فضل طلب العلم ومسؤولية طالبه ومعلمه
هوية بريس – د. لحسن وعكي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي خلق الإنسان وعلمه البيان ،وافتتح تنزيله بالأمر بالقراءة في قوله تعالى:﴿اقْرَأْبِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾.والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، معلم الناس الخير، وقدوة المعلمين،وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته وسلك طريقه إلى يوم الدين.
أما بعد، فقد وردت في فضل العلم آيات كثرة وأحاديث جمة، من ذلك َقَوْله تَعَالَى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَآمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَاتَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ فالمرء يرتفع قدره بأمرين: بإيمانه أولا، ثم علمه ثانيا. وَقَوْله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ فقد أمر الله تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام بطلب الزيادة في العلم، وفي ذ لك دلالة على أفضلية العلم وطلبه، ومنها قوله تعالى:﴿إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْعِبادِهِ الْعُلَماءُ﴾. والآية تعبير عن التنويه بأهل العلم والإيمان، كما تدل بالالتزام على أن غير العلماء لاتتأتى منهم خشية الله…. ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قُلْهَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَايَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾، قال المفسرون: الاستفهام في الآية مستعمل في الإنكار. والمقصود: إثبات عدمالمساواة بين الفريقين، وعدم المساواة يكنى به عنالتفضيل. والمراد: تفضيل الذين يعلمون على الذين لايعلمون، كقوله تعالى:﴿ لَا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَالْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِبِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ﴾، وَلِهَذَا كَانَنَفْيُ الِاسْتِوَاءِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَبْلَغُ مِنْ نَفْيِ الْمُمَاثَلَةِ فِيقَوْلِ النَّابِغَةِ:
يُخْبِرُكَ ذُو عِرْضِهِمْ عَنِّي وَعَالِمُهُم ... وَلَيْسَ جَاهِلُشَيْءٍ مِثْلَ مَنْ عَلِمَ
وفي الآية كذلك تنبيه عظيم على فضيلة العلم.
ويؤكد أهمية العلم وفضله ذكره وورود لفظه في القرآن الكريم في ثمانين موضعا من سور وآيالقرآن الكريم.
ومن الأحاديث التي جاءت في فضل العلم وطلبه ما روي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ سَلَكَ طَرِيقًايَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ“.فطلب العلم مسلك وطريق إلى الجنة، كما أن الاشتغال بطلب العلم يعدل الجهاد في سبيل الله، عَنْ أَنَسِ بْنِمَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْخَرَجَ فِي طَلَبِ العِلْمِ فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ حَتَّى يَرْجِعَ“.
وفي فضل العلم يقول عليه الصلاة والسلام: ” فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل منأصحابي“، وفي رواية بلفظ: ” كفضلى علىأدناكم“.
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُاللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ غَدَا لَعِلْمٍ يَتَعَلَّمُهُ سَهَّلَاللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ وَفَرَشَتْ لَهُ الْمَلَائِكَةُ أَجْنِحَتَهَاوَصَلَّتْ عَلَيْهِ حيتَانُ الْبَحْرِ وَمَلَائِكَةُ السَّمَاءِ، وَلِلْعَالِمِعَلَى الْعَابِدِ مِنَ الْفَضْلِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَىسَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْيُوَرِّثُوا دِرْهَمًا وَلَا دِينَارًا، وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَبِهِ أَخَذَ بِالْحَظِّ الْوَافِرِ وَمَوْتُ الْعَالِمِ مُصِيبَةٌ لَا تُجْبَرُ،وَثَلْمَةٌ لَا تُسَدُّ، وَنَجْمٌ طُمِسَ وَمَوْتُ قَبِيلَةٍ أَيْسَرُ مِنْ مَوْتِعَالِمٍ».
وَعَن أبي أُمَامَة قَالَ: ذُكر لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِوَسلم رجلَانِ أَحدهمَا عَابِد وَالْآخر عَالم، فَقَالَ عَلَيْهِأفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام: “فضل الْعَالم على العابدكفضلي على أدناكم ثمَّ قَالَ: رَسُول الله صلى اللهعَلَيْهِ وَسلم إِن الله وَمَلَائِكَته وَأهل السَّمَوَات وَالْأَرْضحَتَّى النملة فِي جحرها وَحَتَّى الْحُوت ليصلون علىمعلم النَّاس الْخَيْر“، وفي رواية البزار من حَدِيثعَائِشَة مُخْتَصرا قَالَ: “معلم الْخَيْر يسْتَغْفر لَهُ كلشَيْء حَتَّى الْحيتَان فِي الْبَحْر“.
والاشتغال بالعلم أفضل من عباد التطوع، ويرفع المشتغل به إلى درجة الشهداء، رُوِيَ عَن أبي ذَروَأبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا: “لبابيتعلمه الرجل أحب إِلي من ألف رَكْعَة تَطَوّعا“ وَقَالا: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: “إِذا جَاءَ الْمَوْتلطَالب الْعلم وَهُوَ على هَذِه الْحَالة مَاتَ وَهُوَ شَهِيد” وفي رواية الطبراني في الأوسط:” خير لَهُ من ألفرَكْعَة“.
وَعَن أبي الدَّرْدَاء قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلىالله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: “من غَدا يُرِيد الْعلم يتعلمه للهفتح الله لَهُ بَابا إِلَى الْجنَّة وفرشت لَهُ الْمَلَائِكَة أكنافهاوصلت عَلَيْهِ مَلَائِكَة السَّمَوَات وحيتان الْبَحْر وللعالممن الْفضل على العابد كَالْقَمَرِ لَيْلَة الْبَدْر على أَصْغَركَوْكَب فِي السَّمَاء وَالْعُلَمَاء وَرَثَة الْأَنْبِيَاء إِن الْأَنْبِيَاء لميورثوا دِينَارا وَلَا درهما وَلَكنهُمْ ورثوا الْعلم فَمن أَخذهأَخذ بحظه وَمَوْت الْعَالم مُصِيبَة لَا تجبر وثلمة لَا تسدوَهُوَ نجم طمس موت قَبيلَة أيسر من موت عَالم“.
والاشتغال بالعلم أفضل من الغزو في سبيل الله،روى الخطيب عن أبي هريرة قال: لأن أعلم باباً منالعلم في أمر أو نهى أحب إليّ من سبعين غزوة فيسبيل الله.
كما أن الخير منحصر في المتعلم والمعلم دون سواهما، عَنْ، الْأَعْمَشِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ،قَالَ: قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: «مُعَلِّمُ الْخَيْرِ وَالْمُتَعَلِّمُ فِي الْأَجْرِسَوَاءٌ، وَلَيْسَ فِي سَائِرِ النَّاسِ خَيْرٌ بَعْدُ» .
وطلب العلم سبب خشية الله تعالى، وهوعبادة لله،وتسبيح له، وجهاد في سبيله، وتعليمه صدقة وقربة،عَن معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم: »تعلمُوا الْعلم فَإِن تعلمه للهخشيَة، وَطَلَبه عبَادَة، ومذاكرته تَسْبِيح، والبحث عَنهُجِهَاد، وتعليمه لمن لَا يُعلمهُ صَدَقَة، وبذله لأَهله قربَة،لأنه معالم الْحَلَال وَالْحرَام ومنار سبل أهل الْجنَّة،وَهُوَ الأنيس فِي الوحشة والصاحب فِي الغربةوالمحدث فِي الْخلْوَة وَالدَّلِيل على السَّرَّاء وَالضَّرَّاء،وَالسِّلَاح على الْأَعْدَاء والزين عِنْد الأخلاء، يرفع الله بِهِأَقْوَامًا فيجعلهم فِي الْخَيْر قادة قَائِمَة تقتص آثَارهمويقتدى بفعالهم وينتهى إِلَى رَأْيهمْ، ترغب الْمَلَائِكَة فِيخلتهم وبأجنحتها تمسحهم، ويستغفر لَهُم كل رطبويابس وحيتان الْبَحْر وهوامه وسباع الْبر وأنعامه،لِأَن الْعلم حَيَاة الْقُلُوب من الْجَهْل ومصابيح الْأَبْصَارمن الظُّلم يبلغ العَبْد بِالْعلمِ منَازِل الأخيار والدرجاتالعلى فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، التفكر فِيهِ يعدل الصّيام،ومدارسته تعدل الْقيام، بِهِ توصل الْأَرْحَام، وَبِه يعرفالْحَلَال من الْحَرَام، وَهُوَ إِمَام الْعَمَل، وَالْعَمَل تَابعه،يلهمه السُّعَدَاء ويحرمه الأشقياء «.
– ما يلزم طالب العلم ومعلمه:
إن ما يلزم طالب العلم ومعلمه أمور كثيرة يصعب حصرها، غير أن ذلك ليس مسوغا لتركها البتة، والمناسب أن نقول بعض ما يلزم طالب العلم ومعلمه، وأقصد المتعلم في كل مراحل تعلمه، والمعلم المدرس للعلم في كل المراحل والمستويات والأسلاك، وتلك الأمور منها ما يلزم المتعلم ومعلمه معا، ومنها ما يلزم طالب العلم بمفرده ، ومنها ما يخص معلم العلم،وهي ما عبرت عنه بمسؤولية الطالب والمعلم قبل، من ذلك:
ـ إخلاص النية في طلب العلم:
قال تعالى:﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُالدِّينََ﴾ ، قال المفسرون: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين والإخلاص عبارة عن النية الخالصة، وَالنِّيَّةُ الْخَالِصَةُ لَمَّا كَانَتْ مُعْتَبَرَةً كَانَتِالنِّيَّةُ مُعْتَبَرَةً . وعن عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَاللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الأَعْمَالُ بِالنِّيَّةِ،وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِوَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْهِجْرَتُهُ لدُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُإِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ »، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِوَسَلَّمَ: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّوَجَلَّ لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا، لَمْيَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (يَعْنِيرِيحَهَا).فهذه النصوص من القرآن والسنة تدل على أهمية وخطورة النية في كل الأمور عامة والعلم على وجه الخصوص، في مرحلتيالتحصيل والطلب، والتعليم والتدريس معا، وهو أمر يجتمع في المتعلم والمعلم، ومما يلزمهما العناية به. وينبغي أن يقصدا في ذلك وجه الله تعالى.
ـ التواضع:
من الأمور التي تلزم طالب العلم ومعلمه كذلك التواضع، والمراد به التنزل عن المرتبة لمن يرادتعظيمه وقيل: تعظيم من فوقه فضله . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «… وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌلِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ». فوجب التواضع في كل الأمور ومع كل الناس ويزداد الأمر لزوما في طلب العلم ومع المعلم والشيخ، رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة رَضِيالله عَنهُ قَالَ: قَالَ: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِوَسلم:” تعلمُوا الْعلم وتعلموا للْعلم السكينَةوَالْوَقار وتواضعوا لمن تعلمُونَ مِنْهُ “ وقد ثبت عن رسول الله صلى لله علية وسلم أن من علامات النفاق الاستخفاف بأهل العلم، عَن أبي أُمَامَةعَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: “ ثَلَاثلَا يستخف بهم إِلَّا مُنَافِق ذُو الشيبة فِي الْإِسْلَاموَذُو الْعلم وَإِمَام مقسط“، ومن الأمور التي خاف رسول الله على أمته منها إضاعة أهل العلم،َرُوِيَ عَن أبي مَالك الْأَشْعَرِيّ أَنه سمع النَّبِيصلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: لَا أَخَاف على أمتِيإِلَّا ثَلَاث خلال أَن يكثر لَهُم من الدُّنْيَا فيتحاسدواوَأَن يفتح لَهُم الْكتاب يَأْخُذهُ الْمُؤمن يَبْتَغِي تَأْوِيلهوَمَا يعلم تَأْوِيله إِلَّا الله والراسخون فِي الْعلميَقُولُونَ آمنا بِهِ كل من عِنْد رَبنَا وَمَا يذكر إِلَّا أولوالْأَلْبَاب ( آل عمرَان 7) وَأَن يرَوا ذَا علم فيضيعوهوَلَا يبالوا عَلَيْهِ“. وقال الطبري: في التواضع مصلحة الدين والدنيا. فإن الناس لو استعملوه في الدنيا لزالت بينهم الشحناء ولا استراحوا من تعب المباهاة والمفاخرة…، ومن التواضع إذا سئل صاحب العلم عن شيء لا يعلمه أن يقول لا أدري ،عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ، مُسْلِمٍ، عَنْ، مَسْرُوقٍ،قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ” إنَّ مِنَ الْعِلْمِ أنْ يَقُولَ الَّذِيلَا يَعْلَمُ: اللَّهُ أَعْلَمُ “،والتواضع من أفضل العبادات التي يغفل الناس عنها،عن عائشة –رضي الله عنها– قالت:“إنكم لتغفلون؛ أفضلالعبادة: التواضع“ . وعن أنس بن مالك قال: قالرسول الله صلى الله عليه وسلم:“ما من آدمي إلاوفي رأسه حكمةٌ بيد ملك، فإن تواضع رفعه،وقال: ارتفع رفعك الله، وإن ارتفع قال له: اخفضخفضك الله“ .
وبالتواضع يترك الإنسان المراء والجدال، ويقصد وجه الله ويكون عمله وعلمه مفيدا ونافعا بإذن الله تعالى. ويدل على التواضع أن يأخذ عمن فوقه ومن دونه، وعمن يكبره، ومن هو أقل منه سنا، ومن في سنه. ولا تصرفه هذه الاعتبارات عن المقصد الأسمى وهو طلب العلم وتحصيله، روي عَنْ عَلِيٍّ ـ رضي الله عنه ـ أَنَّهُقَالَ فِي كَلَامٍ لَهُ: «الْعِلْمُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَخُذُوهُ وَلَوْمِنْ أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ وَلَا يَأْنَفْ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْخُذَالْحِكْمَةَ مِمَّنْ سَمِعَهَا مِنْهُ».
ـ بعض ما يلزم طالب العلم: إن ما يلزم طالب العلم أمور كثيرة كما تقدم، منها:
ـ اجتناب الحياء في العلم:
الحياء مانع من موانع التعلم وهو قرين الكبر في الحرمان من التعلم، سواء بسواء، وقد بوب الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في صحيحه : باب الحياء في العلم، وأورد فيه بسنده وقال: قَالَ مُجَاهِدٌ: «لاَ يَتَعَلَّمُالعِلْمَ مُسْتَحْيٍ وَلاَ مُسْتَكْبِرٌ» وَقَالَتْ عَائِشَةُ ـ رضي الله عنهاـ: «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعْهُنَّالحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ» وقد مدحت أمنا عائشة ـ رضي الله عنها ـ نساء الأنصار لجرأتهن في السؤال وعدم الحياء في العلم، وفي رواية دعت لهن بالرحمة، ومفاد ذلك كله التنويه والتشجيع واستحسان أمرهن في طلب العلم، وتركهن للحياء في هذا المجال لأنه ليس محله. فإنه لا ينبغي لطالب العلم أن يسكت عن شيء يجهله لا تكبرا ولا حياء،قال – صلى الله عليه وسلم –: “لا ينبغي للجاهل أنيسكت على جهله ...“. ولابد من إشارة لطلاب العلم والمشتغلين به فيما يتعلق بالسؤال أنه ينبغي أن يكون للتعلم ولأجله وأن يكون القصد حسنا، وألا يراد به التعجيز والاستفزاز واختبار المعلم، فهذا ليس من أخلاقيات التعلم البتة، ولا من شيم المتعلمين بالإطلاق.
ـ استغلال فترة الصغر والشباب للتعلم:
مما يجب على طالب العلم فعله استغلال فترة الصغر والشباب عموما في تحصيل العلم وطلبه، لما لهذه المرحلة العمرية من الأهمية خصوصا في هذه الناحية، عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَهُوَ شَابٌّكَانَ كَوَشْمٍ فِي حَجَرٍ، وَمِنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ بَعْدَمَا يَدْخُلُفِي السِّنِّ كَانَ كَالْكَاتِبِ عَلَى ظَهْرِ الْمَاءِ»، وعَنْ عَلْقَمَةَ،قَالَ: “مَا سَمِعْتُهُ وَأَنَا شَابٌّ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ فِيقِرْطَاسٍ أَوْ وَرَقَة “. وقال أَبُو عَبْدِ اللَّهِ نَفْطَوَيْهِ: [البحرالطويل]
أَرَانِيَ أَنْسَى مَا تَعَلَّمْتُ فِي الْكِبَرْ … وَلَسْتُ بِنَاسٍ مَاتَعَلَّمْتُ فِي الصِّغَرْ
وَمَا الْعِلْمُ إِلَّا بِالتَّعَلُّمِ فِي الصِّبَا … وَمَا الْحِلْمُ إِلَّابِالتَّحَلُّمِ فِي الْكِبَرْ
وَلَوْ فُلِقَ الْقَلْبُ الْمُعَلَّمُ فِي الصِّبَا ... لَأُلْفِيَ فِيهِ الْعِلْمُكَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرْ
وَمَا الْعِلْمُ بَعْدَ الشَّيْبِ إِلَّا تَعَسُّفٌ ... إِذَا كَلَّ قَلْبُ الْمَرْءِوَالسَّمْعُ وَالْبَصَرْ
وَمَا الْمَرْءُ إِلَّا اثْنَانِ عَقْلٌ وَمَنْطِقٌ ... فَمَنْ فَاتَهُ هَذَا وَهَذَافَقَدْ دَمَرْ.
ـ كتابة العلم:
ومما يلزم طالب العلم والمشتغلين به كتابة العلم.وتقييده،لأن ذلك وسيلة من الوسائل التي تعين على حفظه واستيعابه، كما أنها تعين على المذاكرة، عن وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، عَنْ أَخِيهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ،يَقُولُ: «مَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَأَحَدٌ أَكْثَرَ حَدِيثًا عَنْهُ مِنِّي، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِعَمْرٍو، فَإِنَّهُ كَانَ يَكْتُبُ وَلاَ أَكْتُبُ». وكَانَ أَنَسٌ، يَقُولُ: لِبَنِيهِ:“يَا بَنِيَّ قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ“ ،وعن ابْنِ عَبَّاسٍقَالَ: “قَيِّدُوا الْعِلْمَ بِالْكِتَابِ، مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي عِلْمًابِدِرْهَمٍ؟“.وحث بعض أهل العلم على كتابة ما يسمعه الطالب ولو على الحائط، وهو غاية في الحث على كتابة العلم، عَنْ أَبِي كِيرَانَ، قَالَ: ” سَمِعْتُ الشَّعْبِيَّ،قَالَ: «إِذَا سَمِعْتَ شَيْئًا فَاكْتُبْهُ وَلَوْ فِي الْحَائِطِ».
ـ التفرغ لطلب العلم:
ومما يلزم طالب العلم التفرغ للطلب والتحصيلوعدم الاشتغال بغيره، وما يستلزم ذلك من التحملوالصبر، قال الشاعر:
وَلْيَغْدُ فِي تَعَبٍ يَرُحْ فِي رَاحَةٍ ... إِنَّ الْأُمُور مريحهاكالمتعب
ومثل بعضهم العلو في المكارم بالصعود فِي الثَّنَايَاوَالْقللِ، ولا يكون ذلك إلا بشق النفس. ورتبة الأديبمن أعلى الرتب، ودرجة العلم أشرف الدَّرَجِ، فمن أرادمداولتها بالدعة وطلب البلوغ إليها بالراحة كانمخدوعا، قال الجاحظ: “الْعِلمُ عَزِيزُ الْجَانِبِ، لَايُعْطِيكَ بَعْضَهُ حَتَّى تُعْطِيهِ كُلَّكَ، وَأَنْتَ إِذَا أَعْطَيْتَهُ كُلَّكَكُنْتَ مِنْ إِعْطَائِهِ إِيَّاكَ الْبَعْضَ عَلَى خَطَرٍ“.
ـ بعض ما يلزم معلم العلم: تقدم من ذلك الإخلاص، والتواضع، إضافة إلى:
ـ نشر العلم وعدم كتمانه:
من الأمور التي تلزم العالم أو من علمه الله علماأن ينشره ويعلمه غيره، وأن لا يكتمه، ففي نشره فضل كبير ، بل إن العلم يزكو بإنفاقه، كما أن كتمانه مذموم ويعرضه للنسيان نعوذ بالله، عَنْ صَالِحِ بْنِخَبَّابٍ، عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: «عِلْمٌ لَايُقَالُ بِهِ كَكَنْزٍ لَا يُنْفَقُ مِنْهُ» ، وعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قال في قوله تعالى: ﴿يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ﴾،قَالَ «هَذَا مِنَ الْعِلْمِ»، بل إن رسول الله ـ صلى الله وسلم ـ توعد من كتم علما نافعا بلجام من النار يوم القيامة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍفَكَتَمَهُ أَلْجَمَهُ اللَّهُ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».وكما لا ينبغي لطالب العلم أن يسكت على جهله، بل ينبغي أن يكون سؤولا، كذلك لا ينبغي للعالم ومن في مقامه من المدرسين أن يسكت على علمه، قال – صلى اللهعليه وسلم – :” لا ينبغي للجاهل أن يسكت علىجهله ولا للعالم أن يسكت على علمه“.
ـ رحمة المتعلم:
ينبغي للمعلم المدرس للعلم أن يكون رحيما بطلبته ومن يتعلمون منه، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَوَتَعَلَّمُوا لَهُ السَّكِينَةَ وَالْوَقَارَ وَتَوَاضَعُوا لِمَنْ تَتَعَلَّمُونَ مِنْهُوَلِمَنْ تُعَلِّمُونَهُ وَلَا تَكُونُوا جَبَابِرَةَ الْعُلَمَاءِ». ولا بد للمربي المدرس هنا أن يكون حكيما، وأن يميز بين الرحمة والضعف، وبين الصرامة والعنف، ومن مقتضى الحكمة أن لا يجعل التلاميذ على وزان واحد، كما عبر بذلك العلامة الشاطبي رحمه الله، فكل طالب والسلوب الذي يجدي معه في التنبيه والتوجيه، فمن المتعلمين من يفهم الليونة والعطف والمرونة ضعفا فيتمادى في غيه وانحرافه، حتى صار بعضهم يفهمويتصور أن الأستاذ الصارم والنزيه والجاد عنيف وغير رحيم. وهو تصور خاطئ يحتاج إلى تقويم.
ـ المساواة والعدل بين المتعلمين:
وهذا يستوعب العملية التربوية ولا سيما التدريس بحيث يوزع المدرس نظراته بين المتعلمين، ويتيح لهم فرصة التعلم بالتساوي، ويشملهم بالتحفيز،ويشعرهم باهتمامه بعدل ومساواة، دون تمييز بينهم،إذ التمييز لغير مسوغاته ودواعيه المعتبرة من المثبطات، وقد يكون من الصوارف التي تصرف الطالب عن العلم، وتعرضه للضياع والحرمان نعوذ بالله، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، قَالَ: «مِنَ السُّنَّةِ إِذَاحَدَّثَ الرَّجُلُ الْقَوْمَ أنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَلَا يَخُصُّأَحَدًا دُونَ أَحَدٍ».
وفي ختام هذه الدراسة المتواضعة أقول هي كلمات الغاية منها تذكير إخواني وزملائي طلبة العلم ومدرسيه بشرف وفضل الاشتغال بالعلم طلبا وتحصيلا ونشرا وتدريسا، في الدنيا والآخرة، وبعض ما يلزم طالب العلم ومعلمه لتحقيق المراد من عملهما، ولا يخفى ما تتضمنه الدراسة من التحفيز والحث على طلب العلم والتنويه بأهله. فمن كانيطمح ويرغب في سمو القدر ونباهة الذكر وارتفاعالمنزلة بين الخلق، ويلتمس عزا لا تثلمه الليالي والأيامولا تتحيفه الدهور والأعوام، وهيبة بغير سلطان،وغنى بلا مال، ومنعة بغير سلاح، وعلاء من غيرعشيرة، وأعوانا بغير أجر، وجندا بلا ديوان وفرض،فعليه بالعلم، فليطلبه في مظانه، تأتيه المنافع عفوا،وليجتهد في تحصيله ليالي قلائل، ثم يتذوقحلاوة الكرامة مدة عمره، ويتمتع بلذة الشرف فيهبقية أيامه، ويستبق لنفسه الذكر به بعد وفاته.والحمد له رب العالمين.