فقهاء السلطان وفقهاء الأمريكان الجزء الأول: في محاذير “الجهل المركب” بعالَم الشهادة
هوية بريس – محمد زاوي
إن أشد أنواع الجهل سوءا هو “الجهل المركب”، وإن أسوأ صدقٍ هو أن يصدق الفرد في معركة غيره وخدمة لمصالح أعدائه. ولذلك، فقد بلينا بقوم نناقشهم في الخبايا والبواطن، ويلقموننا حجرا في الظواهر. ننبههم إلى أهمية “الاقتصاد السياسي” في التحليل والحكم على الوقائع والأحداث، فيواجهوننا بعقائدهم وأخلاقهم وتصوراتهم عن أنفسهم وفقهائهم. نفسّر لهم تاريخ تعاقب الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية، فيتكلمون عن أقطارهم وأوطانهم كأنها جزر تحرصها الملائكة ولا يدخلها شيطان من إنسٍ أو جنّ. نتكلم في السياسة كجغرافيا وتاريخ واقتصاد وعلاقات دولية… إلخ، فيحبون تحويل كل صراع سياسي إلى معركة بين طائفتين: كافرة ومؤمنة/ ظالمة ومظلومة/ مستبدة ومتحررة/ فاسدة وصالحة/ أهل الباطل وأهل الحق… إلخ. نقربهم من “المنهج الجدلي” كمنهج للحكم الموضوعي على المواقف والسياسات والتصريحات والأزمات وكل المستجدات، فيذكروننا بفكرة واحدة وقناعة واحدة واصطفاف واحد وموقف واحد وشيخ واحد وطائفة واحدة… إلخ.
من أجل هؤلاء، نعلن ما يلي بداية:
– التمييز بين الغيب والشهادة: فلا يحق لأحد أن يحتكر “الله وشريعة الله” لصالح رأيه وقناعته الفاسدة. فإما أن يكون “المتكلم” قادرا على الكشف عن الحقيقة في الشهادة قبل أن ينصرها بحقائق الغيب، وإما فليتركَنّ الغيب للخلوات وليتعلم من “العارفين بالطبيعة والتاريخ” كيفية الكشف عن الحقيقة في عالم الشهادة.
– التمييز بين الحقيقة في النية والحقيقة في الممارسة العملية: فالله يحاسب على النيات في عالم الغيب، ونحن نصحح أخطاء من حسنت نيته وغاب صوابه أو قلّ. ومن غير المشروع والمعقول أن نترك الأرض لذوي النيات الحسنة يفسدون فيها، وهم يظنون أنهم يصلحون فيها ولا يفسدون.
– اعتبار المفاهيم في شرطها التاريخي لا خارجه: فليس هناك حق مطلق إلا في المثال، أما الحق في الواقع فهو حق الأمس وحق اليوم وحق غدٍ وحق بعد غدٍ، وكذلك هو الأمر بالنسبة للباطل والفساد والصلاح والظلم والاستبداد والحرية… إلخ. وإننا هنا نتكلم عن حقائق التاريخ، لا عن حقائق الغيب. فالأولى متغيرة في الواقع الملموس، والثانية ثابتة في حقيقتها الغيبية متغيرة في نفوس العباد الفاعلين في هذا الواقع الملموس.
– التمييز بين المعطى كحقيقة يشتغل فيها منهج التفسير وبين المعطى كإيديولوجيا: فلسنا في حاجة إلى معطى معزول وغير مفسر هناك، لنثبت به إيديولوجيا أو سياسة رجعية هنا. وحده “العقل الجدلي” هو العقل الكاشف لكل أنواع هذا الزيف، حيث: إخفاء مصالح باطنة بخطاب سياسي أو سلوك سياسي ظاهرين، إخفاء استراتيجية بتكتيك (والعكس)، إخفاء تحالف رجعي بصراع مصطنع (والعكس)… إلخ. وهكذا، فإن التحليل لا يكون سديدا إلا باعتماد: منهج ناجع في التفسير، وكذا ما يكفي من المعطيات. وقد تكون المعطيات غير كافية، فيختبر المحلل قدرة منهجه وذاكرته التحليلية على الحدس والتوقع.
– التمييز بين الدولة والمجتمع: فالدولة جهاز وإيديولوجيا، وطن وعالم، خصوصية وعولمة، شعب يطلب نصرة “قضايا الأمة” ويطلب معها اللقمة، استقلال واستعمار، قرار سياسي واقتصاد… إلخ. الدولة إذن، هي وحدة من كل هذه التناقضات. وفيها، المجتمع الذي لا يخلو بدوره من تناقضات. إلا أنه أكثر تحررا منها، بالرغم من مراعاة حركاته وأحزابه لوحدة كل دولة واستقرارها واستمرارها(وذلك شرط من شروط وطنية هذه الأحزاب والحركات).
… إلخ.
هذه مداخل أولية لما سندلي به في هذه السلسلة، نسجّلها هنا حتى لا يناقشنا أحدٌ بعيدا عن منهجنا في التحليل وأسئلتنا في الزمن والمكان، وحتى لا ينتقد أحد تصورنا للصراع في “الوطن العربي” دون أن يتكبد عناء دراسة تاريخ وواقع الصراع في “الداخل الأمريكي”، بل ودون معرفة المقصود بعلم “الاقتصاد السياسي” قبل أي شيء آخر. العقول مراتب، ومن كان عيبه في عجزه عن فهم الواقع السياسي باعتماد المنهج الناجع والمعطيات الكافية، فلا يسترَنّ ذلك العيب بإخفاء “الخيانة اللاواعية” ب”الرحمانية”.