فقهاء السلطان ليسوا كفقهاء الرحمن وابن بيه ليس كالقرضاوي
هوية بريس – محمد عوام
كتب الأستاذ محمد زاوي مقالا بهوية بريس بعنوان (لا تكثروا على الفقيه عبد الله بن بية… فهو في هذه كغيره في أخرى)، حشر فيه مغالطات كبيرة، وسوى فيه بين الحق والباطل، وجمع فيه أيضا بين فقهاء السلطان وفقهاء الرحمن في سلة واحدة. وهذه نعتبرها مجازفة وتشغيبا لا يليق بمن ينشد الحقيقة، ويحقق المناط كما زعم.
وقبل بيان ما انطوى عليه المقال من مغالطات، أود أن أقرر ما يلي:
أولا: لا ننكر وجود فقهاء عملوا تحت أحضان السلطة، وكانوا في خدمتها، كما لا ننكر سعي السلطة نفسها أن تحيط نفسها بفقهاء وعلماء، حتى تنال رضاهم، وتطمئن على مشروعيتها الدينية والسياسية، والتاريخ يشهد بذلك.
ثانيا: يشهد التاريخ بوجود فقهاء وعلماء ناضلوا وجاهدوا من أجل دينهم وأمتهم، وبذلوا الغالي والنفيس بأرواحهم تصديا للطغاة والمستبدين، ولم يفعلوا ذلك إرضاء لأحد، وإنما فعلوه من أجل نيل رضا الله تعالى والجهر بقول الحق، لأن كلمة الحق جهاد، “وخير الجهاد كلمة حق في وجه سلطان جائر”.
أما المغالطات التي وقع فيها صاحب المقال، فهي:
أولا: وقوعه في التعميم والتلبيس، وذلك حين يجعل الفقهاء إما في خدمة السلطة، وإما في خدمة جهة معينة سواء ينتمي إليها، أو يتعاطف معها، وذلك قوله: “وإنْ لم يكن تابعا لساسة الإدارة في الدولة، فإنه سيكون تابعا لا محالة لمنظري وزعماء الحركات والأحزاب في المجتمع. وهكذا، فإننا لا نحكم على رجعية الفقيه أو تقدميته إلا بتحديد مصلحة الجهة التي يخدمها.” هذا المعيار فيه مجازفة، لأنه كان ينبغي عليه أن ينظر في قول الفقيه ومواقفه صحيحة سليمة، تنصر الحق وتدافع عن المظلومين أم أنها غير ذلك. فالحق له قوة من ذاته، تعرفه الفطر السليمة، وتدركه العقول السديدة، ولا يكثر حوله الخلاف، ومثاله: لما انقلب السيسي على مرسي، وحصلت مجزرة رابعة وأحرق فيها الأبرياء والشرفاء، فلا تجد فقيها شريفا، يعرف ما عليه من المسؤولية الدينية والخلقية سيصطف مع السيسي، وينصر الانقلاب على حساب المشروعية، إلا من كان من المجانين والمرضى بالحقد والغل، وانطمست بصيرته مثل القائل “اضرب في المليان”.
ثانيا: تمزق وتشردم الأمة اليوم، وكونها طرائق قددا، وأشلاء ممزعة، ولكل واحدة من دولها قضية مصطنعة ومفبركة تكبلها عن النهوض والقومة، لا يسوغ بأي حال من الأحوال للفقهاء والعلماء والزعماء والرؤساء والملوك أن يفرطوا في مقدساتها، أو يتواطئوا مع عدوها على أراضيها وخيراتها ومقدراتها، وعلى رأس القضايا القضية الفلسطينية، وتاجها المسجد الأقصى. فهذا لا يقول به عاقل فضلا عن عالم وفقيه وزعيم شريف أبي.
ثالثا: أنك وقعت في معضلة حين سويت بين المختلفين، وجمعتهما في حكم واحد، مع اختلافهما في العلة الموجبة لذلك، وهذا عطب وتشغيب لا يليق، وهو ما دل عليه قولك “فكم من فقيه رفض أن يكون “فقيه سلطان” في وطنه، ليجد نفسه “فقيه سلطان” في بلد آخر. وكم من فقيه فرّ من “إمارة مناضلة” (مهما أخطأت وابتزّت) إلى أخرى “عميلة”، أو من “دولة عريقة” إلى أخرى “طارئة ووظيفية”. وكما ترك ابن بية “محظرات” شنقيط مستغنيا عنها بمآدب “آل نهيان وآل مكتوم”، فقد ترك آخرون المغرب وموريتانيا واليمن ومصر وتونس وسوريا… إلخ؛ مستغنين عنها بجزيل عطاء “آل ثاني”.
ولعلك تقصد بذلك الشيخ يوسف القرضاوي والدكتور أحمد الريسوني، فأما الشيخ يوسف فيكفيك أن ترجع إلى أشرطته وخطبة الجمعة التي استنكر فيها على قطر حين فتحت العلاقة مع إسرائيل، ثم أنا أدعوك لتخرج لنا فتوى من فتاويه يناصر فيها قطر على حساب قضايا الأمة، أو على حساب الدين، بل كلام الرجل واضح، ومواقفه أوضح. أما أستاذنا أحمد الريسوني فإنه يشتغل في الجامعة هناك لا علاقة له بالسلطة القطرية، ولا هو غير مواقفه بالتملق والتزلف كما يفعل غيره.
أما الشيخ ابن بية فمشكلته أنه ارتمى في أحضان الشيطان، كيف ذلك؟ أنه يعمل ضمن أجندات الإمارات التخريبية، ويسكت عن تدميرها للعالم العربي بشرائها المرتزقة، ليقاتلوا في ليبيا واليمن، ودعمها للانقلابيين في مصر، وتحريضها للمناوئين للحركة الإسلامية في تونس والمغرب وقتلها للإصلاحيين في اليمن…فلماذا يسكت الشيخ عن هذه الفظائع والجرائم، وهو في نفس الوقت يترأس منتدى تعزيز السلم والحكمة، الذي يخدم السياسة الإمرائيلية.
وختمها الشيخ ابن بية بمباركته للاتفاق الإماراتي الإسرائلي، فهل وقع واحد ممن تسويهم به فيما وقع فيه هو وأتباعه من المتزلفة والمتملقة، وهل يعقل في حقه أن يضع مسوغات للطغاة ليفرطوا في ثوابت الأمة بحجة صلاحية ولي الأمر في السياسة الشرعية موكولة إليه؟ هذا هو الفقه الذي ينشئ الاستبداد والفساد، ويفضي إلى الخراب والدمار، ويدخل الأمة في الظلمات، ظلمات الجهل والخراب.
وبهذا فليس ابن بية كالقرضاوي في مواقفه وصدعه بالحق، فالأول فيه خنوع وخشوع لذوي السلطان، ويكفي على ذلك أن الرئيس الأمريكي السابق أوباما استدل بكلامه، وفي ذلك ما فيه. والثاني مواقفه من قضايا أمته معروفة، ويمكنك أن تعرفها عبر أشرطته ومحاضراته.
وليست قطر كالإمارات، فالإمارات تعمل لصالح الأجندة الصهيونية الأمريكية، تمزيق الأمة، وتخريب عمرانها، والقضاء على الإسلام نفسه بدعم الفكر المنحرف، فدعمها لمنظمة “مؤمنون بلا حدود” لا يخفى، وبها عتاة العلمانيين المؤولة، على نهج الباطنية… أما قطر فتدعم حماس التي في الصف الأول للدفاع عن فلسطين والقدس، وتكشف المخططات الصليبية التي تبيد المسلمين، مثل ما تصنع قناة الجزيرة، ودعمت أيضا ثورات الربيع العربي التي تسميها أنت “فتنة الربيع” ثم لا تتدخل في شؤون الدول. فالربيع العربي قضي عليه بأموال سعودية وإماراتية، ولازالت الحرب مفتوحة.
وهذا هو جوهر الخلاف والفرق بين فقهاء السلطان وفقهاء الرحمن، وبين القرضاوي وابن بية، والصفوف طبعا تتمايز بتمايز المواقف من قضايا الأمة ومن هو في خدمتها، ومن هو وبال عليها ويعطلها. “وعند ربكم تختصمون” يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، ولا جاه ولا سلطة، إلا من أتى الله بقلب سليم.