فشل “المشروع الحداثي” في المغرب

فشل “المشروع الحداثي” في المغرب
هوية بريس – متابعات
في ظل التغيرات الاجتماعية والثقافية التي يشهدها المغرب، وتنامي تأثير النماذج الغربية على المجتمع، تبرز أسئلة ملحة حول الحداثة المستوردة، والهوية الوطنية، والقيم الدينية والأخلاقية.
كيف يمكن للمجتمع المغربي أن يحافظ على توازنه بين التطور والتمسك بالمرجعيات الثقافية والدينية؟
وما دور النخب الفكرية والسياسية والإعلامية في هذا السياق؟
للإجابة على هذه التساؤلات، استضفنا في هذا الحوار كلا من الدكتور محمد طلال لحلو: أستاذ جامعي وخبير مالي والأستاذ إبراهيم الطالب: صحفي وإعلامي وباحث في التاريخ المغربي.
في هذا الحوار، نسلط الضوء على التحديات التي تواجه المجتمع المغربي في ظل الحداثة المستوردة، ونناقش آثارها على الأسرة، والتعليم، والحقل الديني، والقيم المجتمعية، بالإضافة إلى دور النخب الفكرية والإعلامية في حماية الهوية والمجتمع.
بداية، دعونا نفهم ما المقصود بالحداثة في السياق المغربي المعاصر، وكيفية انعكاسها على المجتمع. د. لحلو، ما تفسيركم للحداثة كما تُمارس اليوم في المغرب؟
الحداثة كتحول ثقافي وفكري
د. محمد طلال لحلو: الحداثة الغربية غالبًا ما تُفهم كثورة على المقدس، والمقصود بالمقدس عندنا هو الدين الذي يؤطر القيم والأخلاق. لكن الحداثة الغربية دخلت المغرب كنموذج هجين يجمع بين الاستهلاك الثقافي والفردية المطلقة أحيانًا، مما يؤدي إلى تفكيك القيم التقليدية.
في القرن العشرين، نرى أن أوروبا شهدت تحولات اجتماعية واسعة: المرأة خرجت إلى العمل والمصانع، الحجاب تراجع، وأصبح هناك قبول لعلاقات اجتماعية وجنسية كانت محرمة سابقا. هذا النموذج، حين يُستورد للمغرب، لا يأخذ في الاعتبار السياق الديني والاجتماعي الخاص بنا، بل يُفرض بطريقة غير متدرجة، ما يخلق صدمة ثقافية كبيرة.
كيف يبدو أثر هذه الحداثة على الممارسة اليومية؟
ذ. إبراهيم الطالب: الحداثة أصبحت علامة تجارية، تدخل المجتمعات دون مقاومة، مستهدفة الفرد والأسرة والمجتمع بشكل عام. في المغرب، تُفرض هذه الحداثة على الحقل الديني والثقافي والأخلاقي.
مثلاً، عندما ننظر إلى السينما والفنون، نجد أن كثيرًا من الإنتاج مستورد أو ممول من شركات تبحث عن الربح، ولا يهتم بتقوية القيم أو الأخلاق، بل بإشباع رغبات الجمهور السطحية. والنتيجة: انفكاك تدريجي للأسرة، وتراجع الانضباط الاجتماعي، وتآكل الهوية المحلية.
الفن والإعلام كأدوات للتطوير القصري
ذكرت أن الحداثة الغربية هي ثورة على المقدس. ما انعكاس ذلك على الفنون والإعلام؟
د. محمد طلال لحلو: الفن والإعلام أصبحا أدوات فعالة لإعادة صياغة المجتمع وفق منظور خارجي. المهرجانات، والسينما، والإعلانات تُظهر نموذج حياة فردية، بعيدا عن الأخلاق والتقاليد. الفنون لم تعد مجرد تعبير عن الإبداع، بل أداة للتطوير القصري، أي فرض قيم ومفاهيم جديدة على المجتمع بطريقة غير طبيعية.
حتى الأفلام المغربية الحديثة، التي تمولها بعض المؤسسات، تعكس هذا الاتجاه: التركيز على الفردية، العلاقات العاطفية المتحررة، والسلوكيات المستوردة من أوروبا، دون تقديم رؤية متكاملة للقيم المحلية.
إبراهيم الطالب: مثال عملي: مهرجان “موازين” يستقطب جمهورًا كبيرًا، لكنه يروج أحيانًا لموسيقى وأفكار تشجع على التمرد الفردي والتطرف في السلوكيات اليومية. الجمهور، خاصة الشباب، يُقبل على هذه القيم من دون نقد، ما يؤدي إلى تراجع الهوية الاجتماعية. الشركات تبحث عن الربح فقط، والمهرجانات أصبحت منصة لتسويق هذه القيم بدل أن تكون مساحة تعليمية أو ثقافية.
الحقل الديني تحت ضغط الحداثة
ما انعكاسات هذه الحداثة على الحقل الديني؟
إبراهيم الطالب:
عندما نتحدث عن الحقل الديني اليوم، نجد أنه يمر بحالة مزرية نوعا ما. قد لا يرضى الوزير أو بعض الأطراف بذلك، لكن كإعلاميين ومنتجي فكر، علينا عرض الواقع كما هو.
فالعقل الديني يعيش ضغطا كبيًا ليتجنب أي تعارض مع المخرجات العلمانية في المغرب، ذلك أن الدين في كثير من جوانبه يتنافى مع القوانين العلمانية التي أسسها الاستعمار لإدارة الدولة الحديثة. هذا التناقض يفرض على وزارة الأوقاف ضبط حرية التفكير الديني، وهو ما نشهده اليوم.
العالم الديني في المؤسسات الرسمية يجد نفسه مكبّلا، لأنه إذا تناول موضوعا مثل الربا أو القروض المتوسطة، سيؤدي ذلك إلى اضطراب السوق المالي، بينما لا يمكن السماح له بالنقد أو الخروج عن الخطوط المرسومة، حتى لو تعلق الأمر بالقروض الصغيرة. هذا ما يولّد لدى العلماء شعورا بالاضطهاد، نتيجة التناقض بين المرجعية العلمانية والمرجعية الإسلامية، وهي المرجعية الأصلية في البلاد.
العالم مضطر اليوم إما لأن يمارس الرقابة الذاتية ويصمت ليبقى في منصبه، أو أن يخاطر بالتدخل من داخل المؤسسات، مما قد يؤدي إلى عزله. هناك أمثلة على ذلك، مثل أحد خطباء مسجد في الرباط، الذي تحدث عن العقوبات الإلهية، فاتصل وزير حضر خطبته بوزير الأوقاف والشؤون الإسلامية؛ فأقيل على الفور. ليتضح من ذلك أن العلمانية نافذة بقوة في القرارات الرسمية، وهو ما يفرض على الحقل الديني استمرار هذه المعاناة.
ولكي نخرج من هذا التناقض ومن هذا القهر الذي يعانيه العقل الديني، يجب معالجة مشكلة التناقض المرجعي في المغرب. فعقود من العمل بهذه القوانين والمواثيق أنتجت واقعا صادما على الأرض، إذ نجد، على سبيل المثال، أن هناك حوالي 24 طفلا يتخلى عنهم يوميا في المغرب، وتراجع معدلات الزواج، وارتفاع نسب الطلاق، وانخفاض الخصوبة، وتهديدا للهرم السكاني بالشيخوخة، وهو ما يعكس أبعادا اجتماعية خطيرة مرتبطة بمخرجات المشروع الحداثي.
تأثير الحداثة على الفرد والمجتمع
ما تأثير الحداثة على القيم الأخلاقية والاجتماعية؟
د. محمد طلال لحلو: الفردية المطلقة والحرية غير المقيدة تؤدي إلى تفكك الأسرة، وارتفاع نسب الطلاق، وانخفاض معدلات الزواج، وتراجع الخصوبة، فيصبح بذلك المجتمع أقل ترابطا، والقيم المشتركة تتلاشى تدريجيا.
إحصاءات حديثة تشير إلى أن أكثر من 24 ألف طفل يتخلى عنهم آباؤهم يوميا في المغرب، و5000 طفل متروك بشكل دائم، وهذا ليس مجرد رقم، بل انعكاس لمجتمع يعيش انفكاكا أخلاقيا واضحا.
إبراهيم الطالب: المؤسسات الثقافية والإعلامية تعزز هذه الاتجاهات، إذ التعليم نفسه يفتقر إلى المحتوى القيمي، بينما النخب الحاكمة، التي تُعد المرجع الفكري والاجتماعي، تركز على الجانب الاقتصادي والسياسي فقط، متجاهلة التربية الأخلاقية والدينية، والنتيجة هي شباب يعيشون في فراغ فكري وقيمي، معرضون لتبني أنماط حياة مستوردة.
التعليم والنخب بين الفراغ والفهم المحدود
كيف تؤثر النخب والتعليم على مواجهة هذه التحديات؟
د. محمد طلال لحلو: التعليم يمثل جزء أساسيا من المشكلة. كثير من النخب لا تمتلك تكوينا دينيا أو أخلاقيا، ما يخلق فراغا في الرؤية المجتمعية. عشرات البرلمانيين لم يكملوا حتى التعليم الثانوي، والبعض منهم تخصص في الاقتصاد أو العلوم الاجتماعية دون أي صلة بالقيم الأخلاقية أو الدينية.
هذا الفراغ يجعل النخب عاجزة عن صياغة سياسات مجتمعية متكاملة، وتصبح أدوات لتنفيذ مشاريع خارجية، أو مشاريع الحداثة المستوردة، بدل أن تكون حامية للهوية والقيم.
إبراهيم الطالب: التأثير يمتد أيضا إلى الإعلام والفن. الجمهور وخاصة الشباب، يُجبر على تقبل نماذج سلوكية غربية، ومؤسسات الثقافة والإنتاج الفني تركز على الربح أكثر من القيم، ما يزيد هشاشة المجتمع ويضع مستقبل الأسرة والطفولة في خطر.
مواجهة الانفكاك: دور النخب والفكر المستقل
ما دور النخب الفكرية والسياسية في مواجهة الانفكاك المجتمعي؟
د. محمد طلال لحلو: النخب مطالبة بإعادة النظر في المرجعيات الفكرية والاجتماعية والثقافية، وتحليل آثار الحداثة على المجتمع المغربي بشكل علمي وموضوعي. يجب تقديم حلول عملية تحمي الهوية والقيم، بعيدا عن الصراعات الفارغة. الحوار والفكر المستقل هما
السبيل للحفاظ على المجتمع من الانفكاك الكامل.
إبراهيم الطالب: الإعلاميون والممارسون يجب أن يكونوا واعين بتداعيات الحداثة المستوردة. والنقاش الحقيقي يجب أن يكون فكريا، بعيدا عن العنف، لتحقيق التوازن بين الحداثة والهوية، وبين الفرد والمجتمع، وبين التطور والقيم الأصيلة.
التحذير من التداعيات الخارجية
ما أبرز التحديات التي يفرضها المحيط الدولي على المجتمع المغربي؟
إبراهيم الطالب: هناك عدة تحديات وتهديدات، منها دخول رأس المال الأجنبي والشركات الكبرى، والهجرة الإفريقية، وفرض نماذج ثقافية خارجية. هذه الأمور تُحدث اختراقات كبيرة في الاقتصاد والمجتمع، وقد تهدد النسيج الديني والهوياتي عند المغاربة.
والأرقام تشير إلى زيادة الهجرة الاقتصادية إلى المغرب، ومعها انتشار ممارسات ثقافية غير متوافقة مع قيم المجتمع. هذا يتطلب مراجعة سياسات الإدماج والهجرة، وضمان حماية الهوية المحلية.
د. محمد طلال لحلو: هذه التحديات ليست مجرد تهديد اقتصادي، بل ثقافي وفكري. والحداثة المفروضة أحيانا تسعى لتفكيك القيم الاجتماعية، وهذا ما يجعل النقاش حول الهوية والمجتمع ضرورة ملحة.
الوعي والمراجعة كخيار استراتيجي
في الختام، ما الرسالة التي توجهونها للمجتمع المغربي والنخب الفكرية؟
د. محمد طلال لحلو: يجب على النخب إعادة النظر في المرجعيات والقيم، والدفاع عن الهوية والتاريخ. النقاش يجب أن يكون فكريا وهادفا، ويوازن بين الحداثة والتقاليد.
إبراهيم الطالب: نحن مطالبين بتقديم رؤية نقدية، تعزز القيم والثوابت المحلية، وتوعي الجمهور بمخاطر الحداثة المستوردة، والنقاش العقلاني والفكري هو السبيل للحفاظ على الهوية المغربية والمجتمع المتماسك.
شكرا لكم، د. محمد طلال لحلو وذ. إبراهيم الطالب، على هذا الحوار الشامل الذي أعطانا رؤية متكاملة عن الحداثة المستوردة، وتأثيراتها على المجتمع المغربي، ودور النخب والممارسين في مواجهة هذا التحدي.



