فرنسا موت السياسة ينعش التطرف اليميني واليساري
هوية بريس – بلال التليدي
كثير من الدارسين والمحللين للشأن الفرنسي، اعتبروا أن لحظة الانتخابات الرئاسية في دورها الأول، لم تكن استثنائية في فرنسا، وأنها أعادت نفس المشهد الذي عرفته انتخابات الرئاسة سنة 2017، وأن النتيجة لن تكون مغايرة بشكل كبير لما عرفته نتائج انتخابات الرئاسة السابقة، وأن ماكرون سيتصدر المشهد، وأن المشهد السياسي الفرنسي، سيعرف تحالفا لمنع اليمين المتطرف من الوصول إلى قصر الإليزيه.
النتائج تقول ذلك، والحركية التحالفية الأولية، تزكي هذا السيناريو المحتمل تكراره، لكن، ما وجب الانتباه إليه في نتائج هذه الانتخابات الرئاسية، أن اليمين المتطرف، بطيفيه، تعدى بشكل كبير الأرقام التي حازها في مساره الانتخابي في الرئاسيات.
إذا تتبعنا الأرقام المقارنة برئاسيات 2017، فيمكن أن نسجل تقدما للمرشحين الثلاثة، مرشح السير للأمام، إيمانويل ماكرون بأربع نقاط (27.8 في المائة مقابل 23.75 سنة 2017)، ومرشحة اليمين المتطرف (مارين لوبين) بحوالي نقطتين (23.1 في المائة مقابل 21.53)، ومرشح اليسار المتطرف جون لوك ميلنشون بحوالي ثلاث نقاط (22 في المائة مقابل 19.64 في رئاسيات 2017). في حين، سجلت الأحزاب التقليدية تراجعا كبيرا، فاليمين (حزب الجمهوريون) الذي أحرز في الدور الأول من انتخابات 2017 حوالي 20 في المائة من الأصوات، لم تحصل مرشحته فاليري بيكريس إلا على 4.6 في المائة، في حين تعمقت أزمة الحزب الاشتراكي، وذلك من نسبة 6.5 في المائة سنة 2017 إلى 1.8 في المائة فقط في الرئاسيات الحالية.
خارطة التوجهات التي تكشفها الأرقام، تقول بأن الأحزاب التقليدية تراجعت بشكل كبير، أو هي بصدد الإعلان عن وفاتها، وأن الوسط الذي يشكله حزب السير إلى الأمام (إيمانويل ماكرون)، لا يبرر صعوده بهوية حزبية، أو بمشروع سياسي، وإنما يبرره بحالة التوازن التي يفرضها توسع التيارات المتطرفة يمينا ويسارا، لاسيما وأن الأرقام الانتخابية تقول بأن مجموع أصوات التطرف اليساري واليميني في فرنسا تجاوز نصف الأصوات الفرنسية (52.2 في المائة).
بعض الدارسين لا يعير اهتماما لهذا الحاصل، ويحتج باستحالة التقاء اليمين المتطرف مع اليسار المتطرف، وبدعوة ممثل اليسار المتطرف، جون لوك ميلنشون إلى قطع الطريق على اليمين المتطرف بالتصويت لصالح إيمانويل ماكرون.
لكن هذا الاختلاف التناحري بين التيارين المتطرفين، اليميني واليساري في فرنسا، لا يغطي على حقيقة تصحر السياسة الفرنسية، ودخولها مرحلة الجمود والتكرار.
في انتخابات 2017، لم تظهر هذه الحقيقة بكامل مؤشراتها، فاليمين الذي كان يمثله ممثل الجمهوريين فراسوا فيون، حصل على نسبة مهمة من الأصوات (حوالي 20 في المائة من الأصوات)، ولولا الحملة الإعلامية التي خيضت ضده بسبب تورطه في قضية فساد، تتعلق بقضية وظائف وهمية لزوجته وولديه، لكان من المتوقع أن تعرف الرئاسيات الفرنسية في دورها الأول سنة 2017 منحى مختلفا.
قبيل إجراء الدور الأول من الرئاسيات الفرنسية الحالية، ركز المرشحون على الفرضية التي أكدها أكثر من استطلاع رأي أجري في فرنسا، وهو وجود نسبة عزوف عن المشاركة في الانتخابات تقدر بحوالي 30 في المائة مقارنة مع نسبة الانتخابات التي عرفتها انتخابات 2017 (78 في المائة تم تسجليها في الدور الأول من الرئاسيات السابقة)، وأن العنصر الحاسم في الانتخابات سيكون لهذه الفئة، ومن يستطيع من المرشحين اختراقها، وأن المستفيد الأكبر من تخلفها عن المشاركة في الانتخابات، هو التيار اليميني المتطرف، بحكم امتلاكه لقواعد تقليدية وفية، أو لفئات ناقمة من السياسات الحكومية، لا يمكن أن تتخلف عن الاستحقاق الانتخابي.
واقع المشاركة الانتخابية، جاءت فوق التوقعات التي زكتها استطلاعات الرأي قليلا، ومع ذلك، فإن الاشتغال على هذه الفئة، كان من قبل الأحزاب الثلاثة التي تصدرت المشهد السياسي، ولم يكن ماكرون المستفيد الوحيد من تعبئة هذه الفئة، كما كانت تقول الخلاصات التحليلية للاستطلاعات الرأي المنجزة.
تحليل المزاج الانتخابي الفرنسي غالبا ما ينصرف على التيمات الثلاث المؤثرة، أي مدى القدرة على الجواب على تحدي ارتفاع أسعار الطاقة وارتفاع أسعار المعيشة وضعف القدرة الشرائية أي المشكلة الاجتماعية، ومدى القدرة على تحقيق الانتعاشة الاقتصادية وتحريك الاستثمار وتحقيق نسب مهمة من تراجع البطالة (المسألة الاقتصادية)، والدور الفرنسي إزاء الحرب الروسية الأوكرانية ومدى القدرة على التوصل إلى تسوية سلمية تعفي أوروبا من التورط في حرب مكلفة مع روسيا يإيعاز أمريكي، وما يعنيه ذلك من تحديات استراتيجية تتعلق بالأمن الغذائي والأمن الطاقي والأمن الدفاعي (المسألة الاستراتيجية).
البعض نظر لانتصار ماكرون وتصدره للمشهد السياسي الفرنسي، على أساس أن عرضه السياسي كان الأفضل في الجواب عن هذه التحديات، لكن، من السابق لأوانه الانتهاء إلى هذه الخلاصة، فالديناميات السياسية والدبلوماسية لا تزال قائمة، والسياسات التي تم بذلها لتحريك الاستثمار وتحقيق إقلاع اقتصادي يتجاوز تداعيات جائحة كورونا، وإن حققت بعض النتائج الملموسة، إلا أن هذه النتائج الواعدة، أضحت مهددة بفعل تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا، وبفعل الموقف الذي اتخذته فرنسا باعتبارها قوة أساسية في أوروبا، إذ بدل أن تشتغل إلى جانب حليفتها المانيا، في تقوية الدور الدبلوماسي لأوربا لتسوية النراع بين روسيا وأوكرانيا، أضحت أوربا طرفا في الصراع، ومحرضا على استدامة الأزمة، ودخولها إلى دوائر خطيرة، تهدد النظام المالي الدولي، وتقوض أسس الاقتصادي العالمي، وتنذر بتوترات استراتيجية خطيرة، تفتح الأبواب على المجهول.
الناخبون الفرنسيون يدركون أن فرنسا دخلت مرحلة اللايقين، أي المرحلة التي يصعب معها توقع أي نتائج لأي سياسية عمومية مقبلة، بفعل الصراع الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا واذي يجري على تخوم القارة العجوز، ويدكون أن أوروبا، بسبب من ضعف قدراتها الدفاعية، تخوض مغامرة غير محسوبة العواقب، بسيرها وراء السياسة الأمريكية، ولذلك، فضل الكثير منهم الابتعاد عن صناديق الاقتراع، وإعطاء مساحة من الوقت لفهم ما يجري، ومحاولة توقع مآلاته.
حالة اللايقين التي يعيشها الناخب الفرنسي، هي التي تفسر المشهد السياسي الذي أفرزته الرئاسيات في دورها الأول، ففي مثل هذه الحالة ينتعش التطرف اليميني، حتى ولو كان برنامجه الانتخابي، خاليا من أي استيعاب لمعطيات السياسة الداخلية، وغير قادر على تقديم الإجابات العملية عن الأزمات الي نتجت عن حالة اللايقين الي دخلتها فرنسا، ففي مثل هذه الحالة تنتعش الشعبويات، والدعوات الهوياتية والعنصرية، كما تنتعش في مقابلها الدعوات اليسارية المتطرفة، التي تستعيد مفاهيم استعادة الشعب للدولة التي ابتلعها الأغنياء، واستعادة “جمهورية المساواة” بما في ذلك الدفاع عن “شعبويات” الدفاع حقوق الأقليات المسلمة، وسكان الضواحي من المهاجرين لاستمالة فئات ناقمة من المرشحين المنافسين.
التفسير الذي أميل إليه لنتائج الدور الأول من الرئاسيات الفرنسية، أن حالة اللايقين الي تعاظمت في فرنسا بسبب التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وبسبب تنامي أزمات الأمن الغذائي والأمن الطاقي والأمن الدفاعي، ومراوحة المشاريع الاقتصادية الإقلاعية للمكان بسبب تواتر الأزمات العالمية (الجائحة، ثم الحرب الروسية على أوكرانيا)، كل ذلك، يدفع في الواقع لتنامي تيارات التطرف اليميني واليساري، وأن ما يبرر تصدر ماكرون لهذا الدور ليس برنامجه الانتخابي ولا حتى عرضه السياسي أو الاقتناع بتدبيره السابق كرئيس للبلاد، ولكن ما يبرر ذلك في الحقيقة، هو وجود فئة وسط داخل المجتمع الفرنسي، وربما أيضا داخل بنية الدولة وأجهزتها الأمنية، وفي الأوساط الاقتصادية والإعلامية، تتخوف من أن تستثمر هذه التيارات المتطرفة منطقة اللايقين، وتدفع بفرنسا نحو المجهول.