارع كالحجاب أو دور العبادة، بأنه يساري إسلامي، أي أن كل وجهة نظر أكاديمية أو سياسية لاتحمل في طياتها رفضاً كلياً للإسلام توصف بصفة آلية بهذا الوصف الذي أطلقه اليمين المتطرف.
وربما هذا ما يفسر حديث وزيرة التعليم العالي الفرنسية وتوجهها نحو الدراسات الأكاديمية وطلبها مراجعتها خوفاً من “اليسار الإسلامي”، والتي ظهرت وكأنها زعيمة لليمين المتطرف، قبل أن يخرج الناطق باسم الحكومة غابريل آتال ليشدد على أن الرئيس إيمانويل ماكرون “ملتزم بشكل مطلق باستقلال الباحثين الأكاديميين، وأن ذلك يُعدّ ضمانة أساسية للجمهورية الفرنسية”.
- مصطلح سياسي وليس علمياً
أثارت صحيفة “هافينغتون بوست” الناطقة باللغة الفرنسة إشكالاتها حول ما طرحته وزيرة التعليم العالي الفرنسية كالآتي: “منذ متى تتدخل السياسة في العمل الأكاديمي؟”.
كانت هناك سابقة لم تدم طويلاً، ففي عام 2005 طرح قانون للعموم تضمّن مادة تهدف إلى تعليم الدور الإيجابي للاستعمار الفرنسي في الجامعات، مما أثار الكثير من النقد والجدل داخل المؤسسات الأكاديمية، وبعد صرخة غضب واسعة من الأكاديميين تراجع الرئيس الأسبق جاك شيراك عنه.
#Communiqué 🗞️ | “L’#islamogauchisme“, terme aux contours mal définis, fait l’objet de nombreuses prises de positions publiques. Le @CNRS condamne avec fermeté celles et ceux qui tentent d’en profiter pour remettre en cause la liberté académique…
➡️ https://t.co/SzRHk3BWS8 pic.twitter.com/XrHaUBgsen
— Centre national de la recherche scientifique 🌍 (@CNRS) February 17, 2021
بدوره، لم يتأخر رد المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية على الوزيرة كثيراً، حيث استنكر استخدام مصطلح “اليسار الإسلاموي”، ذي “الملامح غير المحددة”، والذي هو موضع العديد من المواقف العامة، والعرائض، والالتماسات، والتي غالباً ما تكون متحمسة.
وشدد المركز على أن الجدل الحالي حول “اليسارية الإسلاموية، والاستغلال السياسي الناتج عنه، هو رمز للاستغلال المؤسف للعلم”.
وعبر المركز عن قلقه من “محاولات نزع الشرعية من مختلف مجالات البحث، مثل الدراسات المتعلقة بحقبة ما بعد الاستعمار أو الدارسات المتقاطعة أو الأعمال حول مصطلح العرق، أو أي مجال آخر من مجالات المعرفة”.
من جانبه، دان “مؤتمر رؤساء الجامعات” الفرنسية استخدام هذه التسمية المعرّفة بشكل مبهم، قائلاً إنه يجب تركها لليمين المتطرّف “الذي أشاعها”.
« Islamo-gauchisme » : stopper la confusion et les polémiques stériles !
Cc @gouvernementFR @VidalFrederique @CNRS @CNEWS https://t.co/mKLG6ifmcM pic.twitter.com/jVnzTn1wmn— CPU (@CPUniversite) February 16, 2021
- هروب من الماضي
يرى المؤرخ تولان في مقال له بصحيفة لوموند الفرنسية، أن عبارة “اليسار الإسلامي” التي كانت تنقص فرنسا قد أحياها وزير الداخلية جيرالد دارمانان عندما وصف حزب فرنسا الأبية (La France insoumise) ذا التوجه الاشتراكي الديمقراطي بأنه “حزب مرتبط باليسار الإسلامي الذي يقوض الجمهورية”.
وعلق تولان -وهو أستاذ التاريخ بجامعة نانت الفرنسية- بأن هذا التوجه يذكّر بأيام رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق مانويل فالس، والعودة مرة أخرى إلى إدانة “اليساريين الإسلاميين”.
ويطالب المؤرخ حراس الجمهورية الداعين إلى رؤية معينة للعلمانية أن يكشفوا أقنعة أعداء الأمة الذين يبثون المشاكل ويهددون وحدتها، إذ يشير إلى أن أول من استورد ونشر هذه الأيديولوجيا الضارة في فرنسا، هو ذلك المسمى فرانسوا ماري أرويه، الذي كان يتستر وراء اسم فولتير.
الفيلسوف الفرنسي فولتير، أحد رموز التنوير، يعرف بإشادته بالإسلام والإمبراطورية العثمانية، وتقديمه التسامح الإسلامي كنموذج ينبغي أن يلهم الحكام الأوروبيين، يعتبر بطريقة ما مؤسس اليسارية الإسلامية الفرنسية، حيث يتساءل المؤرخ ساخراً: ماذا نفعل وكيف نتصرف مع “يساري إسلامي” مات منذ ما يقرب من قرنين ونصف القرن؟ هل يكون ذلك بمنعه مثلاً أو بتحديد المقاطع التي تسيء إلى حساسيتنا الجمهورية، ومنع قراءتها أو بحرق الكتابات التي تسيء إلى مشاعرنا؟
وبالعودة إلى نقاشات الحاضر، يتساءل المؤرخ: ماذا تعني صفة “إسلامي يساري”، خاصة أنه لا أحد يعرّف نفسه بهذه الصفة؟ موضحاً أنها مجرد إهانة نلقي بها على من يشكك في مزايا سياسات معينة، كالحجاب واستقبال اللاجئين والعديد من المواضيع الأخرى، أو من يستنكر الكراهية تجاه المسلمين الفرنسيين.
« Je crois avoir débusqué le chef de file des islamo-gauchistes, un certain Voltaire » — via @LaMatinale_M @😁 https://t.co/zPk7FMEIPT
— jean-do merchet (@jdomerchet) October 10, 2020
واعتبر أن المصطلح كان المؤرخ شلومو ساند قد لاحظ أن السياسيين يستخدمونه لإسكات من لا يتفقون معهم، وذلك لتجنب أي نقاش فكري لا يكونون فيه على قدر المهمة.
ويخلص الكاتب إلى أن الحوار هو السبيل الوحيد للخروج بأجوبة كافية على الأسئلة المثارة، في صورة مناظرات حول قضايا التمييز وعدم المساواة الاجتماعية والأمن والعلمانية وأشياء أخرى كثيرة، وذلك بمشاركة واسعة من قبل المواطنين من جميع مناحي الحياة ومن جميع المستويات الاجتماعية، مع احترام أصوات أولئك الذين لا نشاطرهم الرأي. (تي أر تي عربي)